اكتشاف عين بوشريط أعاد كتابة تاريخ شمال إفريقي
* فرنسيون يتعمدون «تقزيم» اكتشافات الجزائريين الهامة * معطيات جديدة تضاعف الأمل في التوصل إلى اكتشاف أهم
سلط البروفيسور محمد سحنوني، رئيس فريق الباحثين في الموقع الأثري عين بوشريط الذي تم اكتشافه سنة 2018، الضوء على الكثير من التفاصيل بخصوص جديد الحفريات في المنطقة الأثرية، بعد مرور سنتين عن الحدث الأهم الذي أعاد كتابة تاريخ شمال إفريقيا، ليصبح مرجعية بحثية وعلمية عالمية يستدل بها عند الحديث عن أقدم وجود إنساني على وجه البسيطة، كما تحدث الباحث في هذا الحوار مع النصر، عن خلفية الهجوم الإعلامي الفرنسي على الاكتشافات الأخيرة و أماط اللثام عن السبب الحقيقي وراء محاولة تقزيم الاكتشاف و التعتيم عليه وعلاقة ذلك بالعقلية الاستعمارية و لوبي العلم في فرنسا، كما قدم الباحث وجهة نظر مفصلة حول واقع علم الآثار في الجزائر و دور اتفاقية إيفيان في تفعيل إمكانية استرجاع الآثار الجزائرية المنهوبة.
حاورته: هدى طابي
النصر: حدثنا عن مسارك في البحث العلمي و كيف انتهى بك المطاف بين أمريكا وإسبانيا؟
ـ محمد سحنوني: أنا باحث في علم الآثار، تخصص ما قبل التاريخ ، نلت شهادة ليسانس في الجزائر، ثم دكتوراه من الدرجة الثالثة في البيولوجيا من جامعة بيار ماري كوري بفرنسا، حصلت بعد ذلك على دكتوراه في الأنثروبولوجيا من جامعة إنديانا بالولايات المتحدة الأمريكية. و اشتغلت كأستاذ باحث في جامعة الجزائر، قبل أن أنتقل إلى الولايات المتحدة لتحضير رسالة الدكتوراه، أين عرضت علي وظيفة أستاذ باحث في جامعة إنديانا.
وفي 2010 تحديدا، انتقلت إلى المركز الوطني للأبحاث حول تطور الإنسان بإسبانيا، و أشرف منذ قرابة عشر سنوات على برنامج البحث في آثار ما قبل التاريخ، إذ يعتبر هذا المركز من بين المؤسسات المميزة في العالم من حيث البحث في تطور وتأقلم البشر في حقب ما قبل التاريخ، من عدة جوانب.
وجدنا طبقة رسوبية تعود إلى 3 ملايين و 170 ألف سنة
بعد مرور عامين على اكتشاف عين بوشريط، هل توصلتم إلى معطيات جديدة حول الموقع؟
ـ الاكتشاف في حد ذاته كان هدفا نصبوا إليه منذ حوالي 20 سنة، و قد حققناه بتوفيق من الله، الآن لدينا أهداف أخرى و هي البحث عن طبقات أقدم مما تم اكتشافه في 2018، أي أقدم بمليونين و400 ألف سنة.
الأمر الذي يدفعنا إلى التفاؤل هو توفر الموقع الحجري عين بوشريط وعين الحنش على طبقات رسوبية جيولوجية و مستحاثية و أثرية هامة، وقد عثرنا فعلا على طبقات مستحاثية تضم بقايا حيوانات و غيرها، لكننا لم نقف لحد الآن على مكتشف يثبت وجود حياة بشرية أو نشاطات بشرية تعود إلى حقبة زمنية أقدم.
يركز مشروعنا البحثي على ثلاثة محاور، يمثل المحور الأول نسبة 50 بالمئة من عملنا، و يدور حول الخوض في البحث و الإجابة عن الأسئلة بالاعتماد على المنهجيات، و يأتي محور التكوين في المرتبة الثانية، فالوقت يمر بسرعة كما تعلمون، و نحن في سباق مع الزمن لأجل تمرير المشعل للكفاءات من الأجيال الجديدة، أما المحور الثالث فيخص إيصال المعلومات العلمية للجمهور الواسع، فمن بين أهدافنا مهمة تثقيف الجمهور الواسع من طلبة المدارس و الجامعات، بالتنسيق مع المتاحف.
علما بأن متاحفنا لم تثرَ بمقتنيات حديثة منذ الاستقلال تقريبا، لذلك نسعى في كل مرة نكتشف فيها لقى أثرية جديدة، إلى تعزيز محتويات المتاحف بقطع موثقة علميا، تكون بمثابة مخزون بحثي للجيل الجديد من الباحثين و مادة تاريخية تسمح بتنظيم معارض متخصصة، و هذا المسعى يعد من بين مميزات البحث الأثري الحديث.
ـ هل هناك إمكانية للوصول إلى اكتشاف أهم مما تم تحقيقه في 2018؟
ـ أجل هناك إمكانية، لكن لنكن واقعيين، لا يمكننا أن نجزم أو نتنبأ بأمر لم نكتشفه بعد، الثابت في هذه المرحلة، هو وجود طبقات أثرية أقدم، لكن الحكم على مدى أهميتها غير ممكن، قبل اكتشافها ميدانيا. لقد اكتشفنا حديثا، طبقة رسوبية في المنطقة، أرخناها بـ 3 ملايين و 170 ألف سنة، وقد وجدنا فيها بقايا فيل قديم جدا، من صنف يطلق عليه تسمية»أنونكس أوزيريس»، وعليه فإن الأمل بإمكانية تحقيق اكتشافات جديدة موجود، مادامت هناك طبقات تتميز بحفظ جيد لهذه العظام و البقايا.
لابد من التأكيد كذلك، أن الاكتشاف الذي توصلنا إليه قبل سنتين، والمتعلق بتكنولوجيا تعود إلى قرابة مليوني سنة و نصف تقريبا، يعد الحد الأدنى للاكتشافات في العالم و بالأخص في إفريقيا، فما وصلنا إليه يعتبر أقدم تكنولوجيا حجرية موجودة في المواقع المكتشفة على امتداد القارة السمراء، بما في ذلك إفريقيا الشرقية و تحديدا إثيوبيا، حيث تؤرخ المواقع الأثرية بـ 2. 6 مليون سنة، وكذلك الأمر عندنا في شمال إفريقيا، حيث يعود عمر أقدم المواقع إلى 2.4 مليون سنة.
ـ هل تؤرخ عين بوشريط لأقدم وجود إنساني في إفريقيا و هل يضعنا ذلك في المرتبة الأولى من حيث قدم المواقع و أهميتها ؟
ـ لا.. لكن الأكيد هو أنه أقدم موقع أثري في شمال إفريقيا، كما أنه أقدم من مواقع أخرى موجودة خارج إفريقيا، لكنه متزامن من حيث المرحلة التاريخية مع ما تم اكتشافه في إفريقيا الشرقية، رغم وجود اختلافات بسيطة على مستوى التأريخ، لأنه غالبا ما يكون نسبيا، فما وجد هناك يؤرخ لمليونين و 500 ألف إلى 600 ألف سنة، بينما ما عثرنا عليه يعود لمليونين و 400 ألف سنة، وهو فرق بسيط جدا، لهذا يمكننا القول ـ علمياـ بأن عين بوشريط يعد أحد أقدم المواقع في العالم، لكن ليس أقدمها على الإطلاق.
عين بوشريط أكدت بأن إفريقيا هي مهد البشرية
إلى أي حد يؤكد عمر المكتشفات و طبيعتها النظرية التي تقول بأن أصل الوجود البشري الأول يعود إلى إفريقيا و أن القارة السمراء هي مهد البشرية؟
ـ الاكتشاف في عين بوشريط يؤكد فعلا أن إفريقيا معهد البشرية، فقبله كانت هناك نظرية شعبية أو شعبوية نوعا ما تعرف بـ «إي سايد سطوري»، وتقول بأن البشريات الأولى برزت في إفريقيا الشرقية وتحديدا في الرفث الإفريقي « الانزلاق الواقع عند الحد بين إفريقيا الشرقية و الغربية وهي ثلاث دول على التوالي إثيوبيا، كينيا و تنزانيا»، فقد كان العلماء يعتقدون بأن أول تكنولوجيا بشرية وجدت في هذه المنطقة أولا، ثم انتقلت بعد ذلك إلى باقي إفريقيا، و وصلت في مرحلة لاحقة إلى بقية العالم، وهو عموما ما كان يدرس في الجامعات و الكتب، لكن عين بوشريط أسقطت هذه النظرية، لأنها أثبتت بأن كل القارة الإفريقية كانت مهدا للبشرية، بما في ذلك شمال إفريقيا، وهو الجديد الذي جاء به الموقع.
هناك مؤشرات في الموقع استعملتها شخصيا لتأكيد هذا الأمر و ذلك من خلال مقارنتها بتفاصيل أخرى، فخلال نهاية التسعينيات و بداية الألفية الأولى مثلا، عثر فريق تنقيب و بحث تشادي فرنسي على فك سفلي لبشريات قديمة، كان يعثر عليها سابقا في إفريقيا الشرقية فقط، لكن المفارقة هي أن هذا الموقع التشادي « صحراء بحر الغازات»، يبعد عن إفريقيا الشرقية بـ4 آلاف كيلومتر نحو الغرب، أي أنه بعيد جدا عن الانزلاق المذكور، وهو بالنسبة إلي مؤشر كبير على إمكانية تحقيق اكتشافات أكبر و أهم في شمال إفريقيا، و تحديدا في الجزائر التي تعد صلب المنطقة، بالنظر إلى جغرافيتها الهامة و الشاسعة و نوعية المواقع الأثرية الموجودة فيها، وهي علامة تتبعتها خلال عملي و استطعت بفضلها إثبات نظريتي.
التكنولوجيا التي عثرنا عليها تعد أقدم ما اخترعه الإنسان
. ما هي الحقائق التي قدمتها الأثريات الجديدة عن تكنولوجيا عين بوشريط، هل كان إنسان تلك المنطقة صيادا، لديه القدرة على التواصل؟
ـ التكنولوجيا التي اكتشفناها، عثر عليها في مواقع أخرى في إثيوبيا و غيرها، وهي تكنولوجيا أولى تعود إلى أول ما اخترعه الإنسان، أي أنها تؤرخ لمرحلة مفصلية في تاريخ البشرية ، لكننا لحد الآن لم نعثر بعد في أي موقع من المواقع المذكورة على بقايا بشرية تحدد ملامح الإنسان الذي اخترع هذه الأدوات، كل ما نعرفه أن موقعا في إثيوبيا اكتشف فيه فك سفلي يؤرخ لـ2.8 مليون سنة.
كما عثر في موقع آخر على فك علوي و بقايا تكنولوجية مشابهة، لما اكتشف في عين بوشريط، تؤرخ لـ2.3 مليون سنة، وقد قدمت لنا هذه المكتشفات فكرة عن طبيعة غذاء هذا الإنسان، حيث يحتمل أنه كان يتناول غذاء لينا يرجح بأنه اللحم.
من جهتنا عثرنا في نفس الطبقة الأثرية التي وجدنا فيها الأدوات الحجرية بعين بوشريط، على بقايا عظمية حيوانية تحمل آثار أدوات تقطيع للحوم و العظام، وهو ما يثبت وجود علاقة سببية وطيدة بين هذه التكنولوجيا و البقايا العظمية، وعليه فإن لدينا الحجة العلمية لتأكيد بأن صاحب هذه التكنولوجيا استخدمها لتقطيع اللحوم، رغم ذلك فإن كل ما يمكننا قوله حاليا، هو أن مخترع أدوات عين بوشريط كان نحيفا و يستهلك اللحوم ويستخدم التكنولوجيا، لكن الإجابة عن سؤال هل كان صيادا؟ تبقى غير ممكنة في الوقت الراهن، فلا يمكننا الفصل في هذه القضية، دون معطيات علمية تستند إلى مكتشفات واضحة. ما يمكن قوله أن عملية الصيد في تلك الحقبة التاريخية كانت جماعية بالنظر إلى حجم الحيوانات، وهو ما يتطلب القدرة على التواصل، لهذا فإن السؤال يبقى مطروحا، ويتعلق أساسا بحقيقة وجود مجموعات بشرية في المنطقة و مدى امتلاكها للقدرة على التواصل.
بالمقابل لابد من الإشارة، إلى أن ما اكتشفناه لحد الآن، أثبت لنا بأن إنسان عين بوشريط، سبق آكلات اللحوم في البحث عن الغذاء وهي معلومة مهمة جدا.
النظرة الكولونيالية وراء محاولة فرنسيين الطعن في أهمية الاكتشاف
قلتم في تصريحات سابقة بأن الفرنسيين تعمدوا التعتيم على اكتشاف عين بوشريط و حاولوا تقزيمه، هل الأمر صحيح و لماذا؟
ـ فعلا هو أمر صحيح، و لسوء الحظ الصحافة الجزائرية تعاملت مع الموضوع في بدايته على أنه نقاش علمي، لكنه ليس كذلك، بل هو محاولة صريحة لتقزيم الاكتشاف، من خلال تشويه الحقائق عن طريق صحيفة معروفة بعدائها لكل ما هو جزائري، شخصيا كنت أتوقع من هؤلاء « الخصوم»، إن صح ذلك، رد فعل مماثل، فما قاموا به من استئجار لصحفي مرتزق للطعن في أهمية الاكتشاف دون حجج علمية، ما هو إلا نتاج لصدمتهم تجاه قيمة ما توصلنا إليه من نتائج هامة، لأنهم ببساطة، لم يكونوا يتوقعون قدرتنا على تحقيق اكتشاف بهذا الحجم و التأثير على المنظومة العلمية العالمية، دون وصاية منهم.
أصل المشكل قديم جدا، فالحكاية تعود إلى تسعينيات القرن الماضي، عندما انطلقنا في التنقيب ميدانيا في موقع عين الحنش سنة 1992، حينها اتصل بي أحد الباحثين من المركز الوطني للبحث الفرنسي وعرض علي خدماته، كنت آنذاك شابا منفتحا على المبادرات، فأخبرته بأنني سأتصل به لدراسة مجالات التعاون بمجرد أن نتقدم في الموقع و نحقق نتائج. وبالفعل قمنا بثلاث حملات تنقيبية و حصلنا على لقى أثرية، ولأنه كان مختصا في دراسة العظام، اتصلت به بكل عفوية سنة 1994، و أخبرته بأننا وجدنا بعض الأثريات، و اقترحت عليه التعاون في دراستها، شريطة أن يلتزم بتكوين طلبة جزائريين، لكنني صدمت برده الجاف ورفضه تأطير الطلبة و زيارة الجزائر، إذ طلب مني أن أنقل إليه اللقى الأثرية إلى فرنسا، بحجة عدم استقرار الوضع الأمني في بلادنا، حينها انسحبت من النقاش و انتهى الأمر عند هذا الحد، بسبب طريقته الفوقية في التعامل.
في سنة 1996 تحديدا، بدأنا كفريق في نشر النتائج الأولية لبحثنا و تقدمنا بورقة علمية إلى أكاديمية العلوم الفرنسية، كي تعرض المقال العلمي على مختصين لدراسته والبث فيه، قصد نشره، ولكننا لم نتلق ردا طيلة ستة أشهر، اتصلت حينها بإدارة التحرير للاستفسار، فأخبروني بصريح العبارة، بأن أحد أعضاء اللجنة يقف وراء عرقلة نشر البحث و اتضح بأنه غريمنا السابق، فغضبنا و طلبنا من اللجنة العلمية التعامل مع الأمر بموضوعية أكبر، لكنها غطت على ما قام به ذلك الباحث، و تم تمرير الورقة العلمية لاحقا و نشرت وكأن شيء لم يكن.كانت تلك بداية الحرب، فقد كان المعني يدعي دون دلائل و حجج علمية بأن الورقة المذكورة غير مؤرخة بشكل علمي صحيح، لأننا كنا قد اقترحنا من خلالها تـأريخ موقع عين الحنش بمليون و 800 ألف سنة، وهو الأمر الذي لم يهضمه الطرف الفرنسي، ليس لأن المعطيات خاطئة، بل لأنه لم يكن جزءا في هذا الاكتشاف الهام.
بعد ذلك تقدمنا في بحثنا و اكتشفنا عين بوشريط كموقع، و اقترحنا مجددا تأريخ الطبقات القديمة بمليونين و 300 ألف سنة، و هو بحث أرسلناه إلى المجلة الأمريكية العريقة «جورنال أوف هيومن ريفولوشن» التي قامت بنشره سنة2002، و تم ذلك دون علم المجموعة الفرنسية، إذ بدأنا في هذه المرحلة أولى خطوات التحرر من التبعية و التوجه نحو العالمية.
و جاء رد الفعل الفرنسي المتمثل في قيام ثلاثة باحثين، و كلهم مدراء ذوي مراتب عليا في المركز الوطني للبحث الفرنسي، بالطعن في الورقة البحثية و في نتائجنا مجددا، كنت متواجدا في الميدان عندما تلقيت رسالة بواسطة البريد الإلكتروني من الولايات المتحدة الأميركية، بخصوص هذا الطعن، فاقترحت على الجهة المرسلة، أن أنشر رفقة فريقي ردا في نفس العدد المتضمن الطعن، وفعلا بدأنا العمل بمجرد عودتي إلى أمريكا، حيث اكتشفنا غشا في المعطيات و كذبا و تحاملا على بحثنا، و أجبنا على هذا الافتراء بمعطيات علمية و حجج دامغة، و بالتالي فإن قضية عين بوشريط ليست وليدة اليوم، بل هي حلقة ضمن سلسلة من محاولات التشكيك في كل ما نقوم به، لضرب مصداقيتنا في أوساط المنظومة العلمية العالمية.
ما قاموا به بالتفصيل، كان التشكيك في التأريخ الذي حددناه ضمن الورقة العلمية ، واقترحوا بالمقابل تأريخ موقع عين الحنش بمليون سنة، بدل مليون و 800 ألف سنة، مؤكدين بأن الموقع الذي يشرفون عليه و المتواجد في بلد مجاور يعد الأقدم، كما أن ما يقومون به هناك، يعتبر أحسن مما نقوم به نحن في الجزائر، وقد استمر الوضع على هذا النحو لسنوات، فكلما سنحت لهم الفرصة للتشكيك في بحوثنا العلمية، اغتنموها.
40 ألف تحميل للوثيقة الخاصة بعين بوشريط واستدلال بحثي عالمي بها
من جهتنا، كنا قد باشرنا بين سنتي 2003 و 2004، العمل على إستراتيجية جديدة تهدف للبحث عن طبقات أقدم من عين بوشريط، وقد حظيت شخصيا بدعم من أساتذة وباحثين أميركيين كبار، وبين 2006 و 2008 ، بدأنا نكتشف لقى أثرية في المنطقة، لكن توجب علينا التأكد بصفة علمية قاطعة من صحة التأريخ، وهو عمل دقيق تطلب منا تسع سنوات كاملة، إلى أن توصلنا إلى نتيجة دامغة تثبت بأن الموقع يعود إلى مليونين و400 ألف سنة، كما اكتشفنا موقعا آخر أرخناه بمليون و 920 ألف سنة، وقد حضرنا بحثا دقيقا ونشرناه في مجلة «ساينس» التي قبلته بدون تردد، ولأن هذا البحث يحمل نظرة جزائرية محضة، و تم بمساعي وسواعد جزائرية، بالتعاون مع بعض الأجانب، لم يتقبل الفرنسيون هذا النجاح الذي لم يكن لهم يد فيه، ولم يتم برعاية منهم، ولذا قلت في بداية حديثي، بأنني كنت أتوقع طعنهم بطريقة أو بأخرى في هذا النجاح.
أوكد لكم، بأنه لحد الآن وبعد مرور سنتين وأكثر على مكتشفات عين بوشريط، لم نتلق أي طعن من أي عالم آثار، بالعكس هناك استدلال كبير ببحثنا في الأعمال العلمية عبر العالم، إذ بات بمثابة مرجعية بحثية هامة، و المقالة العملية التي نشرناها حوله، تم تحميلها أكثر من 40 ألف مرة من موقع المجلة، لذا لابد أن نفهم كجزائريين، بأن قضية التراث قضية حساسة، يوجد باحثون لا تزال لديهم نظرة علمية كولونيالية، وهي نزعة موجودة عند فئات من علماء الآثار في الغرب عموما، بما في ذلك بعض لوبيات العلم في فرنسا ممن يعتبرون بأن الجزائر تابعة لهم، و لا مجال لإنجاز أية بحوث فيها دون رعاية منهم، شخصيا خضت حربا طيلة 25 سنة، و هو أمر ليس بالهين، فلأول مرة خرج الجزائريون من العباءة الفرنسية و حققوا إنجازا بهذا لحجم.
نهدف إلى إعادة كتابة بداية ما قبل التاريخ في الجزائر
قلتم بأن الاستدلال بهذا الاكتشاف التاريخي في المنشورات العلمية كبير، هل هذا يعني بأن الموقع بات مرجعية عالمية يستقطب الباحثين ؟
ـ لحد الآن يتعاون في مشروعنا حوالي 25 باحثا، بينهم جزائريون إلى جانب أمريكيين و إسبان وهولنديين وغيرهم، الموقع محل اهتمام من قبل المنظومة العلمية العالمية، فالجميع يتابعون كل جديد فيه، ونحن نحظى حقيقة باحترام كبير من قبل هذه المنظومة، فلا أحد يتجرأ على الطعن في عملنا أو التردد في نشره ، بفضل جديتنا و التزامنا لأن العلماء يحترمون العمل الجاد و يقدرون من يقومون به.
إستراتيجية عملنا تقتضي الاستعانة بالمختصين لحل أية إشكاليات علمية جديدة و فهم الأمور المتعلقة بمكتشف معين، لذلك عادة ما نعرض على الباحثين الأجانب التعاون في مجالات معينة، سواء على مستوى عين بوشريط، أو الموقع الثاني بتيغنيف بولاية معسكر، لأن هدفنا هو إعادة كتابة البداية الأولى، لما قبل التاريخ في الجزائر، انطلاقا من البداية البشرية التي تعود إلى حوالي 2.5 مليون سنة.
نتعاون أيضا مع عدد من العلماء في الموقع الثاني « تيغنيف» كما ذكرت، وقد حققنا تقدما مشجعا فيه منذ انطلقنا في العمل سنة 2013، علما أنه موقع معروف وعالمي اكتشف في خمسينيات القرن الماضي، وهو موقع أحدث بقليل من عين بوشريط و عين لحنش، و قد عرف اكتشاف بقايا بشرية تتمثل في ثلاثة فكوك و عظم دائري لجمجمة و أضراس، لكنه لم يدرس بصفة علمية جيدة، لأن الباحث الفرنسي الذي عمل فيه، وهو أستاذ مختص في دراسة العظام الحيوانية المستحاثية، كان مهتما أكثر بما تم اكتشافه من لقى أثرية أخذها معه إلى فرنسا و هي لا تزال هناك إلى غاية الآن. لهذا فكرت في بعث البحث في الموقع من جديد، و تدعيم متاحفنا باللقى الأثرية الجديدة التي سنجدها هناك، إذ نظمنا منذ2016 حوالي سبع حملات تنقيبية أشرف عليها 20 باحثا و قد تقدمنا كثيرا في عملنا، حيث كان من المفروض أن نعرض النتائج الأولية للأبحاث في مؤتمر علمي عالمي في لوس أنجلس خلال مارس الفارط، إلا أن الجائحة أجلت الموعد، لكننا سنقوم بذلك في السنة القادمة، و نعرض لقى و بقايا تؤرخ نسبيا لحوالي 600 ألف سنة إلى 700 ألف سنة، أرخناها باستعمال تكنولوجيا حديثة جدا، وهو بالمناسبة بحث مكمل لما قمنا به بكل من عين لحنش و عين بوشريط.
هل تتوفر الجزائر على تكنولوجيا قادرة على تعزيز فرصنا في تحقيق مكتشفات أثرية أهم من عين بوشريط؟
ـ لا ليس بالقدر المطلوب، ما نملكه الآن يسمح لنا بإنجاز الأعمال اليدوية و الحفر و التنقيب، وهي أمور كانت غير ممكنة في بداية الثمانينيات، لكن ذلك غير كاف، لأن الأبحاث الأثرية لم تعد تعتمد فقط على الميدان، بل باتت تتطلب أعمالا مخبرية معمقة، خاصة ما تعلق بالعلوم الأثرية، إذ تخص هذه التحاليل تقنيات التأريخ و تساعد على إعادة بناء البيئة القديمة التي تعد مهمة جدا لدراسة البشريات الأولى، ونحن لسوء الحظ لا نمتلك هذه التكنولوجيا في بلادنا حاليا.
أحدث مكتشفات موقع تيغنيف بمعسكر ستعرض في أمريكا
هل هذه التكنولوجيا مكلفة؟
ـ ليس بهذا القدر و لا أعتقد بأننا غير قادرين على توفيرها، فالجزائر بباحثيها وقدراتها المالية قادرة على ذلك، لكن شريطة أن تهتم السلطات العمومية بهذا الجانب، فالحفريات لم تعد الأهم، بل اللقى الأثرية والتربة التي اكتشفت بها.
على حد علمي، هناك مخابر في الجزائر تتوفر على هذه التكنولوجيا كمخابر «سونطراك» وبعض المؤسسات الأخرى، لكن المشكل يتعلق بعدم وجود تنسيق بين جميع الأطراف، شخصيا وظفت الإمكانيات المتوفرة لدي في إسبانيا و أمريكا لتسهيل عملي في موقعي عين بوشريط و عين لحنش، فأنا إلى اليوم لم أقطع صلتي بالجامعة الجزائرية و مراكز البحث، وهو ما أثمر نتائج هامة، وعليه يمكنني القول بأنه على الدولة أن تعي أهمية الأبحاث المخبرية في مجال الآثار، لأن تحقيق أي اكتشاف ذي أهمية مرهون بتوفر هذه التكنولوجيا.
اقتراح لتحويل موقعي عين الحنش وعين بوشريط إلى حظيرة أثرية
ماذا عن مشكل حماية المواقع الأثرية الجديدة، هل تؤيد التوجه نحو عدم التصريح بها قصد حمايتها من النهب والتخريب؟
ـ لابد أن نعرف أن عدم التصريح بالمواقع ليس خاصية جزائرية، بل هو توجه مطبق في العديد من الدول، وذلك على اعتبار أن المكتشفات الجديدة غالبا ما تتسبب في تعطيل عملية التنمية المحلية و تعيق بعض المشاريع، مع ذلك فالاهتمام بالآثار ضروري، لأنها هي الذاكرة الجماعية للمجتمعات، و إذا خسرناها قد نخسر جزءا من ذاكرتنا.
أحيانا من الأفضل عدم التصريح بالمواقع الجديدة لتجنب تخريبها، خصوصا و أن مشكل حماية المواقع يظل مطروحا، رغم وجود قانون جزائري خاص بهذا الشأن 98/04، فبعض المواطنين عادة ما يستولون على المواقع بصفة غير قانونية، لتواجد أجزاء منها ضمن محيط أراضيهم، و المعروف أن هناك قضايا عديدة في العدالة من هذا النوع، على غرار قضية موقع عين بوشريط، لهذا اقترحنا على الوزارة الوصية أن تحول موقعي عين بوشريط و عين لحنش إلى حظيرة أثرية يمكن استثمارها في تحقيق التنمية المحلية و استغلالها سياحيا بشكل مثمر، خصوصا وأن الموقع يتواجد على مستوى الطريق نحو موقع جميلة الأثري.
نتائج البحث في علم الآثار لا تتماشى مع حجم الإمكانيات المتاحة
كيف تقيمون مستوى تخصص علم الآثار في الجزائر وهل نملك كفاءات قادرة على حمل المشعل ومواصلة إنجازاتكم في مواقع عين بوشريط وعين لحنش و تيغنيف وغيرها؟
ـ لنتحدث أولا عن الإيجابيات، ما نملكه من مؤسسات تهتم بالآثار، مقارنة ببلدان أخرى، مهم جدا، وهو أمر باعث على التفاؤل، سواء تعلق الأمر بالجامعات أو المعاهد التي يتخرج منها المئات سنويا، منهم من نشرف على تكوينهم، إضافة إلى المؤسسات ذات الثقل، على غرار مركز البحث في عصور ما قبل التاريخ و المركز الوطني للبحوث الأثرية، و الديوان الوطني لتسيير و استغلال الممتلكات، بمعنى أننا من حيث المؤسسات، نتواجد في موقع مثالي، لكن إن تحدثنا عن المردود فسيقودنا ذلك للخوض مباشرة في السلبيات، لأن الأهداف لم تتحقق لحد الآن.
صحيح أن هناك عددا كبيرا من العاملين في القطاع والمهتمين بالبحث العلمي فيه يشتغلون و ينشطون، لكننا مع ذلك لم نصل ميدانيا إلى المستوى العلمي المطلوب و المهنية اللازمة، فنحن لا نملك الامتياز الذي يسمح لنا بأن نقارن أنفسنا ببلدان مجاورة على ضفة المتوسط، هناك تناقض حقيقي بين الإمكانيات و النتائج المهنية المحققة، أقول هذا، لأن الجزائر تتوفر على كنوز هامة، من شأنها أن تساهم عالميا في دراسة المسيرة الإنسانية.
مشكل الآثار في بلادنا يكمن في غياب التحفيزات و نقص الصرامة في نظام الترقية الذي يجب أن يفرض على الباحثين مواصلة البحث العلمي و تقديم نتائج حقيقية و ملموسة ميدانيا.
غياب التوثيق يعيق مشروع رقمنة المتاحف
ماذا عن وضعية متاحفنا و أين نحن من عملية الرقمنة؟
ـ لا أعرف كل متاحف الجزائر، لكن نظرتي العامة تفيد بأن جل ما تحتويه متاحفنا اليوم موروث عما تركه الفرنسيون، صحيح أن الدولة قامت ببناء متاحف جديدة، على غرار متحف سطيف مثلا، لكن اللقى التي تتوفر عليها هذه المرافق تعد في مجملها موروثة عن العهد الاستعماري و تفتقر للتوثيق الأثري الحديث، يجب أن نعرف بأن الرقمنة ليست سهلة في ظل غياب التوثيق، و الحديث عن متاحف متطورة ترقى إلى مستوى ما هو معمول به في جنوب أوروبا مثلا، يتطلب منا نهضة حقيقية في مجال البحث الأثري، فالأمر لا يتعلق فقط بتزويد المتحف باللقى الأثرية، بل بتوفير المعلومات المتعلقة بها، من أجل تعريف الجمهور بها، لذلك يمكن القول بأننا بعيدون عن المستوى.
في إسبانيا مثلا، حققوا تطورا كبيرا، فهذه المؤسسات تعتبر اليوم القلب النابض للاقتصاد السياحي، و ذلك لأن هذا البلد عرف نهضة بحثية حقيقية في هذا المجال، و خلاصة القول هي أن العملية عبارة عن كل متكامل يتطلب توفر التكنولوجيا و التكوين و البحث و الباحث و الخبرة المهنية والمتحف، ناهيك عن إستراتيجية شاملة للنهوض بالقطاع.
أرفض نقل آثارنا إلى الخارج لدراستها
يقول باحثون أن ما اكتشف لحد الآن في الجزائر من مواقع وآثار لا يتعدى نسبة 10 بالمئة من أصل ما هو موجود، ما هو رأيكم؟
ـ من قدموا هذه النسبة متفائلون كثيرا، فما اكتشف من كنوزنا الدفينة أقل بكثير من 10 بالمئة، وكما سبق وأن ذكرت الجزائر متحف مفتوح.
شخصيا لو يطلب رأيي بخصوص توسيع الحفريات أو التوقف عن التنقيب لفترة معينة، لقلت بأنه من الأحسن أن نوقف الحفر و نترك الآثار مندثرة في الأرض، لأننا ببساطة لا نملك الخبرة المهنية الجزائرية للتعامل مع المكتشفات، ربما هناك بعض الدول تسمح بنقل أثرياتها المكتشفة نحو الخارج، في إطار التعاون من أجل دراستها وغير ذلك، لكنني شخصيا أرفض ذلك، لأن الآثار ميدان حساس جدا يخص الذاكرة الوطنية والهوية الوطنية، و عليه فإنني أفضل ترك كنوزنا مدفونة مؤقتا، لحمايتها ، خصوصا وأننا نفتقر للخبرة الأركيولوجية المهنية العالية اللازمة للتعامل معها، فالتعاون مع الأجانب لا يلغي ضرورة أن تكون إدارة الفريق جزائرية.
مقابل ذلك، يمكن أن أقترح كتوصيات، إعداد خريطة آثار فوق الأرض و تحت الأرض، تحصي كل المواقع و تحدد خصوصياتها، وهو مسعى يمكن للدولة الجزائرية تحقيقه، بالتعاون مع بعض المختصين في الخارج ويمكن من خلال هذه الخارطة، وضح إستراتيجية ناجحة لترقية الآثار و دفع عجلة التنمية في القرى والمناطق الواقعة عند حيز المواقع الهامة.
جل آثار الجزائر موجودة في فرنسا
لماذا لم نتمكن لحد الآن من استرجاع الآثار المنهوبة من الجزائر قبل و بعد الاستقلال؟ و ما الذي يتطلبه ذلك؟
ـ قضية استرجاع الآثار، قضية عويصة و تخص كل بلدان العالم التي كانت مستعمرة و نهبت آثارها خلال فترة الاحتلال، بحيث تعرض اليوم في متاحف لندن وباريس وغيرها، رغم ذلك فإن بلدانا إفريقية و غير إفريقية، لديها تجربة في المجال و قد تمكنت من استرجاع موروثها الأثري فعليا.
بالنسبة للجزائر، فإن جل آثارها موجودة بفرنسا، لهذا وجب علينا أن ندرك بأن القضية تدخل في إطار العلاقات التاريخة المعقدة بين البلدين و لا يمكن عزلها عن هذا السياق، مع ذلك أعتقد أن الرئيس الفرنسي الحالي كان قد تحدث عن إمكانية استرجاع بعض ما تم أخذه من البلدان الإفريقية أو المستعمرات السابقة، و بما أن هناك إرادة سياسية محلية لاسترجاع بعض المتعلقات الخاصة بالهوية الوطنية، على غرار « جماجم الشهداء» فإن الأمر ممكن بالنسبة للآثار كذلك، يكفي فقط إدراج هذا المطلب مستقبلا و التأكيد عليه.
قانونيا و على حد معرفتي، وحسب ما قيل لي، فإن اتفاقية إيفيان تطرقت إلى هذا الجانب، حيث تم بناء عليها، الاتفاق على أن كل اللقى الأثرية التي وجدت خلال تنقيبات ممولة من قبل الحكومة العامة الجزائرية، يفترض أن يتم إرجاعها إلى الجزائر، في حين أن اللقى التي وجدت خلال تنقيبات مستقلة أو نتجت عن مهمات خاصة لباحثين أجانب تبقى في المتاحف الفرنسية، وعلى سبيل المثال، يمكننا، بل يجب علينا، أن نطالب فعليا باسترجاع اللقى التي تعود إلى ما قبل التاريخ و التي وجدت خلال حفريات عين الحنش و تيغنيف خلال الخمسينيات، خصوصا بقايا العظام البشرية التي تم العثور عليها في الموقع الثاني، لأنها تتعلق بأقدم إنسان في الجزائر.
حاورته: هدى طابي