عن دار ميم للنشر، صدر في الآونة الأخيرة كتاب تحت عنوان «فضاء العجائبيّ في أفق الرّواية اللاّتينو–أمريكيّة» للكاتب والصحفي المختص في الشأن الثقافي حميد عبد القادر. الكِتاب يُقدّم مسار الرّواية اللاّتينو–أمريكيّة. ويسعى لاِستكشاف أُفق العجائبيّة والسِّحرية التي اِشتهرت بها، والتي جعلت روائييّ أمريكا الجنوبيّة يتطورون إبداعيًا، وحتّى فكريًا، بالنظر إلى مدى الاِقتراب منها عبر المُحاكاة والاِقتداء والتّقليد، أو الاِبتعاد عنها بالتخلّي والتجاهل وعدم الاِكتراث. فعلى مدى الثّمانين سنة الماضية، تطورت هذه الرّواية في علاقتها بالواقعيّة السّحرية أو العجائبيّة. كما يبحث الكِتاب -من جهة أخرى- في نشأة هذه «الواقعيّة السّحرية» أو «العجائبيّة» في الرّواية اللاّتينو–أمريكيّة، ويتقصىّ الأسباب التي دفعت الأجيال الرّوائيّة الجديدة للتخلّي عنها، واختيار سردّية مُغايرة.
يتألف الكِتاب من أربعة فصول. خُصِص أولها للتَّعريفِ بأصولِ أدب أمريكا الجنوبيّة منذ ما قبل الغزو الإسباني الّذي بدأ في 1492، بالعودة إلى أهم الكتابات الما-قبل كولومبيّة لشعوب ثلاث حضارات عريقة عرفتها هذه القارة، وهي الأزتيك والمَايَا والأنكَا، التي تركت نصوصًا أدبيّة راقية دَمرهَا الغُزاة الإسبان (ثمّ البرتغاليّون لاحقًا) من منطلقات دينيّة مسيحيّة. ويتتبع المسار التّاريخي للكتابة الأدبيّة بعد العصر الإسبانيّ الإمبراطوريّ منذ كتابات «الغُزاة»، إلى غاية عصر «البَاروك»، فالمرحلة الرومانسيَّة، ثمّ الطبيعيَّة، والحداثيّة، وبروز الرِّواية الفنِّية الّتيِ عرفت مساراتٍ عالميةٍ منذ نشر رواية «السيِّد الرئيس» لأستورياس (الَّذي حاز على جائزة نوبل للآداب سنة 1967). وهي الرواية الّتي ساهمت، رفقة روايات أخرى. طبعًاـ في بروز «الواقعيَّة السّحرية» أو العجائبيّة. ويخصُ النُّقاد بالذكر هنا روايات «بيدْرو بَارَّامو» للمكسيكيّ «خوان رولْفو»، والنّفق» للأرجنتينيّ «إرنستو ساباتو»، و»الخطوات الضّائعة» للكوبيّ «أليخو كاربونتييه»، و»اختراع موريل» للأرجنتينيّ «أدولفو بيوي كاساريس»، إضافةً لرِّواية «الوَداعات» للكاتب الأوروغوايَاني «خوان كارلوس أونيتي».
أمّا الفصل الثّاني، فيتناول بروز ما يُسمى بتِّيَّار «الواقعيّة السِّحرية»، بفضل أربعة روائييّن هم الأرجنتيني «خوليو كورتاثار»، المكسيكيّ «كارلوس فوينتيس»، البيروفيّ «ماريو فارغاس يوسا»، والكولومبيّ «غابرييل غارسيا ماركيز». ويقف عند اِنتشار أعمالهم اِنطلاقًا من باريس وبرشلونة، بدايةً من سنة 1960، وبالضبط عقب اِنتصار الثّورة الكوبيّة، وبدايات الصراع بين الاِتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكيّة على مناطق النُّفوذ في أمريكا الجنوبيّة. وقد اِنتشرت هذه «الواقعيَّة السِّحرية» ضمن ما يُسمى بظاهرة «البوم» الأدبيّ اللاّتينو–أمريكي.
في حين خُصِصَ الفصل الثالث لأدب ما بَعد الـ»البوم». فمنذ مطلع السبعينيّات، برز روائيون كتبوا بشكل مغاير ومختلف ضمن أدب «الواقعيّة السِّحرية»، منذ نشر رواية «طائر الليل البَذيء» للرِّوائي التشيلي «خوسيه دونوسو».
أمّا الفصل الرابع، فتناول دراسة التِّيَّارات الأدبيَّة الجديدة التي اِبتعدت أكثر عن الواقعيَّة السِّحرية، منذ مطلع الثمانينيَّات إلى غاية التسعينيَّات من القرن العشرين، والتي عُرفت بـ»الماك أوندو» McOndo و»الكراك» Crack . وقد جاءت كردّ فعل على التقليد الأدبيِّ الأعمى للواقعيَّة السِّحرية، التي سادت لفترة طويلة في أمريكا اللاّتينيّة، منذ أن نشرت الرِّوائية التشيلية «ايزابيل أليندي» روايتها الشهيرة «بيت الأرواح» سنة 1982. ويرى مؤلف الكتاب حميد عبد القادر: أنّ من بين أهم الخصائص الرئيسيّة لكلا الحركتينِ الأدبيّتينِ عدم النظر إلى الواقع اللاّتينو-أمريكي على أساس أنّه «واقعي سحري»، والعودة إلى الواقعيَّة الصرفة، والإشارات إلى الثَّقافة الشعبيّة الأمريكيّة–اللاتينيّة في المُدن الكبرى التي تأثرت بتحوّلات العولمة، والثّقافة العالميّة، والوقائع التي تحدث في السِّياقات الحضرية المُعاصرة، والاِهتمام بمواضيع التّاريخ الإنساني بعيداً عن أمريكا اللاتينيّة مع جيل «الكراك» بفضل المكسيكيين «خورخي فولبي» و»اينياسيو بادييَا» اللَّذين كتبَا عن التّاريخ الأوروبيّ، فابتعدَا مثل جيل «الماك أوندو» عن قرية «ماكوندو» المُتخيلة التي أبدعها «غارسيا ماركيز» في رواية «مائة عام من العزلة».
نـــوّارة لحــرش