تحولت عمارات وسط مدينة قسنطينة أو ما يعرف بالأحياء الكولونيالية من أحياء راقية إلى تجمعات سكنية في حالة متقدمة من التدهور نتيجة نقص الصيانة وتزايد عدد ساكنيها، حيث أن الشقق ذات المساحات الشاسعة و التي تعرف بهندستها المتميزة وشرفاتها المطلة على الشوارع الرئيسية، طالتها التصدعات وهجرها الكثيرون لتؤجر إلى محامين وأطباء لا تعني لهم الفضاءات المشتركة الكثير.
ما سمي سابقا بالأحياء الأوروبية أصبح اليوم لا يختلف في معالمه عن أحياء هشة وعمارات أنجزت في الثمانينات، مداخل العمارات مظلمة الواجهات يكسوها السواد والتشققات تصنع ديكورا خارجيا وداخليا شوه الأحياء فيما دفع صخب المدينة إلى البحث عن بدائل في أطرافها لحساب المهن الحرة بينما يشدد من فضلوا البقاء على ضرورة إنقاذ ما تبقى.
تضم مدينة قسنطينة المئات من العمارات و البنايات القديمة الموروثة عن الفترة الاستعمارية و التي يرجع تاريخ تشييد معظمها إلى بداية عشرينيات و ثلاثينيات القرن الماضي، أو حتى قبل ذلك، فبعضها يعود إلى نهاية القرن 19، و قد أنشئت هذه المباني بالاستعانة بتقنيات قديمة، و بمواد لم تعد تستعمل منذ فترة طويلة، حيث لا تحتوي على الإسمنت المسلح و الحديد، و معظمها مشكلة من الحجارة الطبيعية، كما أن أجزاء كبيرة منها كالأسقف و الأرضيات و السلالم، مصنوعة من الخشب و مواد أخرى لم تعد موجودة، فيما استعمل القرميد في وضع الأسقف.
و زيادة على نوعية المواد المستعملة في البناء، تسبب قدم العمارات و تعرضها على مدار سنوات طويلة للعوامل الطبيعية و لكثافة سكانية كبيرة عبر أجيال متعاقبة، في تدهور وضعها، بما بات يدعو للقلق، فجزء كبير منها لم يخضع إلى أي ترميم منذ عقود، و اقتصرت بعض الترميمات على الإمكانات الخاصة لمالكيها، فيما خضعت العديد من البنايات لأشغال قامت بها المصالح المختصة في سنوات سابقة.
سلالم مهترئة و أسقف على وشك السقوط
من خلال جولة في شوارع وسط المدينة و حتى بعض الأحياء المجاورة، نكتشف أن مئات البنايات توجد في حالة كارثية، و باتت تشكل خطرا على قاطنيها، و يظهر ذلك من خلال وضعية السلالم المهترئة و الجدران و الأسقف المتشققة و المتصدعة، و الآيلة للسقوط في أية لحظة، حسب تأكيد قاطني هذه المباني، فشوارع كمسعود بوجريو و بلوزداد و العربي بلمهيدي و 19 جوان و زيغود يوسف و طاطاش بلقاسم و القصبة و قيطوني عبد المالك، و بعض الأنهج الأخرى، تضم الكثير من العمارات و المباني الآهلة بالسكان، غير أن حالة الكثير منها باتت غير صالحة للسكن.
و بمجرد الدخول إلى إحدى العمارات، يمكننا أن ندرك بأنه لم يسبق ترميمها و لا تزال على حالتها الأولى، بداية من حالة الأبواب الخشبية القديمة جدا وصولا إلى وضعية السلالم، فمعظم العمارات القديمة تضم سلالم مصنوعة من الخشب، الذي تأثر كثيرا بمرور الزمن، إلى درجة أن بعض العمارات التي لم يتم ترميم الدرج الخاص بها، بات الصعود إليها جد صعب، فبالإضافة إلى أنها ضيقة جدا و بالكاد تسمح بمرور شخص واحد، خاصة في أجزائها العلوية، فإنها تحتوي على تشققات و حفر و أجزاء منها مفقودة، أو مرممة بشكل غير مناسب، كما أن الجزء المخصص للأمان أو للإسناد "الدرابزين"، منكسر أو متآكل من كثرة الصدأ، زيادة على غياب التهوية أو الإنارة الخارجية، ما يجعل كل من يدخلها يشعر بضيق في التنفس.
و لاحظنا أيضا بأن الكثير من المباني متشققة و متصدعة من الداخل، و هو ما أكده معظم السكان الذين تحدثوا إلينا، كما أن الأسقف المصنوعة من الخشب في أجزائها الداخلية و من القرميد من الخارج، باتت لا تتحمل العوامل الطبيعية كالأمطار و الرياح، حيث يشتكي قاطنو هذه الأماكن من تسرب المياه، فيما لا يزال عدد من العمارات في وضعية جيدة، من خلال حالة السلالم، التي يبدو أنها أعيدت بالكامل بالإسمنت المسلح، حيث أكد قاطنو هذه الأماكن أنها خضعت للترميم من قبل الجهات المعنية، المتمثلة على وجه الخصوص في ديوان الترقية و التسيير العقاري "أوبيجي"، و ذلك خلال العشرين سنة الماضية.
عمارات سكنية تتحول إلى "مجمعات" للأطباء والمحامين
من جهة أخرى فإن الكثير من البنايات صارت مملوكة لأشخاص يقطنون فيها أو يؤجرونها لجهات أخرى، و الملاحظ أنه لا يمكن لأية عمارة أن تخلو من عيادة طبيب أو مكتب محامي أو موثق أو جمعية، و هي السمة المشتركة في جميع مباني وسط المدينة، التي يضم بعضها 4 أو 5 عيادات أو مكاتب، ما يؤكد على أن مالكيها قاموا ببيعها بعد أن عجزوا عن ترميمها.
فيما أوضح مالكو الشقق الواقعة بعدد من العمارات، مثل شارعي بلوزداد و بوجريو، بأن عمليات الترميم التي قاموا بها، كانت بإمكانياتهم الخاصة، حيث اضطروا إلى إعادة بناء السلالم، بعد أن تدهورت حالتها بشكل كبير و أصبحت تشكل خطرا على سلامتهم، موضحين بأنهم واجهوا صعوبة كبيرة في الترميم، خاصة أنهم قاموا بهدم السلالم القديمة بشكل كلي و إعادة بناء أخرى جديدة من الإسمنت، و ذلك في غياب أشخاص مختصين في الحفاظ على النمط الأصلي للبناء.
بعض السكان اشتكوا من الترميمات التي مست البنايات من الخارج، في إطار مشاريع التحسين الحضري، المدرجة في إطار تظاهرة قسنطينة عاصمة الثقافة العربية، مؤكدين بأن هذه الترميمات أضرت أكثر بحالة البنايات، بسبب عدم مراعاة النمط الخاص التي بنيت به، حيث تم استعمال آلات و معدات ثقيلة، خلفت تشققات و تصدعات على الجدران و الأسقف، و قد أكد الكثير من سكان وسط المدينة بأنهم كانوا يعتقدون بأن الترميم سيمس الأجزاء المتضررة من البنايات كالسلالم و الجدران و الأسقف، غير أنه اقتصر على تزيين الواجهات، كما قال الكثيرون أنهم غير قادرين على تحمل تكاليف الترميم الكبيرة.
و ذكر مصدر من ديوان الترقية و التسيير العقاري بقسنطينة بأن برنامجا سنويا، خاصا بترميم البنايات التابعة للديوان، تم تطبيقه لسنوات طويلة، و ذلك بناء على الأولوية التي تأخذ بعين الاعتبار قدم البناية و حالتها و درجة الخطورة التي قد تشكلها على السكان، مشيرا إلى أن الترميم يمس على وجه الخصوص، سلالم العمارات، حيث أنها الأكثر عرضة إلى التضرر جراء الضغط المكثف عليها عبر سنوات طويلة، إضافة إلى الأسطح و الجدران الخارجية التي تتأثر بالعوامل الجوية المختلفة.
و كان المجلس المحلي لهيئة المهندسين المعماريين قد طالب بضرورة ترميم جميع المباني القديمة في أقرب الآجال، لجعلها مطابقة للمعايير العالمية الجديدة و المعمول بها في ما يتعلق بالتقنيات المضادة للزلازل، إلى جانب ضرورة إخلاء كل ما هو قديم جدا و غير قابل للترميم من السكان، سيما بالنسبة للمباني و العمارات التي يزيد عمرها عن مائة سنة.
عبد الرزاق.م