كيف يمكن وصف التعليقات والمناقشات بين بعض الكتاب والأدباء على مواقع التواصل الاجتماعي؟ هل يمكن إدراجها في خانة المناظرات والجدل؟ و هل ننتظر أن تساهم
في ترقية الفكر الديمقراطي الذي يستوعب الاختلاف؟
ما يثير التساؤل هنا تحوّل تلك التعليقات إلى تجريح وشتائم في بعض الأحيان، تماماً كما يحدث بين الذين لا حظ لهم في "الأدب".
حول هذا الشأن "أدب الجدل والمناظرات بين الكُتّاب والأدباء". كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الكُتّاب والأدباء الذين تناولوا الموضوع كلٌ من زاويته وحسب وجهات نظر مختلفة ومتباينة.
* إستطلاع/ نــوّارة لحــرش
* مخلوف عامر
التراشق بالكلام سيِّد الموقف و"المناظرة" تتحوَّل إلى حروب كلامية
المُناظرات تقليدٌ قديم كانت تُنظَّم في مُختلف مجالات العلوم. ومِمَّا شاع منها اليوم المُناظرات التي اِبتدعتها بعض الدول بين المرشَّحين للرئاسة وأصبحت تقلِّدها أخرى. كما تُوجد بعض الفيديوهات تُناقش قضايا دينية، كأنْ تتـمَّ بيْن مسلم ومسيحي مثلاً.. وقد تأخذ المُناظرة منحى "الاِتجاه المُعاكس" فتَخوضُ في قضايا سياسية ساخنة، لكنَّها غالباً ما تنحرف عن ضوابطها حين ينحاز المُنشِّطُ إلى أحد الطرفيْن على نحو مفضوح.
إنّ المُناظرة في تعريفها المُبسَّط هي إثبات صحة رأي أو فكرة سعياً للإقناع اِعتماداً على أدلَّة وحُجج. وقد تميل إلى إرادة المُغالبة لإثبات الذات.
ففي حالة السعْي لإثبات الذات تكون الدوافع ذاتية أصلاً، وهذا ما يجري عادةً في الساحة الثقافية ببلادنا. حيثُ يُصبح التراشق بالكلام سيِّد الموقف وتتحوَّل "المناظرة" إلى حروب كلامية كثيراً ما تخرج عن آداب اللياقة لتزرع العداوة والبغضاء.
لعل وسائل التواصل الاِجتماعي اليوم هي الفضاء الّذي يحتضن هذه المناكفات. فنتصوَّر الشخص وهو يكتب يترقَّب عدد الأنصار الذين سيؤيِّدونه ويجاملونه حتى يخرج كاسباً. فهي كتابات تستجدي الرأي العام وتُدغدغ العواطف، عِلماً بأنَّها تثير قضايا حسَّاسة كالعِرق واللّغة والدين وغيرها مِمَّا يتَّصل بالهوية. وعندما تُلْقى هذه المسائل المصيرية الخطيرة بيْن العوام، فإنَّ النتيجة معروفة مسبقاً في مجتمع تتفشَّى فيه الأمية وينقاد للخطاب الشعبوي. ويكفي أنْ نتابع التعليقات لنتخيَّل حشداً من الجيش وكأنَّه يخرج من معركة مبتهجاً بنشوة النصْر ويتشفَّى في العَدُو.
لقد شهدنا مثل هذا في سبعينيات القرن الماضي حيث اِحتدَّت المُشاحنات بيْن أنصار التعريب وخصومهم، فلم تُثْمر غير مزيد من الاِنقسام وانتهيْنا إلى مستوى مُتدَنٍّ لم يُتْقن فيه المتعلِّمون لا العربية ولا الفرنسية. لأنّ الهوية اِستحالت جثَّة تنهشها التيارات السياسية العقيمة. كلٌّ يسحب الهوية منْ بُعْدٍ واحد حتى تمزَّقت بتمزُّقهم.
جاء في كِتاب ((محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء للراغب الأصبهاني)) أنّه، "اِجتمع مُتكلِّمان فقال أحدهما: هل لك في المناظرة؟ فقال على شرائط ألا تغضب ولا تعجب ولا تشغب ولا تحكم ولا تقبل على غيري وأنا أكلمك ولا تجعل الدعوى دليلاً ولا تُجوِّزْ لنفسك تأويل آية على مذهبك إلا جوَّزتُ إلى تأويل مثلها على مذهبي"[ص:37].
ما يعني أنَّ للمناظرة آدابها، منها تحديد الموضوع والتمييز بيْن الرأي والحجة والتركيز على الفكرة لا الشخص وتجنُّب التعميم وغيرها من المقاييس التي دفعت بعض الباحثين إلى إعداد دراسات حول الأساليب والتقنيات الفعَّالة في إدارة الندوات والاِجتماعات لتكون مُجدية.
فإذا لم تلتزم المناظرة بالآداب المُتعارف عليها تنجرُّ عنها مجموعة من الآفات عدَّدها "أبو عمر محمد عبد الملك الزغبي" في كتابه: ((أصول المناظرة وروائع المناظرات)) منها: الحسد والتكبُّر والحقد والغيْبة وتزكية النفس والتجسُّس وتتبُّع عورات النّاس والفرح لمساء النّاس والغمّ لمارسهم والنفاق والرياء..
مِمَّا يُؤسف له أنّ بعضاً ممَّن نال شهرة -ولو مُستحقَّة- تسكنه نرجسية مُفرطة فيصبح أشبه بحاكم مُستبدّ يَودُّ لو أقصى كلَّ مُنافس مُحتمل. وكأنّ دنيا الفكر والأدب ضاقت لتنحصر في شخصه المُبجَّل، كما أنَّ مَن يبحث عن شهرة مفقودة يتصيَّد عيوب اسم معروف ويركبها للعبور إلى شاطئ الشهرة.
إنّ ظواهر مثل الغيْبة والنميمة والغيرة متأصِّلة في أوساط النُّخَب، وتبقى طبيعية مادامت تدور في الكواليس. ولكن أنْ تُنشر على الملأ لأغراض لا علاقة لها بالعِلم والمعرفة، فإنَّ ذلك من شأنه أنْ يصرفنا عن قضايا جوهرية ينبغي أن تكون محلَّ نقاش عميق.
والحقٌّ، أنَّا لا نفتقر إلى باحثين في سائر المجالات بإمكانهم أنْ يُثروا تجربتنا على نحو مُرْضٍ ومفيد، يُؤسِّس لمستقبل أفضل. فالمرء إذا عاش لذاته، تبدو له الحياة محدودة بعمره القصير، فأما إذا عاش لفكرة، فإنّها تبدو له طويلة لا تنتهي.
* محمّد تحريشي
من مصلحة الفكر استمرار المناظرات من دون السقوط في الإسفاف
إنّ موضوع المعارك الأدبية أو ما يُمكن أن نُسميه أدب الجدل والمُناظرة يحتاج منا وقفةً متأنية ترصد أهم هذا الإنتاج اللغوي التواصلي قبل أن نسمه بأي وسم آخر، ويستدعي ذلك اِستقراء كلّ النماذج والتجارب السابقة واللاحقة ووضعها في سياقها التاريخي والثقافي والفني والجمالي. وإذا نظرنا إلى الموضوع نظرة تاريخية، فسنجده قديمًا قِدم الأدب نفسه، وعلى سبيل الذكر لا الحصر فقد نذكر شِعر النقائض بين جرير والفرزدق والأخطل، وقد نذكر المعركة الأدبية حول شِعر أبي تمام، وحول شِعر المتنبي.
وفي العصر الحديث يمكن ذكر ما خلّفه كتاب "في الشِّعر الجاهلي" لطه حسين من تفاعل حجاجي وتناظري من مثل كتاب مصطفى صادق الرافعي" تحت راية القرآن" وأشتد الأمر إلى أن ألف طه حسين كتابًا آخر بعنوان "في الأدب الجاهلي" تراجع فيه عن بعض آرائه في الكِتاب الأوّل. والشيء بالشيء يذكر؛ فمعركة الشِّعر الجديد بين العقاد والشعراء الجُدد أسالت الكثير من الحبر وطورت الكثير من آليات النقد والجدل والمُناقشة. ولعلّ من أشهر المعارك ما وقعت فيه كتابات نصر حامد أبو زيد من مناظرة وحجاج وكتابة وردود عليها.
وفي الجزائر وقعت الكثير من المناظرات الأدبية والخصومات بين رجالات الأدب والثقافة، ويمكن أن نذكر هاهنا ما وقع بين الأستاذين عبد المالك مرتاض والنساج والتي اِنتهت برد عبد المالك مرتاض بمقالة مطولة بعنوان "ما هكذا ينسج النقد يا نساج".
ولعلّ المُلاحظ أنّ هذه المناظرات كانت مفيدة للقُرّاء في تطوير آليات القراءة وقراءة القراءة، كما أنّها طورت من آليات الكتابة عند أصحاب المناظرات وتقوية آليات الحجاج والرد لديهم، حتّى وإن نزل بعضها إلى مستوى الإسفاف والمُهاترة والسوقية وتوظيف معجم لغوي لا يليق بسمو الأدب والفكر حيث تحتل فيه بعض الكلمات النابية واللا أخلاقية حيزاً كبيراً، ومع ذلك أفاد الأدب والفكر منها كثيراً.
اِنتقلت هذه الظاهرة إلى وسائل التواصل الاِجتماعي ودارت بعض المخاطبات الكلامية والتي وصل بعضها إلى ما يمكن أن نسميه معارك أدبية وفكرية وكلامية، في حين أنّ بعضها الآخر يمكن أن ندرجه ضمن ما يُعرف بالأدب التفاعلي أو الأدب الرقمي من دون المساس في صفات الكاتب الخلقية والأخلاقية وسرد مجموعة من الفضائح التي يمكن أن تُدرج في الحياة الخاصة للكاتب. وأرى بأنّ هذه المناظرات لن تتوقف ولابدّ لها أن تستمر لمصلحة الفكر وترقية النقاش والحجاج، وعليها أن تبتعد عن الإسفاف والمساس بالشخص.
* عبد الحفيظ بن جلولي
ما يحدث في الفيسبوك بعيداً كلّ البُعد عن أدب الجدل والمناظرة
تثور قضايا الجدل في الأوساط الفكرية والأدبية عندما تتكرّس بعض التّقاليد الثّقافية النّاظمة للعلاقات الأدبية بين الكُتّاب والأدباء، فتتأسّس تجمّعات الأدباء أو "السّمريات المنظّمة" ومنها فكرة "الصّالون الأدبي"، حيث تتحدّد الرّؤى والأفكار حول القضايا الأدبية التي يختلف حولها الأدباء والنُقاد مِمَّا يُحيل بداهة إلى إثارة الجدل والمُناظرة حولها، ففكرة التّأسيس والتّكريس والتّقليد مهمّة جدّا في النّظر ومُعالجة إشكالية أدب الجدل والمناظرات.
الوسط الأدبي، أي وسط كان، لابدّ أن تُحيطه بعض المحدّدات، ومن أهمّها الشّكلية، لهذا لعب الصّالون دوراً مُهمّا في تطوّر الأدب والنّقد والجدل الأدبي في مرحلة النّهضة العربية وبعيدها، ثم نكص الوضع وارتدّ العقل إلى مرحلة التّنابز التي لم تُثِر سِوى العداوات والحساسيات المفرطة بين الأدباء والكُتّاب، والجزائر لا تحيد عن هذا القانون، إذ -حسب رأيي– كان يمكن أن تكون تجربة "نادي الترقي" (1927) فِعلاً ثقافيًا جادّاً وواعيًا ومؤسّسًا لحركة ثقافية مناظراتية وجدلية باِمتياز، لأنّه كان النّواة الأصلية التي تدور حولها المظاهر الأدبية والفكرية المُتمثلة في الجرائد المُختلفة والتي تُعبّر عن مختلف القناعات والاِتّجاهات، وأيضا الاِتجاهات الفكرية المُضادّة لفكر "الترقي"، وعجّت حينها الحياة الأدبية بكلّ ما يمكن أن يُوصف "بالحمّى الثقافية"، ذلك الوضع الّذي اِزدهرت فيه رغبة المناظرة وتوهّج الجدل، فقط يمكن الإشارة إلى أنّ الوضع السّياسي كان متقدّمًا رغم وقوع الوطن فريسة للمستدمر الفرنسي، فالحالة السّياسية المحمومة بوعي الحرّية والاِستقلال ساعد في مسار الفِعل الأدبي وأدّى به إلى التلاقي على منبرية الجدل.
تشكو الحركة الأدبية الوطنية راهنًا من ميكانيزمي الجدل والمُناظرة، ذلك أنّ الوضع المُتقهقر يشمل كافّة المناحي، وعلينا أن نطرح سؤال الجدوى الأدبية المُتعلق بعدد الحصص الثقافية، وعدد اللقاءات بين المثقفين، مراكز صنع القرار الأدبي ولعلّ أقله المقهى الثّقافي، ولستُ مُلزمًا بذكر تجربة مقهى طنطنفيل TANTONVILLE في نسخته الجزائرية كما يُقول المؤرخ سعد الله "مقهى ليس كغيره من المقاهي"، والّذي يقع على مسافة قريبة من المسرح الوطني. لهذه المظاهر ولاشك أثرها على الوعي والفكر والعقل في التّأسيس لدائرة أدبية وطنية تُمثل الفِعل الجواري المُثير للجدل والمُناظرة وكافّة العلاقات الثّقافية التي تُميّز "المُجتمع الحيوي"، طبقًا لما هو مُحقّق من "حرّية" و"استقلالية" في الفكر والرّأي وعليه يمكن القول ليس فصلاً -لأنّه هناك ما يمكن أن يكون دافعًا إلى حركة مناظراتية وجدلية في الأدب- بأنّ أدب الجدل والمناظرة وفق أصوله وقواعده مُفتقد في السّاحة الوطنية لسبب بسيط وهو غياب الشّكل الحاضن وانعدام القناة النّاقلة وغياب الرّغبة في تقنين الفِعل الثّقافي.
عندما يتم الحديث حول أدب الجدل والمُناظرة إنّما يكون حول جانب هام من جوانب الحياة الثّقافية الّذي لا يحدث عرضاً، وإنّا يتم وفق تاريخية مكرِّسة لأبجديات الفِعل الثّقافي والأدبي، فتحديد القضايا الأدبية العميقة و المُتفاصَل حولها من قِبل الدّوائر الثقافية المحدّدة بالطاقات والوجوه والاِتّجاهات التي تختلف وفق أصول الحوار الضّامن للقاء وطبقًا لمبدأ الاِختلاف والمعرفة العميقة بالمفهوم المُختلف حوله، إنّ الاِجتماع حول فكرة بعينها يُساهم في تشكيل "لوبي ثقافي"، بعيداً عن المعنى السّياسي السّلبي، يؤدّي بالضّرورة إلى فكرة التّعاون لأجل تكريس ديمومة الفِعل الثّقافي في تنوّعه وتعدّده واختلافه داخل مؤسّسة تحضنه، وهو ما تُساهم فكرة "اللوبي الثقافي" في إنتاجه كونها تُشكل واجهة منظّمة مادّيًا وقانونيًا وفكريًا.
حسب رأيي المتواضع، علينا أن نتجاوز الفِعل الثّقافي العابر المُمثل بالمنبر الاِفتراضي (فيسبوك)، حتّى لا يصبح معياراً لقياس درجة نكوص أو تطوّر العمل الثّقافي ومنه الجدل والمناظرة، إذ في رأيي أيضا أنّ من أهم مميّزات الجدل والمناظرة هو الوجود على الواقع وفيه، حتّى يكون واقع المناظرة ومسار الجدل متأثراً بالسلوك الإنساني في اِنفعالاته النّفسية والوجدانية العميقة والبادية في حركة الجسد والكلام، وأيضا "النّظام" الّذي يخضع له الجدل والمناظرة وهو ما يُمثل المفهوم الأعمق والشّامل لمعنى "أدب" التي تسبق معنيي "الجدل" و"المناظرة"، ولهذا أعتبر ما يحدث في الفيسبوك بعيداً كلّ البُعد عن أدب الجدل والمناظرة.
* أحمد دلباني
السقوط تحت سحر مواقع التواصل يجرّد المثقف من قيم الاِحترام والموضوعية
قبل أن نتناول واقعَ حضور المثقفين في مواقع التواصل الاِجتماعي عندنا يحسنُ بنا ربّما، أوّلاً، أن نُنبِّه إلى أهمية الواقع التكنولوجي الجديد الّذي وسَّع، بدرجةٍ كبيرة، مساحة الحرية التي يتطلبها كلّ فِعل ثقافيٍّ-فكري جاد ونقديٍّ وغير مُستلب أو مُدجن. هذا الأمرُ أصبح معروفًا وخصوصًا في عالمنا العربيِّ الّذي عاش، طويلاً، على اِحتكار المنابر الثّقافية والإعلامية من قِبل أنظمة الأحادية والاِستبداد والقمع. فمواقع التواصل الاِفتراضية حرَّرت الكلمة، بكلّ تأكيد، من التبعية كما حرَّرت المكبوت الثقافيَّ والسياسيَّ بعيداً عن كوابح الإعلام الرسمي. إذ إنَّ العولمة الحالية غيَّرت الكثير من الأوضاع بعد أن سقطت الجدرانُ الإيديولوجية التقليديَّة وتطورت تكنولوجيا الإعلام والاِتصال إلى الدرجة التي نشهدُ اليوم وخصوصًا مع هذه المواقع التي لا تخضعُ للرقابة. لقد قدَّمت العولمة، بهذا المعنى، هديَّتها إلى الدول الوطنيَّة في صورة "حصان طروادة" أتاح اِختراقَ القلاع الحصينة إيديولوجيًا وأمنيًا، وحرَّر مساحة القول من القيود السياسيَّة التقليدية نسبيًا. هنا وجد المُثقف نفسه بعيدًا عن رقابة السلطة بمفهومها المُباشر.
لقد أصبح الواقع الاِفتراضي، بذلك، مساحاتٍ يُصنعُ فيها الرأيُ العام ويُمارس من خلالها التأثيرُ المُباشر على النّاس ومُختلف توجهاتهم السّياسيّة والثقافية. ولكنَّ هذا الأمرَ، على أهميته، لا يعدمُ وجهًا آخر سلبيًا بالنسبة للحياة الثقافية والإبداع ومُجمل النشاطات الخلاّقة في مضمار الفِكر والفن وحتّى العلاقات بين المُبدعين والمثقفين. أليس الّذي تشهدهُ هذه المواقع عندنا، بين طائفةٍ من الكُتّاب والمثقفين مثلاً، دليلاً على بعض مثالب التكنولوجيا وسقوط الحرية في الاِبتذال والفوضى والرداءة وانعدام حسِّ المسؤولية؟ فقد بلغ الأمرُ، في غالب الأحيان، مبلغًا مؤسفًا أصبح يُنذر بإمكان نسف جسور التواصل والنقاش الثقافي العالي نهائيًا، فضلاً عن سدِّ المنافذ أمام الاِستثمار في الاِختلاف الفكري والإيديولوجي و"رؤى العالم" بين النُّخب على اِختلاف توجهات أصحابها ومشاريعهم وطرائق نظرهم إلى الواقع المُعقد المُلتهب. كان علينا أن نكونَ في مستوى الحرية التي لا تنفصل عن المسؤولية المعبِّرة عن الموقف الحر والنقدي من قضايا الفكر والسياسة والتطلعات العامة للمجتمع. كان علينا ألا نتجرجرَ وراء سحر رمال الاِستسهال والاِبتذال المتحركة. إذ كان علينا، ربّما، أن نؤسِّسَ، بداية، لأخلاقيات الحوار والنقاش الحر بعيداً عن الاِتهامات المجانية ومُمارسات التخوين وادِّعاء الوصاية على إرث الجزائريين المُشترك.
أعتقدُ، شخصيًا، أنَّ الفكرَ، في أعتى تجليّاته واختراقاته، ليس إلاّ محاولات دائمة لقطف الثمرة المُحرَّمة في حدائقنا المُسيَّجة جيِّداً بترسانة هائلة من الموانع والمُقدَّسات التي لم تتعرض للتفكيك، والتي يسعى البعضُ إلى التموقع –اِجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا– من خلال اِنتداب نفسه للذود عنها بصورة ممجوجة أحيانًا. لم نُؤسِّس، إلى اليوم، لفضاءات سوسيو – سياسية تحمي سارقَ نار المعرفة الكاشفة من تعسف الواقع الّذي يشهدُ انهياراً لقيم الاِختلاف والحرية. كبدُ بروميثيوس العربي لا تزال تنزفُ تحت رحمة الآلهة السادية من المحيط إلى الخليج. الأحرى بنا، ربّما، أن نُدافعَ عن الحرية أوّلاً، وأن نفتحَ نقاشًا عامًا مُثمراً، أيضا، حول حدود هذه الحرية الفكرية في الفضاء المدني العام قد يُفضي –من خلال إسهامات المثقفين والكُتّاب– إلى ترسيخ تقاليد الحوار واحترام الاِختلاف بمعزل عن كلّ أشكال الإقصاء والإدانة التي تؤلب العامة على مواقع التواصل، وترفعُ منسوبَ التهييج ضدَّ المُثقف في واقع اِجتماعيٍّ لا يزال تحت السلطة الروحية للداعية التكفيري ومُروِّج الخرافة وتاجر الأوهام الشوفينية. علينا ألا نستجيرَ بالعنف الاِجتماعي الكامن إزاء الاِختلاف لتأكيد سلطتنا الثقافية أو سطوتنا على المشهد البائس. هذا فشلٌ واندحارٌ للعقل وللقيم الحضارية بعامة. وليسمح لي الكثيرون، هنا، عندما أقول إنَّ ما نشهدُ بعضه اليوم على مواقع التواصل الاِجتماعي، يذكرني بِمَا قاله الكاتب الراحل أمبرتو إيكو وهو ينتفض غاضبًا أمام هذه المساحات الاِفتراضية التي فتحت المجال –كما يُعبِّر- "لجحافل الحمقى" دون ضوابط ولا معايير. لا أحب أن يقعَ المُثقفُ تحت سحر مواقع التواصل إلى الدرجة التي يتمُّ فيها تجريدُه من قيم الاِحترام والموضوعية والنقاش المُتزن.
أستدرك فأقول، هنا، إنّني بكلامي هذا لا أنتقدُ كُتَّابًا بعينهم وإنّما واقعًا مؤسفًا. ولكنّني أعتبر هذا الأمر، على كلّ حال، فرصة سانحة لمراجعة تعاملنا مع المواقع الاِفتراضية من جهةٍ، والعمل، من جهةٍ أخرى، على ترسيخ أبجديات النقاش الثقافي والفكري لا بالتركيز على الأشخاص وحياتهم الخاصة أو اِستحضار "النميمة الإيجابية" التي مارسها بعض الكُتّاب "الكبار" في الماضي القريب. هذا الأمرُ مخجل صراحةً وغير أخلاقي. لا يكونُ النقاشُ بين المثقفين مُثمراً وإيجابيًا وكاشفًا من خلال تصفية الحساب مع المُختلف أو التشهير بمواقفه -التي قد نختلف معها بالطبع- وإنّما بزحزحة النقاش إلى مستويات منفتحة على قضايانا المشتركة التي تهمنا كجزائريين في عالم يشهدُ تحوّلات بنيوية عميقة وانفجاراً لقارة المكبوت الثقافي بعد اِضمحلال الأحلام الخلاصية للإيديولوجيات الكُبرى. وربّما هذا ما يُفسِّرُ، ولو جزئيًا، ذلك التشظي الّذي يُميِّز خطابات بعض المثقفين حول قضايا التعدّدية الثقافية واللغوية في بلادنا، أي باِختصار ما يمكن أن نتناوله تحت تيمة "الهوية". ولا يفوتني، هنا، أن ألاحظ، من زاوية أخرى، شيوعَ السطحية والاِستفزاز أحيانًا في منشورات بعض الأصدقاء من الكُتّاب والمثقفين الذين بإمكانهم أن يُدشنوا نقاشًا أعمق نلمحُ من خلاله تخومَ اِنتمائنا الإنسانيِّ والثقافي التي لا تتضاربُ مع جذورنا وتاريخنا بكلّ أبعاده الحضارية بعيداً عن كلّ نزعةٍ شوفينية أو إثنية مغلقة.
إنَّ ما تمكن ملاحظته في نقاشاتنا الاِفتراضية وغيرها لا يخرجُ، في عمومه، عن التأكيد على مطالب الهوية ومحاولات تعريف الذات الجماعية من أجل رسم خارطة التطلعات المشتركة. إذ من المعروف أنَّ المطالب الهوياتية تتحوّل في لحظاتِ الأزمة مع الراهن المضطرب إلى ملاذٍ وطوق نجاةٍ للذات الجماعية الخائبة في محيط اللحظة التاريخية؛ فلا يعودُ النّاسُ يتعرفون على أنفسهم إلاّ في تلك الروابط التقليدية السابقة على ميلاد الروابط السياسية الحديثة لدول وطنيةٍ فاشلة تنمويًا وحقوقيًا. لذا نعتقدُ أنَّ تفاقمَ الحديث عن مشاكل الهوية ومطالب الاِعتراف والحق في الاِختلاف يجدُ مكانه وحلوله المُمكنة في فلسفة حقوق الإنسان التي يجبُ أن نتبناها باِنفتاح ووعي ومسؤولية حتّى لا تُفلتَ النارُ من بين أصابعنا ويتحوّل -ما هو مشروعٌ إنسانيًا وثقافيًا وأخلاقيًا وسياسيًا- إلى "هويات قاتلة" كما يُعبِّرُ أمين معلوف في كتابه المشهور الّذي خصَّصه لدراسة بعض الاِنحرافات الهوياتية نهاية القرن الماضي، والعالمُ يشهدُ تفككًا سبَّبه اِنهيارُ إيديولوجياتٍ خلاصية ظلت تُؤجل يقظة بركان المطالب الثقافية الخامد. فعلينا، إذاً، مُعالجة هذا الأمر بنوع من الحكمة التي تجعل من الهوية اِعترافًا بالتمايز والاِختلاف ضمن الوحدة الوطنية من جهةٍ، ومصالحة مع المستقبل، من جهةٍ أخرى، على اِعتبار أنَّ الهوية ليست الجذور فحسب وإنّما هي أيضا الصيرورة والإبداع المُستمر للذات.
أخيراً، أقول إنَّ علينا أن نتذكر دائمًا أنّنا ننتمي إلى تاريخ ثقافي وحضاريٍّ عظيم شهد ترسيخ قيم الحوار والنقاش الحر والمُناظرات الكُبرى حول أمهات القضايا الفكرية والأدبية واللاهوتية منذ قرون خلت. وهل نحنُ في حاجةٍ، هنا، إلى التذكير بأعمال التوحيدي وابن رشد والغزالي والقاضي الجرجاني ومحمد عبده وطه حسين تمثيلاً لا حصراً؟ هل نحنُ في حاجةٍ إلى اِستعادة ذكرى التثاقف والتواصل الحضاري الّذي كان لأسلافنا أن يكونوا من رواده في التاريخ القديم؟ هل نحتاجُ إلى التذكير بِمَا كان للعرب والمسلمين من يدٍ بيضاء في مدِّ الجسور مع الآخر والتمكين لفضائل التسامح بمعزل عن أُطر إدراك الآخر المُغلقة دينية كانت أو عرقية؟ هل نحتاجُ إلى الإشارة لِمَا مثلته اللّغة العربية الجليلة البهيَّة -في حوض المتوسط- وهي تحفظ تراثَ الأقدمين وتنقل ثمار العقل وتجاربه في اكتناه العالم وبحثه المحموم عن الحقيقة في ليل الوجود؟ لقد كان لي شخصيًا، في مناسبات كثيرة، أن أفتح نقاشًا مع طائفةٍ من الكُتَّاب والمثقفين تمخض عنها نقاشٌ هادئ حول مسائل ومشكلات مختلفة؛ وكان دأبي في ذلك اِحترامُ كلّ الآراء والمواقف ومناقشتها اِنطلاقًا من توجهات فكرية أتبناها وأدافع عنها ولكن ليس إلى الدرجة التي تجعلني أعتبرها عقائد جامدة غير قابلة للمراجعة. فأنا لستُ أصوليًا أو دوغماتيًا بالمعنى الفكري–الثقافي وإنّما أعتقدُ، إبستيمولوجيًا، بنسبية الحقيقة وعملية تولدها الصعبة ضمن إكراهات التواصل الدائم والجدلي مع الواقع المُتحرك والآخر وفتوحات المعرفة. ولكنّني أقول، هنا، علينا أن نُعيدَ بعثَ شيءٍ من روح تراثنا العظيم في هذا المجال -على الأقل بين المثقفين– ونحنُ نرى الصحراء تمتدُّ حولنا في بلدٍ بائس ثقافيًا لا يملك مجلة ثقافية واحدة تمثله، أو منبراً يعكسُ حيوية النقاش الاِجتماعيِّ والسياسي والفكري في مجتمع تعدديٍّ ناهض كالمجتمع الجزائري. علينا ألا نترك مواقع التواصل الاِجتماعي مُتنفسًا سهلاً لمكبوتنا الفكريِّ أو السياسي فهي لن تُشكل أبداً بديلاً عن المنابر التي أشرتُ، بنوع من الحسرة، إلى غيابها.
* عبد الحميد بورايو
هناك انكفاء للمثقفين وتطاول لمحدودي الثقافة
عرفت الثقافة العربية منذ القديم أدب الجدل والمناظرة، غير أنّ هذا الفنّ الأدبيّ خضع لظروف وسياقات مختلفة من عصر إلى آخر، كما اِختلفت طُرقه ووسائله، كان في القديم لقاءات ومواجهات في حضرة سلطة سياسيّة أو فكرية، ووسيلته المُشافهة، ثم أصبح في عصر النهضة عبر الصُحف، وكثيراً ما يُجمع في مؤلفات، وقد اِزدهر بصفةٍ خاصّة في عصر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين. نجده في العقود الأخيرة قد اِنتقل إلى فضاء التواصل الاِجتماعي.
يكونُ الجدل والمناظرة عادةً نقاشًا حول مسائل معيّنة من مجالات الحياة الثّقافيّة والسّياسيّة والأدبيّة، يعبّر عن مواقف مُتباينة من القضايا المطروحة في هذه المجالات. شهدت الثقافة العربيّة الحديثة هذا الفنّ خلال القرن العشرين عن طريق الصُحف في مختلف البلاد العربيّة، وقد اِختلفت هذه النقاشات من قطر عربيّ إلى آخر، وتناولت موضوعات شتى؛ أدبية واجتماعية واقتصادية وسياسيّة وإيديولوجية الخ... كانت مثل هذه الجدالات والمُناظرات ذات قيمة نوعيّة تبعًا لوجود نُخب ثقافيّة محترفة في مجال المُمارسات الفكرية والأدبية والثقافيّة، وهو أمرٌ اِختلف من بلاد عربيّة إلى أخرى، وقد دارت حول مسائل شغلت هذه النُّخب، مثل موضوعات التراث والقومية العربية والإسلاميّة والحداثة الشِّعرية واللّغة وعلاقة الأدب بالواقع والاِلتزام.. الخ... وقد بلغت أوجها وظهرت تأثيراتها على النهضة الأدبية والفكرية خاصةً في النصف الثاني من القرن العشرين. اِتجهت هذه الجدالات والمُناظرات إلى الضُعف شيئًا فشيئًا في نهاية القرن العشرين والعقود الأخيرة من قرننا هذا بفعل اِتساع التعليم وتعدّد الوسائط الإعلامية وانحصار دور النُّخب الثقافيّة في المجتمع، ومن جرّاء الاِضطرابات السياسيّة وهجرة المثقفين.. شهد قرننا الحالي دمقرطة واسعة في اِستعمال الوسائط مِمَا أثّر على نوعيّة الجدل والمُناظرة اللذين تمّ تهميشهما بتهميش النُّخب الثقافيّة في مختلف الأقطار العربيّة، لم تعد هناك قضايا أساسيّة مطروحة مثلما كان الأمر خلال القرن العشرين، بل غلبت نقاشات ثانوية وذاتية، تعبّر عن أزمة فكرية وثقافية تمرّ بها المجتمعات العربيّة بفعل التأثير المُتزايد للتيارات السلفية ذات الفكر الأحادي، التي ترفض النقاش مبدئيًا بحكم أنّها تعتبر نفسها ناقلة للفكرة الإلهية للإرادة ومنفّذة لتعاليمها، والتي سيطرت على مجتمعاتنا سياسيًا وثقافيًا، وقد اِستجابت السلطة السياسية لها تقربًا من عموم النّاس ذوي الثقافة المحدودة والذين يمثلون كتلة اِنتخابية لها وزنها في الحفاظ على أنظمة الحكم.
ما تعيشه مجتمعاتنا من اِضطرابات سياسيّة وتدهور للبنيات والمنظومات التعليمية والثقافية التي كانت مستقرة نسبيًا، في النصف الثاني من القرن العشرين، له تأثيره الكبير فيما أصاب الثقافة عمومًا من ضُعف ورداءة في إثارة المسائل والجدال حولها. يُلَاحَظُ أنّ هناك اِنكفاء حول الذات عند الكثير من المثقفين ذوي القدرات الذهنية الذين بإمكانهم خلق (جوّ مناسب) للجدال والمُناظرة، في مُقابل ذلك هناك تطاول وجراءة من طرف بعض محدودي الثقافة في الدخول في نقاشات لا يمتلكون القدرة على خوضها. شجّع على كلّ ذلك التضييق على الحرّيات السياسية والفكرية في العالم العربي بسبب بعض ما ذكرناه أعلاه من اِضطراب ومخاض تعيشه مجتمعاتنا لا تبدو معالم مستقبله واضحة..
مع ذلك، وبالرغم من الصورة السوداوية التي رسمتها لواقع الجدل والمناظرة في العقود الأخيرة، تجدر الإشارة إلى وجود ما يمكن أن يُعوّض فنّ الجدال والمُناظرة المباشر بين الأطراف، والمُتمثل في ما تنشره الصحافة المكتوبة في صفحاتها الثقافية من ملفات خاصّة بقضايا ثقافية وأدبية. عادةً ما يُساهم في هذه الملفات نخبة من المثقفين المُتخصصين ومن لهم تجربة معتبرة في مجالات معيّنة، وتطلعنا هذه الملفات على وجهات نظر مُتعدّدة في موضوعات معيّنة، يمكن القول بأنّها تعوّضنا عمّا خسرناه من غياب للجدالات والمناظرات الجدية، وتُحافظ إلى درجة ما على المستوى الراقي والموضوعي لإبداء آراء مُختلفة حول قضايا ساخنة، ولاشكّ أنّ للإعلاميين الذين يشرفون على مثل هذه الملفات دورهم في الاِختيار وفي طبيعة الأسئلة الموجهة والقضايا المُثارة، فهم بدورهم طرفٌ في هذا النوع من النقاشات، تنعكسُ قدراتهم ومعارفهم ومستواهم على طبيعة هذا النشاط الثقافي النوعيّ.