السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق لـ 21 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

التاريخ ... بين نجاح المسرحة وإخفاقاتها

كيف يتم تناول الأحداث التاريخية في المسرح وتحويلها أو تجسيدها على الركح؟ كيف وظفَ/وكيف يُوظِف المسرح التاريخ. كيف يستلهم منه فنيًّا؟ ما هو دور المسرح في تقديم أو استحضار واستلهام واستثمار التّاريخ، وهل بإمكان المسرح أن يُقدم التاريخ على ركحه برؤية فنية دون الإساءة له ولأحداثه وشخصياته؟ وهل تقديم المسرح للتاريخ يعد توثيقًا إبداعيًّا للوجود البشري ضمن تحوّلاته المرحلية المختلفة؟ وإلى أي حد يمكن أن يكون التاريخ بمثابة المنبع الّذي ينهل منه الإبداع المسرحي والفنون التعبيرية الأخرى؟ وهل إخفاق أو نجاح مسرحة التاريخ مرهونٌ بفكر ومخيال ورؤية مُصمم العرض ومُخرجه في قراءته للحمولة التاريخية؟ وهل بإمكان المسرحي أن يُقدم قراءاته للتاريخ بطريقة الفن كما يتطلبها الركح والعمل المسرحي والسياق الإبداعي، ما يعني بشكلٍ عام وأكيد أنّ التاريخ لم يبقَ حبيس ماضيه، أم أنّ قراءة وتقديم التاريخ هي دائمًا مهمة المؤرخ أوّلا وأخيرا، وقبل المسرحي؟ حول هذا الشأن «المسرح والتاريخ»، كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصين في المسرح والتاريخ والرواية.

*  إستطلاع/ نــوّارة لحــرش

* جميلة مصطفى الزقاي/باحثة أكاديمية وناقدة مسرحية
التاريخ كان النواة الأولى التي يستلهم منها المسرح
منذ بزوغ نجم المسرح دوليًا وعربيًا ووطنيًا، كان التاريخ يطل من عنان شموخه على النص المسرحي الّذي وجده المادة المطواعة التي يُخضعها لميكانزماته الدرامية لأنّها تشتمل في ذاتها على الكثير من مقومات نظرية الدراما وبخاصة منها عنصر الصراع الّذي يُعد البنزين المُحرك للفِعل الدرامي، من خلال ما يحفل التاريخ به من صراع فيما بين الشخصيات التاريخية بنوازعها ومطامحها، ونتيجة المطامع والاِحتيالات والدسائس التي تعتري الأحداث التاريخية التراجيدية مِمَّا جعلها تغدي المسرحة بروح درامية حامية لو أنّها تجد المرتع الخصب في الكتابة الثانية، والرؤية الإخراجية التي تشحذ الحادثة التاريخية بالتقننة اللازمة للمشهدية الفرجوية لكان التاريخ على الدوام صاحب الفضل الأعظم في تخليص المشهد المسرحي من معضلة غياب النص المسرحي. لكن غالبًا ما تطغى السردية التاريخيّة بكثافتها وتراكمها وغزارتها على العمل المسرحي فتُـثقل كاهله بالحكائية المُفرطة التي تهتك أوصال الفعل الدرامي، ويكون مآله الخضوع والخنوع أمام هيلمان سيرورة تاريخية أبت إلاّ أن تبقى مهيمنة على جلال الريبرتوار المسرحي في كلّ عصرٍ ومصر. ذلك أنّ كُتّاب الدراما كانوا ولا يزالون يستمدون مادتهم من الحادثة التاريخية وما تزخر به من ظروف اِجتماعية ودينية وسياسيّة تنجلي في مصادر تكاتف الحادثة التاريخية على نحو الحكاية والقصة والأسطورة الشعبية، وهذا ما يُعاضد نجاح العمل المسرحي التاريخي بمقبلات لا غِنى له عنها، بل يستمد طاقته منها حين يفلح في التعبير عن بعض القضايا التي تمس الإنسانية في صميم كينونتها ووجودها بشفافية فنيّة وجماليّة وبمنأى عن كلّ غلو وتصَّنع سينوغرافي قد يأتي على العمل المسرحي بوبالٍ مُكلِف نتيجة الترسانة المادية التي تتطلبها الأعمال المسرحية التاريخية الكبيرة التي يُراد لها أن تكون سِجلاً تاريخيًّا ينضحُ تعبيريةً وجمالية، مُضيئًا بُؤر العتمة في بعض مناحي الحادثة التاريخية التي تُمسرح لتقريبها من الجمهور وإنعاشها وإحيائها بذاكرته التي تحتفظ بحيثياتها وهي في صور مشهدية مائزة بالألوان والأشكال والتصاميم والمشاهد الحية التي يرفدها التمثيل والأداء الّذي يؤدي دوراً مفصليًا في نجاح العمل أو فشله؛ حتّى أنّ بعض أسماء الفنانين ترتبط ببعض الشخصيات التاريخية التي أدت دورها ببراعة. لكن إذا تمّ الاِكتفاء بعرض الأحداث التاريخية نقلاً من مصادرها ومراجعها فلن يتعدى العمل المسرحي كونه قد أَسهم في جعل المُتلقي يقرأ تاريخه عبر الفرجة المسرحية عوض أن يقرأها من مصادرها الأولى. ولذلك حين تخفق الكتابة الثانية في مسرحة التاريخ يتمنى المُتلقي لو أنّه عاد لاِستنطاقها من منابعها السردية، مُكتفيًا برؤيتها وهي تتجلى بذاكرته الصورية، مُحتفظًا بِمَّا أنفقه ماديًا ومعنويًا ليجد نفسه أمام عمل أفسد التاريخ أكثر مِمَّا أن يدعي أنّه مسرحه... لكن هذا لا يُجرم تلك الأعمال المسرحية التاريخية العظيمة التي لا يزال الريبرتوار المسرحي العالمي والعربي يتناقلها باِعتدادٍ كبير، ولنا في الكثير من الدراماتورجيين الذين عرفوا كيف يُمسرحون التاريخ بصياغتهم لنصوص أصيلة توأموا فيها بين المعرفة والرصانة الدرامية فتتبعوا بذكاء مُفسرين التطور التاريخي ليتوصلوا إلى رؤية الماضي عن طريق ربطهم بين الحقائق التاريخية، وحبكهم لها بدربة وصناعة درامية، سلبت ألباب الجمهور، وبصمتها بقاموسها المعجمي المُنتقى، وبحواراتها التي عرفت كيف تجد طريقها إلى خُلد المُتلقي حتّى قبل أن تمر للمُختبر الإخراجي. يسع القول إنّ التاريخ كان النواة والبذرة الأولى التي يستلهم منها المسرح بدءاً من مسرحية (الفرس لاسخيلوس عام 480 ق.م) التي مسرحت حرب سيلاميس، ومروراً بداهية الإبداع المسرحي العالمي الخلاّق «وليام شيكسبير» في القرن 16 الّذي اِستلهم أعماله من تاريخ إنجلترا ومن التاريخ الروماني... علاوةً على المسرح العربيّ الّذي لم ينأَ عن ظاهرة مسرحة التاريخ الإسلامي والأدبي منه لأنّه لم يجد ملجأ بعد النقل والاِقتباس من جاهزية المادة التاريخية، فعالجها دراميًا بلغةٍ فصيحة جادة.
وناهيك عمن مسرحوا التاريخ المصري والفرعوني والعربي الّذي يحفل بسير الملوك والدول والحضارات.
وبالعودة لإشكالية هذه القراءة المقتضبة لموضوع مُتشعب؛ يمكن القول إنّ إخفاق أو نجاح مسرحة التاريخ مرهونٌ بفكر ومخيال ورؤية مُصمم العرض ومُخرجه في قراءته للحمولة التاريخية التي ينتقيها فيصبغ عليها من عبقريته الإخراجية فيأخذها تارةً إلى مسرح تسجيلي سياسيّ أو تسييسي، وتارةً أخرى يُسافر بها إلى مسرح الصورة... وما أكثر المثالب الإخراجية التي تنضحُ عطاءً وجماليةً وتعبيريةً تخدمُ التاريخ والتأريخ...!!!

* زبيدة بوغواص/كاتبة وباحثة أكاديمية
المسرح يستدعي التاريخ من زاوية فنية
التاريخ في مفهومه الواسع هو مُلكٌ جماعي، وبذلك فهو يُعَدُ حركة يمكن اِستعارتها وتشخصيها مرَّةً أخرى، وهو ما قامت به الفنون التعبيرية ومنها المسرح، ولكن إذا كان هذا الكائن المُمكن كيف يتم تناول الأحداث التاريخية في المسرح وتحويلها على الركح؟ كيف وظف/ويُوظف المسرح التاريخ فنيًّا دون أن نسيء لهذا التاريخ؟
بدايةً يُمكن العودة إلى أرسطو في محاولة منا التمهيد لإشكالية التاريخ والفنون، أرسطو يرى أنّ الفن محاكاة للواقع، والسّمو على هذا الواقع، وإذا ربطنا التاريخ بنظرية أرسطو نقول إنّ التاريخ كان واقعًا في الماضي، والآن أضحى وثيقة نقرؤها متى شئنا، لها أحداثها وفضاءاتها وشخصياتها التي تتصارع فيما بينها، وهي العناصر الفنية الأساسية التي تسمح بمسرحته وإعادة صياغته وتشكيله من منظورٍ جديد، تتم فيها ممارسة الفِعل المسرحي بوصفه إبداعًا مُوَجَهًا للآخرين بغية تغيير توجهاتهم ورؤاهم لذواتهم وللعالم، وإن اِختلفت طرائق ذلك الاِستلهام وغاياته وتشكيلاته الجماليّة تبعًا لتحوّلات ذلك المسرح في العرض والكتابة في مساراته واتجاهاته المتعاقبة.
اِجتذب التاريخ كثيراً من المسرحيين بدايةً من العصر اليوناني القديم، حين راح رواده ينهلون من تاريخ اليونانيين القُدامى، ومن أحداثه التي لخصها هو ميروس في إلياذته، ليصوغوا منها كتابة مسرحية تجمع بين جودة الكتابة، والعرض على الركح، ويبقى التاريخ يجود بِمَّا لديه حتّى في القرون الوسطى مع المسرح داخل الكنيسة التي حرّمته في أوّل الأمر، لتعود مرّةً أخرى وترى فيه أنّه وسيلة للتبشير، فتتخذ من التاريخ الدّينيّ المسيحي وحيوات شخصياته عرضًا مسرحيًّا يُؤديه رجال الدين داخل الكنسية أو في ساحتها، ويتواصل الاِستلهام من النصوص التاريخية مع المسرح العالمي حين يعرض شكسبير شخصيات ملوك الإنجليز وأحداث من التاريخ بجودة فنيّة عالية، وتحويلها إلى أشكالٍ درامية وعناصر الدراما كالحوار والصراع والحبكة، ويكشف من خلالها عن موقف فني وأيديولوجي.
لم ينأ المسرح العربي عن هذا التوظيف الّذي شكل مُتنفسًا، ومهربًا من الواقع المُؤلم، وكان التنوع في الاِستلهام من التاريخ العربي، إلى التاريخ الإسلامي، إلى التاريخ الفرعوني، والدراما العربية التاريخية سجلت حضورها خاصةً بعد هزيمة يونيو 1967، حين أعاد المسرح العربي أسئلته؟ لماذا نكتب مسرحًا؟ لمن نكتب هذا المسرح؟ من أين نأخذ مسرحنا؟ هي المرحلة التي طرحت رؤىً جديدة سواء على مستوى التشكيل الجمالي أو على مستوى الرؤية الفكرية في مسألة اِستلهام التاريخ الّذي يُعد الأقدر على الرمز والإيحاء، وأوسع وأرحب من الحقيقة التي يُصورها الواقع أو يُجسدها العصر، وينطوي على كثير من الأشكال الفنية. تمّ طرح إشكالية الكشف عن حقيقة التاريخ، وظيفة المُؤرخ ودور التاريخ في صياغة وعي الجماعة، جعلوا من التاريخ المادة التي يقوم عليها مسرحهم في بنيته الفكرية وتشكيله الفني والجمالي، تشكيلاً جديداً يستهدف التعبير عن موقف أيديولوجي أو فكري في المقام الأوّل، ويتم توظيف اِتجاهات فنية جديدة كالمسرح التسجيلي الوثائقي الّذي يقوم على اِستحضار التقارير الحقيقية عن طريق الصورة السينمائية، أو الكاريكاتورية، أو الجوقة، والأغنية، والأقنعة والمُؤثرات الصوتية، والتعليق الّذي يعد شكلاً من أشكال المسرح البريختي الملحمي، وهي عناصر فنية تهدف إلى الإيحاء بالموقف الفني والإيديولوجي بإمكانية تغيير الواقع.
وعليه فالمسرح الّذي يأخذ مادته من التاريخ لا يلتزم بطبيعته بالتناول الأكاديمي للتاريخ، فليس غايته معالجة التاريخ معالجة منهجية، بل ليس من غايته التاريخ في حد ذاته، فهو لا يتعقبه تعقبًا زمنيًا، ولا ينظر إليه في تفاصيله بل يأخذ منه بقدر ما يلقي ضوءاً على الرؤية الفنية المطروحة، وبقدر ما يُفسر الأحداث والشخصيات ويُعين على فهمها.

* محمّد بن ساعو/ باحث أكاديمي مختص في التاريخ
الاستغلال الفني للتاريخ لا يبرّر تزويره
يظل التاريخ مصدر إلهام للفنون والآداب بمختلف أشكالها وألوانها، خاصةً وأنّ مادّته غير عصيّة على التطويع والتوظيف، لِمَا تكتنزه من حمولةٍ قوية من الرموز والإشارات والإيحاءات، فضلاً عن الأحداث والشخصيات؛ لذلك فإنّه لا غرابة في أن يغترف المسرح من التاريخ، فأصبح المسرح التاريخي مُجسّدا لوقائع تاريخية بارزة في حياة الأمم والشعوب، ويبرز من خلالها الرموز والأبطال في قالب فني إبداعي. ولأنّ التاريخ -بِمَّا هو ذاكرة الشعوب وخزّان تجاربها- يتجلى بصورةٍ أو بأخرى في راهننا، فقد كان الاِستثمار فيه من قِبل الفنانين والأدباء منطلقًا من أهميته واستمرارية حضوره، وفي المقابل فإنّ راهنية المسرح تجعله يستقطب الماضي والمستقبل في الآن ذاته، وبالتالي فعودة المسرحي إلى التاريخ –كما يُشير بعض الباحثين- له دوافع فنية كقابلية التمسرح وإضفاء شكل من أشكال القداسة على العمل المسرحي وضمان التواصل النوعي مع المُتلقي، ودوافع غير فنية كالأهداف التربوية ونقد الحاضر اِنطلاقا من الماضي، وإسقاط الماضي على الحاضر، وهو ما دفع بعض الكُتّاب الكبار مثل «وليم شكسبير» william shakespeare (1564-1616) إلى توظيف التاريخ في مسرحه.
غير أنّ الحدود بين الأكاديمي والفني الإبداعي ملغّمة وكثيراً ما أفرزت نقاشات حادة في بعض الأحايين، فالمُؤرخ يرى أنّ توظيف الفنانين والأدباء للتاريخ عادةً ما يُؤدي إلى تشويه ومسخ الحقائق واستباحة الموضوعية. في حين، يُبرر الفنانون نزوعهم للإضافات وسدّ الثغرات التاريخية التي تسكت عنها المصادر بالضرورات الفنيّة التي تستدعي تقوية النصّ، بينما يتجنب بعضهم مناقشة الموضوع بالأساس، ويُعبّر «ألكسندر دوما» Alexandre Dumas (1802-1870) عن هذا الاِتجاه، حين يقول: «التاريخ من يعرفه؟، إن هو إلاّ مسمارٌ أشجبُ فيه لوحاتي»، وبالتالي فإنّ مسألة العلاقة بين التاريخ والمسرح لم تكن مغفلة من اِهتمامات المُؤرخ والمسرحي، فالكثير منهم –خاصةً من المسرحيين- ناقشوا حدود هذه العلاقة كـ»ميلتون ماركس» Milton Marks (1920-1998) و»جورج بوشنار» Georg Buechner (1813-1837) وإن اِختلفوا في تقدير المسافات، إلاّ أنّهم اِتفقوا على أهمية التاريخ بالنسبة للمسرح والعكس.لا شكّ أنّ ما عرّجت عليه يستفزنا لطرح المزيد من التساؤلات الجريئة من قبيل: هل فشل المؤرخون في تقديم التاريخ للمُتلقي في حين نجح الفن والأدب والمسرح تحديداً في ذلك بأساليبه مقابل الصرامة الأكاديمية للمؤرخ؟ وهل يتعارض اِشتغال الفنانين والأدباء على التاريخ مع المؤرخين؟ أو بتعبيرٍ آخر: هل يحق للمؤرخ تأميم تجارب الشعوب وتنصيب نفسه ناطقًا رسميًّا باسمها؟ لكن بالمُقابل هل يُمكّن للمسرحي (وغيره) تشويه الحقائق التاريخية والتلاعب باِجتهادات المؤرخين؟
ما زاد في حِدة المواقف بين المؤرخين والفنانين عادةً هو غياب تقاليد نقاشية وحوارية بين الطرفين مثلما هي موجودة في الغرب، وقد حضرت في بداية هذه السنة ندوة مهمة في البيت العربي Casa Árabe بمدريد جمعت المخرج المصري «خالد يوسف» الّذي يعدّ لعمل سينمائي حول سقوط غرناطة بمؤرخين إسبان وبحضور المهتمين، وقد تمحوّرت نقاشات المائدة المستديرة حول رؤية المخرج التاريخية وتصوره للعمل الّذي يُحضّر له، ومن خلال هذا النشاط تمّ تقديم صورة جميلة عن الحوار الثقافي في هكذا محطات، وفي المقابل أستحضر تلك الضجة التي حدثت في الجزائر عندما فازت رواية «الديوان الإسبرطي» لعبد الوهاب عيساوي بجائزة البوكر العربي، والتي كانت وسائل التواصل الاِجتماعي مسرحًا لها، وإن كان النقاش في حد ذاته إيجابيًّا، لكن المشكلة حينما يكون غير مؤسس، وينتقل من النقد إلى التجريح والخندقة.ولتجاوز أشكال الصدام والمواقف المُسبقة أحيانًا ينبغي أن نُدرك بأنّ مهمة الكاتب المسرحي هي إنتاج الأعمال الإبداعية الفنية بعيدا عن التقييدات التي تضعها مناهج البحث التاريخي، بينما المُؤرخ ملزم باِحترام قواعد الكتابة التاريخية، وإنتاج أعمال علمية أكاديمية تخدم الحقيقة التاريخية الموضوعية، لكن رغم ذلك نحن لا نُبرر التمادي في التلاعب بالحقائق التاريخية وتزويرها، ويبقى على الكاتب المسرحي تقديم أعمال فنية يحاول من خلالها الاِلتزام ما أمكن بالحقيقة التاريخية مع اِستفادته من هامش التعامل معها لِمَا تقتضيه العملية الإبداعية.

* محمّد الأمين بن ربيع/روائي وكاتب مسرحي
توثيق إبداعيّ للوجود البشري
التاريخ... ذلك الهاجس الّذي سكن الإنسان، فأرّقه ودفعه إلى التفكير والبحث والإبداع، إذ لم يكن من السهل على الإنسان وهو يسأل عن بداياته وأصوله أن يُغفل أنّ التاريخ هو الوعاء الّذي اِستوعبها وأطّرها ثمّ حفظها أو أغفلها، ولأنّ من طبيعة الإنسان جموح خياله واستنفار إبداعه، فقد أطلق المبدعون الحرية لأخيلتهم لترى بعين الخلق الثاني ذلك التاريخ، وكان للمسرح العين العُليا في اِستحضار التاريخ وتجسيده بأحداثه وشخوصه قبل أن تُحاكيه السينما في ذلك وتستثمر إمكانياتها التي لا تتوفر في المسرح وتذهب بعيداً في اِستحضار التاريخ وتجسيده، غير أنّ المسرح ورغم منافسة السينما ظل وفيًا للتاريخ، وظلّ يُقدّمه بتفاصيله التي تتضمن جمالياته ومساوئه مُشخّصًا حينًا وناقداً حينًا آخر. فتناول المسرح للتاريخ يقوم على أبعاد رؤيوية تبدأ من النص وتنتهي عند العرض، تبدأ من كتابة حادثة تاريخية وتنتهي عند إعادة بعث الحياة في تلك الحادثة. وقد كان المسرح الكلاسيكي سبَّاقًا إلى اِستلهام التاريخ من خلال اِعتماده على مبدأ المُحاكاة الحرفية للتاريخ، ورفض الوهم واللاواقع أو الأسطورة، مع التركيز على المثال الأخلاقي والصرامة الجمّاليّة، فكان يستقرئ التاريخ بدل الأسطورة، ويُقدّم النماذج العُليا التي عرفها التاريخ، كما فعل أحمد شوقي باِنتقاء أبطال مسرحياته من التاريخ، كمسرحية قمبيز وعنترة وكليوباترا. ويحرص المسرح الكلاسيكي إذا ما كانت المسرحية مُستمدة من الماضي أن تخدم الواقع والمُستقبل، كأن تكون قصة إرشادية، هدفها التأثير في أخلاق المُتلقي قبل إمتاعه، من خلال اِستخلاص العبرة، ولا ضرر إذا أضاف المُبدع من خياله، ما يخدم السياق الدرامي للمسرحية، مع التركيز على دور الشخصيات التي تمثل دوراً تأثيريًا كبيراً في المسرحية، إذ لابدّ أن تقدّم الشخصية الدور بإتقانٍ شديد، ويأتي أيضا الدور على المخرج بأن يختار الأشخاص المناسبين لهذه المسرحية، الذين بإمكانهم أن يُعيدوا تقديم الشخصيات التاريخية وكأنّها حاضرة على الركح بكيانها. واستثمار عناصر السينوغرافيا لتقديم أجواء تتناسب والحقبة التاريخية التي يستعرضها على الركح. إنّ تقديم المسرح للتاريخ يُعدُ توثيقًا إبداعيًّا للوجود البشري ضمن تحوّلاته المرحلية المُختلفة، فقد أصبح المسرح التاريخي بمثابة الوثيقة التي تكشف عن بعض تفاصيل الصورة المُتكاملة، للوجود الإنساني، فإذا كان التاريخ شاهدًا على الحياة، فإنّ المسرح شاهد آخر بإمكانه اِستيعاب التاريخ ومعطياته دون هدم الحاجز الفاصل بين التاريخ والواقع، الّذي يُتوقَّعُ منه أن يتأثر بالتاريخ. فالمسرح والتاريخ يتفقان في كونهما يهتمان بالأحداث الفارقة في الوجود الإنساني، والمسرحي عند مسرحة التاريخ يجد نفسه أمام تقديم منتج إبداعي لا توثيقي، فنجد أنّ جورج بوشنر يرى أنّ المُؤلف المسرحي أقرب إلى أن يكون مؤرخًا، إلاّ أنّه يحتل مرتبة أعلى منه، فهو يخلق التاريخ مرّةً أخرى، لأنّه يقدم إبداعًا يبعثُ الحياة في التاريخ، لا سرداً جافًا مهمته التوثيق. إلاّ أنّ ذلك لا يُبيح للمسرحي إمكانية العبث بالتاريخ بحجة خدمة الجانب الفني للمسرحية، فعدم اِلتزامه بتوثيق التاريخ لا يعني تشويهه أو العبث به، فالتاريخ ليس ملكا للمبدع المسرحي يتصرف فيه كيف شاءَ. ونجد أنّ تيار المسرحية التاريخية، الّذي بدأه خليل اليازجي عام 1878، بتقديمه عرض مسرحيته المُستلهمة من تاريخ مملكة الحيرة «المروءة والوفاء أو الفرج بعد الضيق»، قد صار بمثابة الخط الإبداعي الّذي شكّل معالم مَسرَحَة التاريخ، وانتهجه العديد من المسرحيين العرب أمثال إبراهيم الأحدب، الّذي كتب مسرحية الإسكندر المقدوني، وفرح أنطوان الّذي كتب مسرحية صلاح الدين في مملكة أورشليم، ولعل تجربة سعد الله ونوس في مسرحة التاريخ تعد تجربة متفرّدة بِمَّا هي تجربة قامت على مزج التاريخي بالنقد السياسي، كتجربته المسرحية رأس المملوك جابر التي عاد من خلالها إلى حادثة سقوط بغداد في يد المغول، وتواطؤ وزير الخليفة مع المغول طمعًا في أن تؤول السلطة إليه، فكان ونوس من خلالها، يُمارس نقداً للحاضر من خلال الماضي.

* منير بومرداس/ ممثل ومخرج وكاتب مسرحي
على الأعمال المستلهمة أن تحقّق الشرط الفني
إنّ المسرح من الفنون التي اِلتصقت بالتاريخ، فالتاريخ هو مصدر اِلهام كُتّاب المسرح والمسرحيين منذ القِدم. حيث يستلهم كاتب المسرح شخصياته من البطولات والأمجاد، وحيث يذهب إلى المتلقي ويترك له المجال واسعًا للاِستفادة من هذا المخزون والحكم على الأمور بتعقل، ونستشهد على ذلك بحرب طروادة في الإلياذة لصاحبها هوميروس وكيف خلدت لتاريخ اليونان الإغريقي من مآسيهم الخالدة كأوديب وانتقون والكترا. وكذلك حرب الفرس، وأيضا الرومان تناولوا الأحداث التاريخية في أعمالهم الدرامية حيث بقى التاريخ المنبع الرئيسي لكاتب الدراما. البعض يعتقد أنّ اللجوء إلى التاريخ مجرّد محاولة هروب من الواقع. إلى يومنا هذا حيث يبقى التاريخ هو ظل الإنسان على الأرض على قول الإعلامي محمّد عبدو، والعلاقة الوطيدة بين الإبداع والتاريخ، وهو أكبر منبع من المنابع المهمة جداً منذ بدايات الإبداع المسرحي ولكلّ وسائل التعبير ونستند إلى بحث المخرج سعد أردش وتحليله في القواعد الأساسية التي تحكم موضوع البحث من أهمها قضية التاريخ العلمي والتاريخ الفني، وهما أساس حقيقة الدراسات المقارنة بين التاريخ والتاريخ كمادة للإبداع.
المسرح يستند ويستلهم أيضا وبصفة أساسيّة من الموضوعات المختلفة على وجه الخصوص التراث الشعبي والعادات والتقاليد والطقوس والمعتقدات الدّينيّة وربّما أيضا الظواهر المسرحية كالمسرح المترجل فيما قبل المسرح المكتوب بمعناها الحديث، ويختلف بين وحدة المكان مثل أوروبا والوطن العربي وباقي الشعوب في طريقة التوضيح والإيحاء، على سبيل المثال المسرح الأوربي بعد بعث الكلاسيكية في القرون الوسطى مع تراجيديات كورناي وراسين وأيضا في أعمال شكسبير الّذي تعرض لتاريخ بنية تفسير هذا التاريخ تفسيراً يُحقق مستقبلاً أفضل مثلاً مسرحيًّا عطيل وهاملت والملك لير وهينيريات شكسبير. أمّا في الجزائر عرف الجزائريون المسرح في بداية القرن العشرين ولكن الشيء الّذي ميّز الكتابة المسرحية في بدايتها هو لجوء الكُتّاب إلى التاريخ يستمدون منه مادتهم الخام حيث استعملوا التاريخ العربي الإسلامي والمغاربي والعالمي مادةً في تشكيل نسيج مسرحياتهم مع اِختلافهم في المصدر الّذي يستلهمون منه الأحداث بالإضافة إلى توظيف التراث التاريخي فنيًا حيث وجد كُتّاب المسرح في التاريخ مادةً خصبة لكتابة نصوصهم الدرامية التي تفيض بالمتعة الفنية والفكرية، فقد تمكنت هذه العروض في تناول أهم الشخصيات التاريخية مثل ماسينيسا ويوغرطا وحنبعل والكاهنة وصلاح الدين الأيوبي..... يبقى فقط هل وصلت هذه الأعمال إلى المستوى الفني المطلوب على غرار المسرح العالمي؟ ما هي الآليات التي اعتمدوا عليها في توظيف التاريخ مسرحيًّا؟ وعليه فإنّ الكاتب المسرحي الحقيقي هو الّذي يُوظف اِبتكاراته وإبداعه في سبيل تحقيق هذه النتيجة، والخوض في التفسير الاِجتماعي السياسي الاِقتصادي للحدث ومنه نستنتج أنّه للمسرح دورٌ كبير جداً في توظيف التاريخ شرط نقل الحقائق دون تزييف وبأمانة وصبغها فنيًا وجماليًا. اليوم في العصر الحديث وجب مع توّفر كلّ الآليات والوسائل المتاحة تكنولوجيًا توثيق التاريخ من الكُتّاب المسرحين رفقة المؤرخين في أعمال متوازية بين العلمي والفني.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com