العربية.. بين الاِحتفال والسؤال!
يحتفل العالم العربي وعُشاق اللّغة العربية والناطقين بها في مختلف بقاع الدنيا، بهذه اللّغة الجميلة، في الثامن عشر من شهر ديسمبر من كلّ عام بيومها العالمي، وهو اليوم الّذي أصدرت فيه الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 3190 العام 1973، وأقرت بموجبه إدخال اللّغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، وهي سادس لغة رسمية لها. ومن أهداف هذا اليوم إبراز الإسهام المعرفي والفكري والعلمي لهذه اللّغة وأعلامها في مختلف مناحي المعرفة. كما يسعى اليوم العالمي للغة العربية كذلك إلى التأكيد على مركزية هذه اللّغة، التي تُعد من أوسع اللغات السامية اِنتشاراً. فما هو واقع اللّغة العربية في عالمنا اليوم؟ ما مكانتها بين لغات العالم؟ وكيف نتصور آفاقها المستقبلية؟ حول هذا الموضوع «اللّغة العربية في يومها العالمي». كان ملف «كراس الثقافة» لهذا العدد مع مجموعة من الكُتّاب والأدباء.
* إستطلاع/ نــوّارة لحــرش
* أحمد دلباني/كاتب
العربية لا تزال تعاني من ضمور الفاعلية
يحسن بنا، ونحن نتحدثُ اليوم عن مكانة اللّغة العربية وحظوظها في البقاء، أن نتذكر أنَّ اللغات عبر التاريخ عرفت مساراتٍ مختلفة في تطورها وجدلها مع الواقع الاِجتماعي وعلاقاتها مع الآخر ودورها في الإسهام الحضاري معرفةً وعِلمًا. هذا يعني أنَّ قضية صمود اللغات أمام رهانات الزمن ومفاجآته ومآزقه تظل أحيانًا عصيّة على التفسير الأُحادي الاِختزالي. وربّما طرح هذا الأمرُ أسئلة أكثر إلحاحًا علينا اليوم ولغتنا العربية تعيشُ عهداً غير سعيد رغم كونها تُمثلُ، دون أدنى شكّ، ذاكرة غنية جداً لإحدى التجارب الحضارية الكُبرى في التاريخ. لقد حفظت لنا هذه اللّغة عبر موروثها الّذي اِمتدَّ لقرون طويلة وجهًا من وجوه مغامرات الإنسان في تأسيس وجوده على قيم السؤال والروحانية والبحث والتواصل الحضاري والتعبير العالي عن الكينونة. ولكنَّ لعصرنا الحالي شأنا آخر مع حياة اللغات أو اِحتمال اِندثارها. إذ إنَّ جرافة التاريخ العولمي –الّذي يميل إلى النمذجة والقولبة وطمس الخصوصيّات– باتت تُثيرُ المخاوف وتشغل بال كلّ المُنتمين إلى ثقافات الهامش المُتسع منذ كشفت العولمة، قبل عقودٍ قليلة، عن الرغبة الإمبريالية في محو التعدّد الثقافي من خلال الهيمنة الاِقتصادية وتوحيد الأنماط السلوكية الاِستهلاكية وفرض القيم المُصاحبة لذلك عبر أرجاء المعمورة. ومن نافل القول أن نؤكد، هنا، على أنَّ العالم العربيَّ لا يزال يدور في فلك الهيمنة الغربية ومراكزها الفاعلة، الأمريكية والأوروبية، منذ لقاءاته الصدامية الأولى قبل قرنين من الزمان. هذا ما اِنعكس على وضع اللّغة العربية إيجابًا وسلبًا معًا. فقد اِنفتح العربُ، منذئذ، على أسئلة الحداثة الفكرية وقضايا التجديد الأدبي وظهرت الصحافة ونشأت الحاجة إلى البحث العلمي. ورغم كلّ ما تحقق إلاّ أنَّ اللّغة العربية لا تزال تعاني من ضمور الفاعلية في مجالات كثيرة، ما يكشفُ عنه غيابنا عن مأدبة الفتوحات المعرفية التي غيَّرت وجه العالم وأعادت تشكيل موازين القوّة والنفوذ سياسيًّا واقتصاديًا في عصرنا. لقد ظلت التبعية سمة بادية على حضورنا الباهت وعلامة على كوننا مناطق نفوذ ومصادر طاقة للقِوى العظمى لا غير.
إنَّ الاِحتفاءَ السنويَّ باللّغة العربية لا يكادُ يعني لي شيئًا ما دامت هذه اللّغة البهيّة الجليلة لا تتمتعُ بأهميةٍ أخرى غير الثِقل الديمغرافي لعدد الناطقين بها أو كونها لغة بلادٍ يعظمُ الاِهتمامُ بها من قِبل المركز المُهيمن لتوفرها على ثروات ترتبط بإستراتيجيات السيطرة وتأمين المصالح كما هو معروف. كما أنَّ هذه اللّغة، بطبيعة الحال، لا تزال تحظى بنوع من القدرة على الصمود لاِرتباطها بالإسلام ومناخ التقديس الديني. فهي لغة القرآن الكريم وامتداداته التراثية التي تتمتع بهيبةٍ خاصة عند عموم المسلمين شرقًا وغربًا. ولكن هل يمثل هذا ضامنًا كافيًا لبقائها وصمودها أمام اِمتحان التاريخ؟ هل ضمن الاِرتباط بالمؤسسة الكنسية والكتاب المقدس بقاءَ اللّغة اللاتينية أمام زحف اللغات الأوروبية التي عوَّلت على الخصوصية القومية والإنتاج الأدبي والفلسفي والعلمي وإنشاء الأكاديميات؟ لقد علمتنا الحداثة شيئًا مهمًا: لا حظ لنا في الوجود السيّد إلاّ بالقوّة المرتبطة بالمعرفة والاِستقلال عن مرجعية الماضي. فلا يمكنُ، هنا، للمُقدَّس أن ينوبَ عن المدنس في عُرف التاريخ منذ أصبح بيتاً للإنسان مكان المُطلق القديم. وربّما هذا ما جسَّده، بصورةٍ ما، الفيلسوف ديكارت منذ شرع في كتابة مؤلفاته الأثيرة باللّغة الفرنسية التي كانت تُعتبَر «لغة شعبية» بداية القرن السابع عشر. إنَّ للغة حظوظًا أقوى للبقاء من مجرّد عدد الناطقين بها أو من اِرتباطها بمرجعيات الماضي ومؤسساته التي لا يمكنها أن تظل، أبديًا، بمنأى عن التفكك أو الاِنسحاب إلى الظل. اللّغة اللاتينية مثالٌ صارخٌ كما رأينا. أقول هذا وأنا أقفُ اِحترامًا، بطبيعة الحال، للجهود الكبيرة التي بذلها المبدعون العربُ منذ أكثر من قرن على درب تحرير اللّغة العربية من علائقها التقليدية ومناخ الماضوية الفكرية والقذف بها في أتون تجربة الوجود المعاصرة أدبًا وفكراً. لقد حققنا الشيءَ الكثير ولكنَّ هذا لم يعصم لغتنا الجميلة من التهديد الدائم في عالم يطبعه الصراعُ على الهيمنة الثقافيّة ومحاولات الاِستتباع ومحو الخصوصيّات. لم تسعفنا السياسة ولا خياراتنا الإيديولوجية المتسرعة في تأمين مشروع التحرّر الثقافي والكياني، ولا في الحفاظ على اللّغة العربية وترسيخ قدمها في عوالم المعرفة والبحث والإبداع. لقد ظلت بعضُ صور إبداعنا الثقافي تشعُّ كونيًا ككواكب مفردة في عتمة الوجود العربيّ الّذي عمل الجميع، داخليًا وخارجيًا، على أسره كبروميثيوس وشدّ وثاقه إلى صخرة الأزمنة الثقافية الراكدة فكريًا وروحيًا. أقول هذا كي أشير إلى أنَّ صمودَ اللّغة لا يرتبط بمجهود المبدعين فحسب، وإنّما أيضًا بمشاريع النهوض البصيرة التي تستثمرُ في العقل والبحث العلمي والبناء المؤسَّسي الأكاديمي المُثاقف للحراك المعرفي في العالم. لا يمكننا، بمعنى ما، الحديثُ عن مستقبل واعدٍ للغة العربية بمعزل عن تحديث العقل ومنظومة القيم التي تُؤطر الحياة العامة والعلاقات الاِجتماعية. نحنُ لم نُنجز، بعدُ، «ثورة كوبرنيكية» في عالم القيم تحرّرنا وتحرّرُ لغتنا من الاِرتهان لدى المُطلق الغائب عن حركية الحياة بكلّ غناها. فلا حياة مُمكنة للغة العربية داخل جثة المومياء التاريخية التي نسميها العالم العربي.
يبدو لي، كذلك، أنَّ السؤال عن وضع اللّغة العربية اليوم لا يخرجُ عن التساؤل حول الهواجس الهوياتية المعاصرة منذ اِنفجرت «المسألة الثقافية» باِعتبارها همّاً عولميًا نبَّه البشر إلى ضرورة التعرف على أنفسهم في محدّداتٍ أخرى غير تلك التي رسَّخها الصراع الإيديولوجي طيلة النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم. لقد قفز الدين واللّغة والاِنتماء الطائفي والأصل الإثني إلى المشهد، وأصبحت الهوية مدار التعرف على الذات ورسم حدود التمايز عن الآخر من خلال اِنبثاق مشهديّ لبراديغم أو نموذج تفسيري جديد تحدَّث عنه بصورةٍ مُعمَّقة الباحث آلان تورين. وقد سمعتُ، أيضا، المفكر الفرنسيَّ ريجيس دوبريه يتحدَّثُ بصورةٍ لافتة عن «الحداثة المحرّرة للقديم» في إشارةٍ إلى أنَّ العولمة التقنية –الاِقتصادية التي تميل إلى توحيد الكوكب تُنتجُ، ويا للمفارقة، التشظي على الأصعدة الثقافيّة وهذا في صورة تمسكٍ بالمؤسَّسات العتيقة وكلّ ما يُحيل إلى الخصوصية. إذ يجبُ ملءُ الفراغ الهوياتي الناتج عن العولمة التقنية باِستدعاء أُطر الحياة الجماعية السابقة على «صدمة الحداثة». ومن الطبيعي ألا تفلتَ اللّغة من أشكال مقاومة هذه العولمة على صعيد التأكيد على الهوية والتمايز. هذا يعني أنَّ اللّغة اليوم عند العرب لا تخرج عن كونها محدّداً من محدّدات الهوية الثقافية في مواجهة تهديدات العولمة بعد أن كانت في الماضي أداة اِنفتاح على المعرفة ومدّ لا ينتهي للجسور إلى الضفاف الأخرى حيثُ تقومُ الشراكة الخلاقة مع الآخر في غزو العالم معرفيًا والتأسيس لأخلاقيات الحوار والتسامح. كأنَّ اللّغة العربية هجرت فراديسَها المفقودة وأصبحت قلعة هشّة لا يخرجُ همها عن الدفاع عن الذات العربية المتهالكة على أرصفة البطالة الحضارية. فهل من أفقٍ ممكن لخروجها من هذا المأزق الخطير المُعقد؟
إنَّ هذه الأوضاع أطلقت، بطبيعة الحال، عنانَ الخطابات العدائية التقليدية للغة العربية والتي لا ترى فيها إلاّ لغة ميتة لا يُمكنها التنفسُ خارج مناخ المُقدَّس الدينيِّ أو السلطة السّياسيّة الرجعية الباحثة عن شرعية لها في العودة إلى الماضي التدشيني بعد أن خسرت رهانَ المستقبل بفشلها على جميع المستويات. كأنَّ العربية منذورة، منذ البداية، لعناق الأبدية ومشلولة أمام مدِّ اليد إلى تفاحة السقوط في منافي المغامرات الإبداعية. ولكنني أعتقد، كما أشرت آنفًا، أنَّ راهنَ العربية منذ أكثر من قرن من الزمان –عبر اِمتداد العالم العربي– يُبيِّنُ بجلاءٍ قدرتها الإبداعية العالية واحتضانها المُدهش لإيقاع التحوّل إبداعيًا وفكريًا. إذ إنَّ تراجعَها وانكماشها أمام صيرورات التاريخ والمعرفة وتحنطها في حضن المُطلق والماضي يرجع إلى اِنسحاب العقل العربيِّ/الإسلامي، لأسباب عديدة، من مغامراته المُدهشة في اِكتناه العالم والوجود قبل قرون خلت ولا يعودُ إليها باِعتبارها لغة. أعتقد أنَّ هذا من تحصيل الحاصل. ولكن الموقفَ الإيديولوجيَّ لخصوم العربيّة لا ينتبه إلى ذلك وكأنَّ التقدمَ الحضاري يرتبط باللّغة لا بالعقل المُبدع. رغم ذلك أراني، هنا، مضطراً إلى التنبيه أنَّ اللّغة –فضلا عن كونها هوية وانتماءً إلى ثقافةٍ وذاكرة مشتركة– لا يمكنها الصمودُ أمام التحديات التي يُجابهنا بها العصر ما دامت تعيشُ على ذكرى الفراديس الماضية أو تشرئب بعُنقها إلى مخادغ المُطلق بعيداً عن الحياة وتوهجها وبمعزلٍ عن حركية المعرفة وأسئلة المعرفة والمصير والقيم في عالم يجنحُ إلى القولبة وإلى كوكبةٍ لا تنفصل، بحال، عن إرادة الهيمنة.
* عبد الحميد هيمة/ناقد وأكاديمي-كلية الآداب واللغات- جامعة ورقلة
التخلّف لا تتحمله اللغة بل أهلها الذين انسحبوا من التاريخ
إنّ اللّغة مثل الكائن الحي تنمو وتتطوّر، وتضعف وتنحط، وهي خاضعة في تطورها إلى الإنسان الّذي يتدخل في صياغة أوضاعها، فيفسح لها المجال كي تزدهر وتتطوّر، أو يعرض عنها فيدفع بها نحو الضعف والاِندثار، واللّغة العربية لغة مُمتدة الجذور، عروقها ضاربة في أعماق التاريخ، وثمّة من يعتبرها (أم اللغات) قاطبة، لِمَا تتميز به من سعة مفرداتها التي تجاوزت الإثني عشر مليون كلمة، وكذا اِتساع نطاق اِستعمالها في العالم حيث يتكلم بها قرابة نصف مليار من البشر، وكذلك لِمَا قدمته هذه اللّغة من تراث أدبي وعلمي لا مثيل له بين جميع اللغات، ولذلك فليس غريبًا أن تُعتمد لغة رسمية في الأُمم المتحدة، منذ18 ديسمبر1973، وفي أكتوبر 2012، يعلن المجلس التنفيذي لليونسكو في دورته الـ190 عن تكريس هذا اليوم، (18 ديسمبر) كيوم عالمي للغة العربية، تأكيداً على مكانة اللّغة العربية، وإبراز إسهامها في مختلف المجالات الفكرية والعلمية، فما هو واقع اللّغة العربية اليوم..؟؟ ونحن اليوم، وفي اليوم العالمي للغة العربية نقول وللأسف الشديد، إنّ وضع اللّغة العربية متدهور ولا يُبشر بالخير، صحيح أنّ هناك من يقول إنّ اللّغة العربية محفوظة بالقرآن، وهذا غير صحيح، القرآن يحفظ اللّغة العربية لأهل القرآن، أي علماء الدين، والذين يحفظون القرآن، ويستعملون اللّغة العربية في المناسبات الدّينيّة، ولكن هل اللّغة موجودة في واقعنا الاِجتماعي، وفي حياتنا اليوميّة..؟ الحال أنّ اللّغة العربية اليوم تكاد تصبح غريبة، فالتعليم الجامعي يتم باللّغة الأجنبية، والإدارة ما زالت في كثير من الأحيان رهينة اللّغة الكولونيالية.
هذه الأمور تجعل اللّغة تنفصل عن الواقع، مِمَّا يجعل وزنها يقل في المجتمع. لأنّ اللّغة التي لا يتكلم بها أهلها تموت، وهذا ما حدث للغة اللاتينية، إذن فاللّغة تموت لا محالة، عندما لا يسمعها الطفل، بل إنّ اللّغة تموت عندما لا يسمعها الجنين، كما يرى بعض عُلماء الاِجتماع، وعندما لا يتكلم اللّغة إلاّ المسنون فهي محكوم عليها بالاِنقراض، إذن يجب أن ننظر إلى مسألة موت اللّغة العربية كاِحتمال وارد، إذا لم نتدارك الأمر، ثمّ هناك العداء لهذه اللّغة من قِبل التيار الفرانكفوني الّذي لا يرى في اللّغة العربية، إلاّ لغة رجعية متخلفة، متناسيًا ما قدمته هذه اللّغة قديمًا وراهنًا، ومتناسيًا أنّ التخلف لا يتعلق باللّغة في حد ذاتها، وإنّما يتعلق بأهلها الذين اِنسحبوا من التاريخ وانسحبوا من الإسهام في حركة الإبداع العالمي، وذلك اِنعكس على وضع اللّغة سلبًا. لابدّ إذن أن نُحرّر الفضاء اللساني، ونُرجِع للغة العربية مكانتها المفقودة، ومن ثمّة الاِنتقال من التحرّر السياسيّ إلى التحرّر اللغويّ، الّذي يُبعد اللّغة عن الاِستغلال الضيق، ويمنع الإقصاء الّذي مُورِس عليها في السابق، ونرسم الإستراتيجيّات الملزمة لمواجهة هذا الوضع السلبي الّذي أصبح ينخر اللّغة العربية.
* ربيعة جلطي/شاعرة وروائية
مازالت أمام هذه اللّغة الجميلة تحديات كبيرة كي تصبح لغة حية
وذات يوم، حدث فيه اِجتماع حاسم من اِجتماعاتها، من عام 1973، قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة خلاله، أن يكون يوم 18 ديسمبر يومًا عالميًا للاِحتفال باللّغة العربية، فكان. رأت أنّها لغة مهمة وتُثير الاِهتمام. وأنّها لغة تحتل المركز الرابع من حيث الاِنتشار في العالم بعد الإنجليزية والفرنسية والإسبانية، وهي واحدة من اللغات الست الرسمية في الأمم المتحدة، ثمّ إنّها لغة جاءت من زمنٍ بعيد. بل من منبت الأزمنة. وهي إحدى أخوات اللغات السامية لأهل ما بين النهرين وجزيرة العرب والشام. أخوات لم تظل منهن سوى العربية والحبشية والعبرانية والسريانية.
منذ القِدم اِرتقت هذه اللّغة بِمّا تولّد فيها من تراكيب واشتقاقات، وذلك لأنّها لم تكن منغلقة على نفسها، بل منفتحة بكرم على الأُمم المُختلفة النازحة نحو المنطقة لأسباب تاريخية وسياسية وجغرافية، قد تكون منها الحروب أو أغراض الأسفار والتجارة لِمَا للمنطقة من مكانة كمركز اِستراتيجي وطريق في التواصل بين الشرق والغرب. ولعلّ من أبرزها ومن أقدم ما وصل فترة دخول الفرس اليمن وحدوث التبادل بينهم وبين مجتمع الحِجاز، فقد تطورت اللّغة واغتنت وتجلت أثناء نهضة القرنين الأوّل والثاني قبل الإسلام.
ماذا لو أنّ هذه اللّغة العربية الجميلة اِنغلقت على نفسها في مسارها الطويل، وتنكرت لمعطيات التاريخ، ونواميس الطبيعة وأغلقت مصراعيها أمام الألفاظ الفارسية واليونانية والحبشية والعبرانية والسنسكريتية وغيرها، وسدت نوافذها في وجه المصطلحات المختلفة في مجالات التجارة والبحرية والطب والمعادن وغيرها.. فهل كانت ستصير بمثل هذا الثراء اللغوي.؟ ثمّ إنّ نزول الوحي بها، سيمنحها قوّة عظيمة وانتشاراً واسعًا. وبها ستعتمل عقول وألسنة عُلماء كبار في مجالات علمية عديدة ومختلفة، وستعرف الإنسانية اِبن رشد والكندي والبيروني وجابر بن حيان والخوارزمي والزهراوي وابن سينا والرازي والفارابي وووو.. وسينطق بها حوالي 400 مليون شخص عبر العالم.
نحن نحتفل.. نعم. إنّه 18 ديسمبر اليوم العالمي للغة العربية. لكن غالبًا ما يتسبب الاِحتفال في تحريك ما نُسي من الجيوب الباطنية للنفس، بطرح أسئلة فلسفية، ومراجعة الذات أحيانًا.
ما حال اللّغة العربية في عصرنا هذا؟ العصر الّذي لا مهرب فيه من سؤال التكنولوجيا. ما مدى علاقتها بها وتطويعها لها وتحليلها، وإنتاج الموارد فيها. ثمّ كيف للخط العربي أن يتطوّر بِمَا يُحقق مسايرته تطوير البرمجيات الحديثة، وهل تكفي مجامع اللّغة العربية المغلوبة على أمرها الراكضة خلف ما يُنتجه الآخرون لتقبض عليه وتضع له اِسمًا. وهل تكفي بعض الندوات والمُؤتمرات لتجنب الطفرة التقنية التي تبدو واضحة؟
ثمّ كيف نُباشر الدرس اللغوي وتنمية المهارات اللغوية باللّغة العربية، بينما يعيش الطالب لها وفيها بين الغربة والاِغتراب في واقع سوسيو-ثقافي مُعقد، وبينما تتصوّر كلّ أسرة أنّ المُستقبل الباهر لاِبنها أو اِبنتها يتحقّق حتمًا في مكانٍ آخر وبلغةٍ أخرى وخطٍ آخر يتلاءم مع تطوّر البرمجيات، ومادام توظيف تقنيات الذكاء الاِصطناعي في تعليم اللّغة العربية مازال بعيداً، وما دامت العلوم التطبيقية وأقسام الحوسبة التي تعمل على الجانب التكنولوجي والذكاء الاِصطناعي، لم تبرح بعد طور التجريب؟
وعلى الرغم من قناعتي بأنّ المشكلة لا تكمن في اللّغة في حد ذاتها، بل في أهلها الذين يحدّون من ديناميكيتها بسبب تقديسهم لها أو الخوف عليها من جهة، وبسبب منزلتهم الحضارية الآنية من جهة أخرى، إلاّ أنّني أومن بأنّه مازالت أمام هذه اللّغة الجميلة، التي اِخترتُ أن أكتب بها، تحديات كبيرة، كي تُحقق طموحها في أن تصبح لغة حية، مقروءة وصانعة للأفكار النشطة في هذا العصر سريع الخطو. كلّ عام واللّغة العربية بخير واللغات الحية حاملة العقل والوجدان الإنسانيين بخير.
* عبد الحفيظ بن جلولي/كاتب وناقد
من يدعي موتها إنّما يعبّر عن موته !
لا يمكن إغفال جمالية اللّغة العربية النّابعة أساسًا من قدرتها على حمل كلام الله المُطلق، ولأنّ من بين ركائز وجوديتها الثّقافية هو الشّعر، حتّى أنّ عمر اِبن الخطّاب (ض) كان يقول: «إذا أشكل عليكم شيء في القرآن الكريم فعودوا إلى الشّعر الجاهلي فإنّه عربي»، الشاهد في هذا أنّ اللّغة العربية بوجودها القبلي على القرآن الكريم، أصبحت تفك ما أشكل على الفهم فيه باِعتبارها اِستطاعت أن تحمل مضامينه، ولهذا يبدو أنّ الأمم المتحدة قد تأخّرت في إعلانها اِعتبار اللّغة العربية لغة رسمية ولغة عمل داخل أجهزتها، طبقًا لقرارها 3190 لعام 1973.
إنّ يوم 18 ديسمبر من كلّ سنة لا يُذكّرنا إلاّ بِمَا وصلت إليه لغة الضاد من اِنحدار، تلك اللّغة التي حملت في زمنٍ ما لواء الحضارة بِمَا يختزنه هذا المفهوم من شحنة عقلية وأدبية وفنّية، فالأُمم لا يُقاس اِحترامها بِمَا وصلت إليه من تطوّر، ولكن يُنظر إليها على أساس اِحترام معايير الوصول إلى مستوى التطوّر، والتي ليست في النّهاية سوى عناصر الهوية الثابتة، ومنها اللّغة، فالإنكليز يحترمون لغتهم، والفرنسيس أيضًا، وكلّ شعوب الأرض النّاهضة تفعل مثل ذلك، إلاّ أمّة العرب التي تعتبر أنّ لغتها ليست ذات شأن قياسًا إلى ما تعيشه هذه الأمّة من تخلف حضاري وتقهقر قيمي.طرح أحد الأصدقاء رأيه في اللّغة العربية قائلاً: أعتبرها لغة ميّتة قياسًا إلى أنّنا نعرّب كلامًا فرنسيًا في واقعنا ونجعله أساس خطابنا اليوميّ. ويُضيف بعضهم أنّ اللّغة العربية لغة شِعر وأدب وليست لغة عِلم وتقنية، بل يرى البعض الآخر أنّها صعبة وأنّ قواعدها الصّارمة والجامدة ساهمت في تخلّفها!!
إنّ مجرّد القول بموت اللّغة، أيّة لغة يُعتبر في ميزان العقل حالة تُعبّر عن موت من يدّعي ذلك، لأنّ الوعي بالمشكلة الحيوية يدفع صاحبه إلى محاولة نقض الإدّعاء السلبي وطرح الإشكالية مرّةً أخرى في معيار الإحياء، لأنّ البشر يحيون باللّغة التي تنبع من وعيهم الوجودي على الجغرافيا، ولهذا يذكر إسحق دويتشر أنّ بن غوريون كان يسأله واثقًا من نفسه: «متى ستبدأ الكتابة باللّغة العبرية بدلاً من الإنكليزية؟»، لأنّ الهاجس هنا ليس قوميًا خالصًا بقدر ما هو ذاتي، يضع صورة الشّخصية في مرآة الاِستمرار بِمَا توارث عليه وعيها للعالم ولذاتها، لهذا خطورة إهمال اللّغة لا ينعكس فقط على تدمير ثقافة أو عِلم أو معرفة، إنّه يمثل تدميراً للوعي بالتاريخ.
ينبع القول المُستهزئ باللّغة العربية بأنّها لغة شِعر وأدب، باِعتبار إنّ العِلم والتقنية بعيدين كلّ البُعد عن هذين المجالين، وينسى أنّ التفكير العقلي عملية شِعرية في الأساس، فالرّبط بين الأشياء وتصوّر العلاقات عقليًا ومحاولات تصميم النّموذج المُفَكَّر فيه، جميعها ترتبط بالمتخيّل اِبتداءً، ولولا العلاقة المُتداخلة بين الذّات وموضوع التفكير التي يمكن تفسيرها بالحب، لَمَا اِكتمل تشكيل النّموذج المأمول إنتاجه واقعًا. فاللّغة ليست هي ما نلمسه من نتائجها في الواقع، وبالتالي ربطها بعملية الإنتاجية المادية، اللّغة هي التاريخ والعلاقات المعقّدة بين الذات وما يحيطها وما يعلق في وعيها بذاتها.
لكن يمكن النّظر إلى أُفق الأمل في التعامل مع اللّغة العربية باِعتبار من يمارسونها، إنّ ممارسة اللّغة العربية تعتبر معياراً دالاً على مدى تطوّرها وإمكانيات اِستيعابها للعلوم والمعارف، بدلالة تاريخها الحضاري مَحَصَّلُ التفاعل بين حركة الإنسان والوحي.الأكيد أنّ واقع اللّغة العربية اليوم مزريًا، لأنّ العربي تنازل عن أن يكون ذاته العربية المُتسلحة بلغتها كهوية تاريخية، وإسقاط هذا الوعي شكّل المدفن الطبيعي للإحساس بثقل الوجود العربي باِعتباره مساراً حاملاً لخصوصية تختلف في شكل التّعبير بها وعنها، أن أتقدّم إلى العالم بوعي اللّغة الهوية خلاف أن أندرج في مسار يحيّد اللّغة الأم، بل يعتبرها ميّتة.
علينا ألاّ ننظر إلى العالم في رؤيته للغة العربية ثمّ يأتي تقييمنا لها طبقًا للوضعية المُثبتة، العالم اليوم يعترف باللّغة العربية ليست لأنّها لغة العرب، فحالهم لا يُبشر بخير، ولكن لأنّ العالم يربطُ العلاقات وفق التطوّر التّاريخي والهوية الحضارية المُكرّسة في الوعي.
إنّ التراكم المعرفي والثقافي هو ما يُحدّد العلاقة مع اللّغة العربية، فكلّما تعمّقت مُمارستها كلّما تمّ اِندراجها في الواقع أكثر، وتنامى الوعي بجماليّاتها، ومن ثمّة يُصبح الأفق الحامل لهويات اللّغة مطواعًا لتقبّل اللّغة العربية من خلال ما تُساهم به في تشكيل المخيال العالمي.
* عبد القادر رابحي/ كاتب وناقد
واقع العربيّة يكذّب محمولات النّخب المتصارعة
على الرغم مِمَا صار يرفعه العديد من المثقفين من كلّ التوجهات في منابر عديدة من أفكار جاهزة تحاول أن تُحجّم من مكانة اللّغة العربية وتُنقِص من دورها وفعاليتها في الراهن الثقافي والعلمي والسياسي، فإنّ ما يمكن ملاحظته عندما تطالعنا الإحصاءات العالمية الموضوعية حول مستويات تطور اللغات في العالم وحول نسب اِنتشارها، هو هذا التناقض الرهيب بين الأطروحات الثقافية ذات القناعات الإيديولوجية الرافضة للغة العربية ولتاريخها ولمرجعيتها الحضارية، وبين واقع اللّغة العربية وحقيقتها في العالم المعاصر. ولا شكّ أنّ هذا التناقض لدى هؤلاء المثقفين ينم عن حرص مصلحيّ على تعمّد اِستعمال اللّغة العربية كأداة ضمن ما تحاول الصراعات الإيديولوجية في العالم العربي تحقيقه في المعارك التي تخوضها النُّخب المتصارعة مع بعضها حول مشاريع التحديث من جهة، ومع الأنظمة السّياسيّة حول المشاريع والبرامج السّياسيّة من جهةٍ أخرى.
لقد كانت اللّغة العربية محل تجاذب وخلاف بين النُّخب في إطار ما يخفيه صراع الحضارات من محاولات محْوٍ منهجيٍّ لكلّ ما يمكن أن يُرسِّخ الذات الشرقية العربية ضمن الصيرورة المستقبلية للتاريخ، وذلك بتفخيخ هذه المسارات التاريخية من خلال اللعب على وتر الهويات وما يمكن أن تحمله من مقالب تشكيك وممكنات تفكيك لواقع لغوي يأبى، بفعل اِندراجه في منظومة الحياة الطبيعية لمستعمليها في العالم ككلّ، أن يخضع لهذه التصورات التي كثيراً ما أخطأت تقدير دور الأبعاد التاريخية والحضارية في ترسيخ الهويات الوطنية التي بُني عليها التاريخ القديم والحديث والمعاصر للغة العربية.
تجزم حقيقة العديد من الإحصائيات التي توفرها الأدوات الرقمية بدقة متناهية على تطوّر مسار اللّغة العربية في الاِستعمال اليومي داخل المجالات الاِفتراضية، وكذا على تقدمها على العديد من اللغات العالمية الأخرى كاللّغة الفرنسية في مجالات الاِستعمال اليومي في وسائط التواصل الاِجتماعي وفي المجال الاِفتراضي عمومًا، بِمَا يُشكله هذا الاِستعمال من أهمية في التعامل مع أدوات التحديث الجارية على قدمٍ وساق في مجالات التواصل اللغوي عبر العالم، وذلك بفعل ما أحدثته الثورة الرقمية من تغييرات جذرية في مجالات التواصل، وما تركته من أثر في طرائق اِنتشار اللغات متجاوزةً الأطروحات القديمة التي لا تزال رهينة للمحمولات الإيديولوجية في محاولة الدعوة إلى لُغةٍ ما، أو في محاولة تقويض لغةٍ أخرى.
لطالما اِستعملت النُّخب المتصارعة هذه المحمولات التي يكذبها واقع اِنتشار اللّغة العربية في العالم الاِفتراضي، من أجل التأكيد على قِدم قدرة اللّغة العربية على التأقلم مع التكنولوجيا نظراً لعدم قابليتها للتحديث ومجافاتها لكل إمكانية تطور مرتبط بِمَا تُنتجه روح العصر من مُستجدات علمية وتكنولوجية وطبية. وقد ذهب هذا الرأي بأصحابه إلى اِعتبار اللّغة العربية لغة ميتة لا تصلح للعصر ولا للعِلم ولا لمسايرة جوهر الحياة كما تبدعها الحداثة في نسختها بِمَا هي فِعل علمي تكنولوجي دقيق يُنتج مفاتيحه ومصطلحاته. وهي لذلك، تبقى بعيدة عن هذا الجوهر لأنّها ملتصقة، في نظرهم، بكلّ ما يمت إلى التخلف بصلة، كاِرتباطها بالدين وبالتراث وبالأدب وبالشِّعر وبالخرافات، وهي، في هذه الحالة،لا يمكن أن ترقى إلى مصاف اللغات العالمة في ما تبدعه من معارف وأفكار سرعان ما تتحقّق على أرض الواقع. ولعلّ هذا الطرح الّذي طالما قرنه أصحابُه بفكرة التنوير في مجتمعات متخلفة خارجة لتوها في الشرط الاِستعماري وداخلة مباشرة في مكابدات الشرط الدكتاتوري، لم يكن غير صورة مشوهة لحقيقة ما تحمله هذه النُّخب عن اللّغة العربية، كغيرها من اللغات، بوصفها بيتًا للوجود بحسب التصور الهايدغيري، وعن الذات بوصفها تشبُّعًا بشرط خصوصية اللسان الّذي بدونه لا يمكن أن يتحقّق الوجود، وهي، أي هذه النُّخب، في هذه الحالة، لا يمكن أن تخرج عن مسارات التبعيات الثقافية التي حرصت النُّخب العربية على تثبيتها في الخطابات التحديثية المعادية للذات الحضارية بوصفها جوهراً لا يحول ولا يتغير.
ولعله لذلك، فإنّ هذه النُّخب تنسى حقيقة أنّ اللّغة العربية هي أقدم اللغات حضوراً في الراهن اللساني وأكثرها في العالم. وهذا في حد ذاته يكفي لطرح سؤال جوهري طالما أرق الألسُنيين في العالم وهو: لماذا بقيت اللّغة العربية حية على عكس ما حصل للكثير من لغات العالم الأكثر أو الأقل قِدمًا منها؟ وما هي الأسباب التي تقف وراء هذه الخاصية في اللّغة العربية دون غيرها من اللغات؟