د. يعرب جرادي
كان الإنسان الأول على حد قول العلماء يطارد فرائسه في الأدغال والصحاري، ها هو اليوم بعد أن تمدّن واستأنس بالحضارة يطارد كرة، ولا يفعل ذلك وحيدا بل مع مجموعة صيد، وهاهو أيضا ينافس قبيلة أخرى على تسجيل الأهداف...أهداف أكثر، وحماسة أكبر يشبع بها رغبته العليا في «إرادة القوة»، لا خير ولا شر، مع هذه الإرادة، بل عمل جاد وحازم ومنتظم، لفرض منطق التغلب...نرتبك مع كرة القدم باعتبارها موضوعا قابلا للدراسة من منظور ريتوريكي (خطابي)، ربما لأن النقاد والمشتغلين بتحليل الخطاب قد تعودوا على أن يكون موضوع الدراسة نصا أدبيا، أو مجموعة النصوص التي تشكل خطابا أدبيا ما، وقد يدفعهم ذلك للتعفف عن محاولة التمرس بدراسة النصوص غير الأدبية، بمعنى النصوص غير المكتوبة لأجل انتمائها لعالم الفنون، وجماليات النخبة البرجوازية، فكل جماهيري أو بالأحرى شعبوي، لا ينتمي لعالم الأدب، لذلك أصبحت السينما والنتفليكس وأدواتها، أكثر جماهيرية من المسرح والرواية، هل يمكن أن يوصلنا هذا للقول أن جماهيرية كرة القدم تنتمي لفصيلة النصوص المنطوقة؟ يبدو أن هذا المصطلح المعبر عن انتمائها الأقرب من منظور لساني لن يفيها حقها، ويبدو أن التداولية باعتبارها أكثر براغماتية وتحررا من صرامة البحث اللساني، أنسب لأن تكون مقاربة لموضوع الفوتبول أو البولة أو البالون كما تعبر عنه لهجات الجزائريين و دارجتهم الذكية في سرعة تعريبها التلقائية دون انتظار فتوى المعجميين الخاملين، والمتعنترين أو الورقيين في عالمنا العربي.
الريتوريكا أو الخطابة أو البلاغة الجديدة مصطلحات ثلاثة تتنافس للبحث في مجال واحد هو أدوات ووسائل الإقناع، ليس كل الإقناع لكنه الإقناع الجماهيري الواسع، ونحن ننتمي لهذا العالم، بكل ما فرضته سلطة الميديا وإغراؤها، وقربها من يد وعين كل إنسان معاصر، أخضعته لمنطقها، وصيرته منتميا إن شاء وإن أبى لوطن واحد تصنعه مؤسساتها العالمية، قوقل، فايسبوك، ناتفليكس، وفي الرقعة الكروية العربية، لـبيين سبورت...الفوتبول الذي يستطيع أن يحنط جماهير لا تحصى وعلى الأقل عشرين مليون جزائري أمام الشاشة، هو سلطة سادسة حين أطرته الميديا الجديدة، وقدمته لنا، وقربته منا، بل جعلتنا ندمنه، ونقتطع من أجورنا للاشتراك فيه، وفي أكثر دول العالم الثالث المنسي، نقوم بقرصنته، وهي حرفة قديمة، قد دخلت في ثقافتنا المابعد موحدية، ومنحناها كل الشرعية، ما دام هذا الغرب ينهك أكثر ثراوتنا، و يستلبها، ويحدد هوياتنا باعتبارنا مصدرين لها لا أكثر، فهل سيقبل أن يستمر عهد القرصنة الفضائية والتجارية، أم سيأتي اليوم الذي يجعلنا فيه ندفع الثمن؟ هي أسئلة الآن تتوالى من باب الجمل الاعتراضية، ولا تقف حجر عثرة أمام موضوعنا الأساس الذي هو بلاغة كرة القدم...لقد استطاعت هذه «اللعبة» أن تُنَمِّطنا، وتجعلنا كائنات قابلة للتقييس، فنحن منتمون إما للبارصا، أو الريال، ولقد أصبحت التعبيرات الشعبية تنسب هذا للبارصا، فتقول برصاوي، أو برصيست، وريالي أو رياليست، وربما تكون النسبة أكثر صراحة وفضاضة ممزوجة بنكهة سخرية، لتقول «هذا من جماعة البارصا وذاك من جماعة الريال»، وقد يمضي نصف العالم العربي أي حوالي مئتي مليون إنسان (2.7%من سكان العالم) ليلة سوداء لأن فريقه الريال قد «انهزم» -ولا يقال هنا خسر!-أمام البارصا.عُشر هذا العدد (عشرون مليونا)، يجفل أمام الشاشة، في الجزائر، متابعا لمجريات المباراة أمام جيبوتي، أذكر أن الراحل عمر البرناوي شاعر الجزائر الحماسي، حضر ندوة بدار الثقافة أحمد رضا حوحو، اجتمع لها نخبة من مثقفي البلدة، وكان الفريق الوطني حينها يلعب مباراة، وإذ به يقول: الذين يتابعون المباراة الآن أكثر وطنية ممن حضر الندوة الثقافية...هي إحدى مشاكساته، ولعله كان امتحانا، أو وسيلة للفت الانتباه الخطابي، من أجل صناعة الحدث، وقد كان حدثا ملفتا...ما هي مكونات الفعل الخطابي في كرة القدم، ووسائلها التأثيرية؟هذا ما قد نتابع الحديث عنه في مقال آخر...