بقلم: الأزهر عطية
زمن النص:
انطلاقا من أن لكل نص أدبي، كيفما كان نوعه، زمن يولد فيه، وهو الزمن الذي يبرز فيه كفكرة في ذهن صاحبه، ثم يبدأ في النمو والتشكل إلى أن يأخذ قالبه الفني الذي ابتغاه هو، أو ابتغاه له صاحبه، وذلك هو الزمن الذي يسميه البعض زمن التبليغ، وقد يطول ذلك الزمن تارة، وقد يقصر، حسب الظروف التي ظلت تحيط به. وعليه، فإن زمن رواية عام الحبل، والتي هي العمل الروائي الأول والوحيد للكاتب مصطفى نطور، يعود بالضرورة، إلى ما قبل تاريخ صدورها الذي هو سنة:2017. وقد قال الكاتب، في إحدى تصريحاته، إنها أخذت منه مدة عشر سنوات كاملة.
فما الذي تحمله هذه الرواية في طياتها؟ وما الذي تريد أن تُبلّغه؟ وما هو الزمن المرجع الذي اتكأت عليه، أو أخذت منه، ما دمنا نعتبر أن لكل رواية زمنها الذي ترجع إليه، وتستلهم منه ما تريد أن تُبلّغه للآخر؟
الزمن المرجع:
يمكن النظر، من البداية، إلى هذه الرواية، من حيث زمنها المرجعي، على أنها تتكئ على زمنين اثنين، مختلفين ومتباعدين عن بعضيهما؛ إذ إن أحدهما يعود إلى نهاية الحكم التركي للجزائر، والثاني إلى زمن ظهور الدولة الجزائرية المتحررة من حكم الاستعمار الفرنسي، وهما زمنان بعيدان عن بعضيهما، إذ تفرق بينهما مرحلة أخرى، بدت مهملة في النص الروائي لأن العملية الفنية استدعت ذلك؛ فظهرت حكاية مُظَلَّلة في الخلف هي الأساس، وأخرى أمامها تحاول أن تضللنا وتوهمنا أنها هي الأساس، ذلك أن هذه الرواية تقوم أساسا على هذه الثنائية، وعلى عدة ثنائيات أخرى.
ثنائية القصة :
وهذه هي الثنائية الأولى؛ وهي أن الرواية تقوم من بدايتها على المزج بين قصتين اثنتين:
القصة الأولى، وهي الأساس في هذا العمل، وهي قصة النظام الاشتراكي المتبنَّى، وأريد التركيز هنا على كلمة المتبنَّى، في الجزائر، مدججة بترسانة من الرموز والدلالات الاستعارية التي وظفها الكاتب، هذا النظام الذي لا يدري أحد كيف ظهر في المجتمع الجزائري، ولا من أين أتي، ولا ما هو أصله. ثم وصوله، في النهاية، إلى طريق مسدود، حيث تأزمت أوضاعه في الأخير، وتحالفت ضده قوى المال، والانتهازيين، والتيار الديني، إلى أن تمكنوا منه وأسقطوه، بل مزقوه، وبطريقة بشعة، أمام أعين كل الناس. بما في ذلك الذين كانوا من مؤيديه ثم انقلبوا عليه.
أما القصة الثانية، فهي واجهتها التضليلية التي تعمل على محاولة إخفائها، إذ تلقي عليها بظلالها، وهي تتقدمها، وكأنها هي الأساس في العمل الإبداعي، وهي قصة عام الحبل التي يعود تاريخها إلى نهاية الحكم التركي في الجزائر بما فيها من حوادث واقعية، والتي تروي لنا حكاية عما حل بمنطقة الشمال القسنطيني التي ضربتها جائحة فذهب شيوخ قبائلها إلى باي قسنطينة يعرضون عليه محنتهم، ويطلبون منه المساعدة، ولكنه يأمر بربطهم بحبل، ووضعهم في كهوف المدينة الصخرية. ثم يأمر بإعادتهم من حيث جاؤوا.
مكان النص:
في بلدة بحرية صغيرة اسمها (القل)، بفتح حرف القاف، أو بضمه، أو بكسره؛ حسب اختلاف الروايات في نطق الاسم منذ القدم. في هذه البلدة، وليس في غيرها، وهو ما أراد الكاتب أن يقوله لنا بصريح العبارة، ومؤكدا ذلك بإيراد بعض المعالم الدالة عليها، كاسم وليها الصالح (سيدي عاشور)، وأسماء بعض القبائل المحيطة بها.
أما نحن، فإنه يحق لنا أن نقول غير ذلك؛ إذ قد تكون البلدة المذكورة غير تلك، أو هي مجرد تضليل أو إيهام بذلك، لأن المقصود أكبر من ذلك بكل تأكيد، والمعنى المحمول أبعد من ذلك أيضا. وكما يشاء الكاتب، أو كما نشاء نحن، فهي بلدة بَحرية يتحكم فيها أربعة أقوياء؛ هم رجال منها، ولكن دلالاتهم غير ذلك بالتأكيد، فالرواية تنطلق من فكرة محلية صغيرة، ولكنها ملَغّمة بدلالات أبعد من ذلك البسيط المعلن، سواء في اسم البلدة، أو في الأربعة الأقوياء الذين يتحكمون فيها، وهم: حاكم البلدة، والمزهودي سيد البحر، والشافعي كبير التجار، والإمام. فهل هي مدينة القل التي نعرفها بالفعل؟ بعض الحوادث والمعالم المبثوثة في الرواية تحاول أن تؤكد ذلك بالفعل. ولكن كثيرا من الخلفيات والدلالات التي شُحنت بها توحي بأبعد من ذلك، بل تفرض علينا أن نعتقد غير ذلك. لقد أشرنا سابقا إلى أن هذه الرواية تقوم على عدة ثنائيات، وهنا نجد أن هذه الثنائيات تظلل بعضها، وتحاول أن تضللنا نحن كذلك، حين تقف صورة منها أمام صورة أخرى، لتؤدي غرضا في نفس الكاتب، يريد أن يُلمِّح إليه في نصه، ولا يصرح به. وهذه هي الثنائية الأولى التي سبق أن ذكرناها؛ ثنائية الحكاية التي بنيت عليها الرواية.
الحياة في البلدة:
في هذه البلدة البحرية الصغيرة، التي يبدو أن أغلب سكانها يعيشون على صيد الأسماك في قوارب المزهودي سيد البحر، وعلى شيء من التجارة التي يتحكم فيها الشافعي، ويعيش بوقرة وحده على غير ذلك؛ يعيش مداحا في الأسواق، وكأنه خلق لما لم يخلق له الآخرون. ذلك أن الرجل مفعم بالحكايات القديمة، مثل حكاية السيد علي ورأس الغول، وخاتم سيدنا سليمان، ولونجة بنت السلطان، والجازية ودياب الهلالي(صفحة:09)، وغيرها من الحكايات الشعبية الأخرى. إنه رجل حُرِم من الإنجاب من زوجته حليمة. ومع ذلك فهي الوحيدة التي ظلت تحاول، وباستمرار، أن تقنعه بضرورة البحث عن عمل آخر ينفعه وينفع عائلته؛ كم قلت له البندير ما يوكّل الخير(صفحة:13). ولكن الظروف منحته ابنة تحب التمتع بالحكايات، وتود أن تسمعها منه. تلك البنت التي لا يدري أحد من أين جاءت، ولا كيف جاءت؛ قذف بها البحر، أو سقطت من مخالب نسر كان يمر فوق الشاطئ، أم هي من فعل الضاوية المرأة العمياء. لقد اختلفت الروايات في ذلك، وهي روايات، لا يعطيها بوقرة أهمية، لأن ما يهمه فقط، أنه سمع بأذنيه علاوة ولد الضاوية العمياء يقول عنها، وبكل عفوية ورجولة، مربوحة(صفحة:89). ولذلك فهو مقتنع بأنها ستكون مربوحة عليه. لذلك أخذها بوقرة وسماها مربوحة، ثم تبناها رغم الأقاويل التي راحت تُنسج حولها. فشبت في البلدة مجهولة النسب.
هذه الحادثة تذكرنا ببعض الجوانب من شخصية اللاز في رواية الطاهر وطار التي تحمل العنوان نفسه.
لقد كانت مربوحة ابنة جميلة. هكذا رآها بوقرة، وهو يأخذها بين يديه ويقول: لقد وهبتني بركات البحر هذه البنت مثلما وهبت لغيري من الخيرات(صفحة:89)؛ حيث وهبت التحكم في خيرات البحر للمزهودي، والتجارة للشافعي، وأكرمت حاكم البلدة بالملك والقوة.
عشرون سنة بعد تلك الحادثة، يجتمع الأربعة الأقوياء في البلدة، ويُجمعون على أن تلك المرحلة، التي صارت فيها مربوحة، المتبناة من قبل بوقرة، شابة جميلة ويافعة يُنظر إليها بعيون الإعجاب والرغبة من قبلهم، على أنها مرحلة فساد عم البلدة، وعليهم أن يتَّحدوا للقضاء عليه، وعلى مصدره ومخلفاته، رغم أن كلا منهم كان طامعا في الزواج من مربوحة التي أرَّخت لبداية مرحلة ذلك الفساد الذي انتشر في بلدتهم، ويعملون للقضاء على من تبناها، لأنهم يرونه أخطر من الفساد نفسه؛ إنه بوقرة منبع الفساد، وأخطر من كل فساد صار يعم البلدة(صفحة:113).
وعليه، فإن مربوحة لم تكن مجرد تلك الفتاة الجميلة المتبنَّاة من قبل بوقرة، والتي صار يطمع فيها أولئك الأقوياء، وإنما هي شيء آخر أكبر من ذلك؛ إنها السلطة التي صارت تغري أولئك المتنفذين في البلدة. كما أن تلك البلدة الصغيرة ليست مجرد بلدتهم القل التي تحتويهم رغما عنهم. ولم يكن الأربعة الأقوياء في البلدة إلا أشياء أخرى أيضا؛ إنهم القوة الخفية الضاغطة، بل المتحكمة في زمام أمور البلدة. وكذلك كان بوقرة أيضا؛ إذ ليس هو مجرد رجل مداح، يحمل بين يديه بنديرا، ويعقد الحلقات في الأسواق مسترزقا من رواية حكايات ملّها هو وملّها المستمعون إليه، إنما هو ذلك الإنسان المقهور في الوطن، أو هو الوطن ذاته بما فيه.
بوقرة القوال:
نأتي إلى شخصية بوقرة من خلال الاسم الذي يحمله؛ تعني كلمة (القَرَّة) في اللهجة العامية الجزائرية، وبخاصة منها في الشرق الجزائري، موجة البرد الشديد المصحوبة بالتساقط والرياح، وهو المعنى نفسه الذي نجده في فصيح اللغة العربية؛ (القِرَّة). ومن الشائع أن من يولد في يوم مثل هذا اليوم، قد يحمل هذا الاسم. ومن الناس من يتشاءم منه، لأن صاحبه، كما ورد في الموروث الشعبي، سيعيش حياة صعبة، وقد يُنبذ في الحياة العامة، ومنهم حتى من يعتقد أنه اسم من أسماء الشيطان. وسنرى نحن شيئا من ذلك في حياة بوقرة، الرجل الفقير، الكادح، الذي تحاصره الظروف وتقسو عليه، وتنغلق أمامه أبواب الرزق، فتحضرنا صورته من بداية الرواية متكئا إلى جذع شجرة الدردار في ساحة البلدة(صفحة:09)، وهو يفكر في إيجاد حل لمشكلته التي ألمّت به، وبعائلته. وهو الأمر الذي نجد له مشابها في دردارة الأمير عبد القادر حين راح يبحث عن حل لما ألمَّ به وبقومه؛ فالأول أصابته جائحة في فكره الذي جف نبعه، ولم يعد يُسعفه بإنتاج ما يُقنع سامعيه من الحكايات، وهو القوال المتمرس المرتاد للأسواق، فانقطع عنه الرزق الذي كان يأتيه من تلك الحكايات التي يقصها على مستمعيه، فراح يبحث عن حكاية أخرى لم يسمعوها من قبل. فاهتدي، وهو تحت الدردارة في ساحة البلدة، إلى حكاية عام الحبل التي رأى أنها ستنقذه من أعدائه؛ الفقر، والحرمان، والديون المتراكمة عليه لدى التاجر صاحب الدكان. والثاني أصابت قومه، من قبله، جائحة الغزو الاستعماري. فاهتدى، وهو تحت شجرة الدردار، إلى فكرة المقاومة الشعبية.
إنها ثنائية أخرى، من عدة ثنائيات أشرنا إليها سابقا، تبرز أمامنا ونحن نفتح أول باب من أبواب هذه الرواية؛ تلك هي ثنائية شجرة الدردار المُلهِمة.
مراجعة النفس:
وبين المَعيش والمحكي، يبرز بوقرة بين ثنائية أخرى نلاحظها في حكايته التي يعيشها هو في بلدته، مع عائلته وبين أهل البلدة، ومجموعة الحكايات الأخرى التي ظل يرويها على مسامع الناس في حلقات الأسواق، والتي هي وسيلته الوحيدة في الاسترزاق. فهو موجود في الزمن الحاضر الذي يعيشه، ولكنه يسترزق من الماضي بحكاياته التي تعشش في ذاكرته، ولا تعطيه أية فرصة للراحة والتخلص منها، مثلما لا يريد هو أن يتخلص منها. ولذلك، فهو دائم التفكير فيها والمراجعة لها، من الماضي كانت، أو من الحاضر، ومنها حكاية رأس الغول والسيد علي، ولونجة بنت السلطان، وخاتم سيدنا سليمان. وهناك حكاية المرأة التي أحرقت حقول الزرع نكاية في الغزاة الغرباء الذين غزو وطنها(صفحة:136)، والحاكم الذي اقتلع كروم العنب نكاية في أعدائه الذين امتنعوا عن شراء خموره ذات الجودة العالية(صفحة:136)، وثورة الرجل الصالح المدعو بلحرش(صفحة:77)، والباي الذي كان يغتصب أرزاق الأثرياء من مواطنيه الذين تبدو عليهم آثار النعمة، ثم يضعهم في أكياس مربوطة ويرمي بهم في الهاوية من أعلى الصخر العتيق(صفحة:77)، ثم حكاية عام الحبل(صفحة:11) التي اهتدى إليها معتقدا أنها ستنقذه مما هو فيه.
إن شخصية بوقرة بهذه الصورة التي تقدمها لنا رواية عام الحبل في البلدة، لن نجد لها في الواقع إلا صورة النظام الذي قام، ذات يوم، في الجزائر على أسس هشة ومهتزة باستمرار، والذي لم يستطع أن يجد لنفسه، طوال فترة وجوده، طريقا واضحا يسير عليه، فظل يتخبط في البحث عن حل جذري لمشاكله، موهما نفسه ومواطنيه، في كل مرة، أنه يتغير ولكنه يكتفي، فقط، بتغيير مظهره الخارجي، إلى أن جاءت ساعة سقوطه.
عام الحبل:
تروي هذه الحكاية قصة قبائل المنطقة التي أصيبت بجائحة كتلك التي أصابت عقل بوقرة، فجف نبع الحكاية فيه. فقد أصاب الفقرُ الناسَ، وفتك بهم الجوعُ، وقهرتهم الحاجة، فاتفقوا على إرسال شيوخهم إلى مدينة الصخر العتيق لمقابلة الباي، وإطلاعه على سوء أحوالهم، وتدهور معيشتهم. ولكن الباي جمعهم في الكهوف الصخرية للمدينة، وقيدهم بحبال متينة، فما كان منهم إلا أن طلبوا منه أن يعفو عنهم، ويسمح لهم بالعودة إلى ديارهم، فسمح لهم، وأمر بإعادتهم من حيث جاؤوا. فعاد بعضهم، وبقي البعض الآخر؛ حيث اختفوا في طريق العودة، ثم تسللوا إلى المدينة خفية، وبقوا فيها يعيشون على الهامش؛ في الليل يأوون إلى كهوف المدينة الصخرية، الباردة والمظلمة، وفي النهار يخرجون إلى شوارعها ليشتغلوا في أعمال الحمالة والزبالة. وأولئك هم الذين صاروا يُعرفون، عند أهل المدينة، بمخلفات عام الحبل.
توبة بوقرة:
بعد العديد من الوقفات التأملية التي وقفها بوقرة، لكي يراجع فيها حكاياته التي ملها سامعوه، ويعيد التفكير في نفسه، نجده يتخذ قراره بالتوبة، والكف عن الحكي الذي ظل متمسكا به، رغم أنه ظل يرى نفسه، دائما، مختلفا عن غيره من سكان البلدة؛ فهو لا يصلح أن يكون مثلهم صيادا بحريا في قوارب المزهودي، لأنه لم يخلق لتلك الحرفة التي لا يقدر عليها، ولا هي خلقت له. إلا أن الأمور سرعان ما تغيرت واختلطت عليه، فداهمته صورها الماضية، وتشابكت في ذهنه، وغُمَّ عليه، واختلط أمامه الحابل بالنابل، وهو يحاول عبور الساحة العامة. حينها، لم يعد يسمع إلا صوت الحاكم يرن في أذنيه، وهو يخاطبه؛ اجمع أغراضك وامش.
حينها أيقن أن أمورا كثيرة قد حسمت، ولم تعد كما يراها هو، وأن كل من كانوا معه قد تفرقوا عنه، أو انقلبوا عليه. ولم يبق له إلا أن ينسحب من الساحة.
نهاية من؟:
ولكن حركة غير عادية تفاجئه، وهو يقطع الساحة العامة؛ أناس يجرون فارين في كل الاتجاهات، وحاكم البلدة يلاحقهم بعساكره، فما كان منه إلا أن وجد نفسه يوصي علاوة خيرا بمربوحة. كان ذلك آخر شيء رأى أن يفعله.
ثم ينقض عليه عساكر الحاكم ويربطون يديه بحبل إلى أربعة أحصنة، ورجليه إلى أربعة أخرى، فتشده الأحصنة إلى اتجاهين مختلفين حتى يتمزق جسده في الساحة العامة، وأمام أعين كل الناس. لقد كانت نهاية مأساوية بالفعل.
فماذا يمكننا أن نقول بعد كل هذا؟ هل سنقول إن هذه النهاية المأساوية هي نهاية بوقرة القوال، أم نقول إنها نهاية نظام كان قائما في الجزائر؟ أم هي نهاية مرحلة كاملة من مراحل التاريخ في الجزائر؟
هامش أخير:
لنعد الآن إلى كل ما سبق، متأملين تلك التقاطعات التي اعترضت طريقنا، من بداية الرواية إلى نهايتها، علّنا نجد فيها ما قد يضيف شيئا إلى محاولة فهمنا لها، أو يؤكد ذلك، أو يوضحه، وهي التي أطلقنا عليها، منذ البداية، اسم الثنائيات، والتي يمكن أن نبرزها موجزة كما يلي:
1 – ثنائية الحكاية: لقد بُنيت رواية عام الحبل على حكايتين؛ حكاية من التاريخ تبرز في واجهة النص، وهي من (فترة الحكم التركي)، وحكاية أخرى من الحاضر، بالنظر إلى زمن النص، وهي من (فترة العهد الاشتراكي). وكأننا بالرواية تقول لنا؛ ما أشبه اليوم بالبارحة!
2 – ثنائية السرد: سرد المعيش من حياة بوقرة في بلدته، وبين أهله. وسرد حكاية أخرى من الزمن الماضي هي حكاية عام الحبل.
3 - ثنائية الدردارة: تلك الشجرة التي تنطلق منها الرواية، والتي ألهمت بوقرة حكاية عام الحبل، التي ستخلصه من حكاياته السابقة، ومثيلتها التي ألهمت الأمير عبد القادر، من قبله، فكرة المقاومة الشعبية التي ستخلصه من الغزاة.
4 – ثنائية الحاكم: الملكة التي أحرقت المحاصيل الزراعية نكاية في الغزاة الذين اجتاحوا بلدها، والحاكم الذي أمر باقتلاع الكروم نكاية في أعدائه الذين رفضوا شراء خموره. فهل في ذلك إشارة إلى وجوب الاعتبار من حكمة الماضي، أم هي تنبيه لعدم الاعتبار من أخطاء الماضي؟
5 – ثنائية البلدة: شيوخ القبائل الذين يذهبون إلى المدينة، استنجادا بالباي بعد أن قهرتهم الجائحة التي حلت بهم، وهجرة سكان الأرياف إلى المدن بحثا عن العمل ولقمة العيش، وعن حقهم في نوع آخر من الحياة.
6 – ثنائية الطرد: طرد الباي لشيوخ القبائل وإعادتهم إلى ديارهم، وطرد الحاكم لسكان الأرياف الذين هاجروا إلى المدن، وإعادتهم إلى قراهم التي جاؤوا منها.
7 – ثنائية التمرد: تمرد بوقرة، الضعيف المقهور، ضد تحالف قوى الحكم، المال، والدين، وتمرد سيزيف المقهور، ضد تحالف الآلهة.