الثلاثاء 3 ديسمبر 2024 الموافق لـ 1 جمادى الثانية 1446
Accueil Top Pub

الرواية بين الفن و التدوين الاجتماعي

تشمل الرواية كفنّ مكتوب عوالم كثيرة، تستند عليها وتستلهم منها وتستثمر فيها. فهل يا ترى أدّت دورها كاملاً أو كما يجب في التعبير عن الواقع وأحوال المجتمع وقضاياه؟ وهل أكدّت مدى اِرتباطها بالتحوّلات ومواكبتها؟ وهل اِستطاعت حقًا أن تكون -مدونة المجتمع-؟. أيضًا كيف كانت -سرديًا وروائيًا- مقاربة القضايا وتمثّل الواقع المعيش وطريقة نقده؟، وكيف كان مستوى طرح الموضوعات الاِجتماعية واستلهام الواقع وقضايا المجتمع؟ وهل أنّ فكرة اِستلهام قضايا المجتمع -كما قالت الدكتورة منى صريفق- "لن تنجح إلاّ بنجاح تقنيات الكاتب التي تعتمد على وعيه الهائل بكلّ البُنى السوسيولوجية المعقدة داخل المجتمع". حول هذا الشأن "الرواية وثنائية الواقع والمجتمع". كان ملف هذا العدد من "كراس الثقافة"، مع مجموعة من الدكاترة النُقاد الذين تناولوا الموضوع كلٌ من زاويته وحسب آراء ووجهات نظر مختلفة ومتباينة.

إستطلاع/ نــوّارة لحــرش

* مخلوف عامر
 الرواية تواكب التحولات الجارية في البلاد
اعتقدَ قُدماء اليونان أنّ الفنون مصدرها الإلهام. وجعلوا لها آلهة. كما نسب العرب الشِّعر إلى شياطين. ومردُّ ذلك إلى خصوصية الفن التي تجعله يُبهر الإنسان العادي من حيث هو خطابٌ غير عادي، تماماً كما عمد الكُهَّان إلى اِستخدام السجع لِمَا له من تأثير اِستثنائي في المُتلقِّي.

لكن نظرية الأدب تطوَّرت عبر العصور بفعل التحوّلات التاريخية الكُبرى، إلى أن ترسَّخت علاقة الأدب بالواقع، فقال فكتور هوجو: "كلّ صخرة هي حرف وكلّ بحيرة هي عبارة وكلّ مدينة هي وقفة، فوق كلّ مقطع وفوق كلّ صفحة لي هناك دائمًا شيء من ظلال السحب أو زبد البحر".
ظهرت الرواية فنّاً حديثاً بوصفها جامع فنون تستمدُّ خصوصيّتها من كونها تنهلُ من مُختلف المُنجزات الأدبية في حدود رؤية الكاتب وثقافته. واستمدَّت قوَّتها أيْضاً من تعبيرها عن أحوال المجتمع. فوجدناها تُضيء جوانب تاريخية قد لا تَرِد في كُتب التاريخ.
فأمّا فيما يتعلق بالرواية في الجزائر، فهناك ظاهرة ثابتة. وهي أنّها كانت دائماً تُواكب التحوّلات الجارية في البلاد. فعبَّرت عن الثورة المُسلَّحة من منطلق تمجيدها لكونها حدثاً عظيماً في القرن العشرين، واتَّكأت عليها لنقد الواقع الّذي لم يُحقِّق المأمول من الثورة. كما نبشت ماضي الثورة لِتُصوِّر ما حصل بين الإخوة/الأعداء من خلافات وتصفيات.
ولمَّا اختارت الجزائر النهج الاِشتراكي عَمَدَ الروائي إلى التعبير عن هذا الواقع الجديد. إلى درجة أنّ بعض الروايات بدَتْ وكأنّها اِنعكاسٌ للخطاب السائد فوقعت في التقريرية والمُباشرة. ثمّ في تسعينيات القرن الماضي عاشت البلاد عشرية دموية لم يكن يتوقَّعها الكُتَّاب فمال بعضهم نحو واقعية تسجيلية وُصِفت بأنّها كِتابة اِستعجالية أو هي إلى التقارير الصحفية أقرب. كلّ هذا يُؤكِّد مدى اِرتباط الكتابة الروائية بالتحوُّلات. وأنّ الكاتب مهما حَلَّقَ بخياله في الأعالي سيبقى وثيق العلاقة بمحيطه.
فهل يَصِحُّ أن نتساءل عمَّا إذا كانت الرواية قد أدَّت دورها كاملاً؟
إذا كان المقصود تغيير الواقع، فهو ليس دورها. إنّما يكفي الروائي اليوم أنْ يحظى بنسبة مقبولة من المقروئية. فنحن في زمن تَراجع فيه الإقبال على الكِتاب. ولا يتحقَّق له ذلك إلاّ إذا وفَّر لعمله عنصر التشويق لعلَّ القارئ يتمتَّع ويستفيد. فربّما أقصى ما يمكن أنْ تقدِّمه الرواية أن تُسهم في التربية الفنية للمواطن وتَمدَّه بقدْرٍ ولو قليل من التنوير. فالتنوير في بُعْده السياسي يمكن أنْ يتلمَّسه القارئ بالوقوف على ما يُحرِّك المجتمع ويتعرَّف على التيارات المؤثِّرة في الحياة السياسية إلى جانب النظام سواء أكانت موالية أم معارِضة. إنّ الكاتب في فترة ما، قد يكون منتمياً تنظيمياً أو متعاطفاً مع توجُّه ما، أو أنّه مُجرَّد مواطن حملتْه الموْجة السائدة فراح يتحرَّك مُنفعلاً لا فاعلاً. ولكنَّ الكتابة الروائية اِستمرَّت -في كلّ الأحوال- تُلاحق المُستجدَّات وتُعبِّر عنها. يصدق هذا على الرواية التي حقَّقت نُضجاً فنِّياً، كما يصدق على النماذج التي لم تَرْقَ إلى أيّ مستوى فني، فكان كُتَّابها من الصنف الّذي قال عنه (ميخائيل نعيمة): "كم من ناس صرفوا العمر في إتقان فن الكتابة ليذيعوا جهلهم لا غير". لديْنا اليوم رصيد من الكتابة الروائية، منها ما يتناول قضايا اِجتماعية، ومنها ما يستحضر التاريخ الوطني أو التراث العربي الإسلامي، منها ما يَجنحُ نحو تكرار مُسلَّمات موْروثة، ومنها ما ينظر إلى الموضوع بعيْن نقدية. والروائي -في كلّ ذلك- ليس مُطالَباً بحل المشاكل، وإنّما يكفي أن يكون من أنصار العقل وكما قال (غارسيا ماركيز): "الاِهتمام بالشكل مهمّ، ولكن الاِهتمام بالعقل أهمُّ من ذلك بكثير".  والرواية ذاتها لنْ يكتمل دوْرها، فستبقى مُمتدَّة في الزمن اِمتداد الواقع المُتحوِّل، مفتوحة على أشكال لا محدودة من التعبير.

* عبد الحميد ختالة
 على الرواية اليوم أن تحاور قضايا الهوية والتاريخ
الرواية هي الحياة، هكذا قدّم الدّرس النقدي فن الرواية على أنّها تُشكّل المستوى التخييلي للحياة، فهي الفن الّذي تمكنت أدواته الإبداعية من أن تُخضِع كلّ عناصر الحياة البشرية لفِعل التسريد، عندما اِنتقلت من تمجيد البطولات الفردية كما فعلت الملحمة إلى تسريد حياة الإنسان في مختلف مرتكزاتها الاِجتماعية  والثقافية والسياسية والعقدية، حيث اِكتسب فِعل الحكي ثقة القارئ الّذي اِستأنس الرواية لتُعبر عن اِنشغالاته وطموحاته.

في الحقيقة تأرجحت الرواية من أقصى مستويات التصوير الواقعي للمجتمع وصولاً إلى سرد أدق التفاصيل الذهنية والعجائبية للروائي، وهي تبحث عن قارئها في كلّ هذه المساحة الإبداعية، فاشتغل نسق السرد في الرواية الجزائرية مثلاً بالحالة الاِجتماعية في السبعينيات والثمانينيات، ثمّ اِصطبغ بلغة الموت غدراً في رواية التسعينيات وبداية الألفية الجديدة، ويظهر أنّها تحرّرت في العشريتين الأخيرتين من السلطة الاِجتماعية فتوزعت الرؤية في الثقافي والديني والسياسي.
يبقى المأمول من الرواية أكبر مِمّا بلغته، فالرواية ليست جانبًا موضوعاتيًا فقط رغم ما لهذا الشق الإبداعي من حضور، فالهمّ الإنساني اليوم يتجاوز الاِجتماعي والسياسي إلى مساحات شاسعة جداً من سؤال الكينونة، على الرواية اليوم أن تُحاور قضايا الهوية والتاريخ والذاكرة والاِنتماء، وعلى الرواية كذلك أن تشتغل على اللّغة ليست كأداة كتابية فحسب بل كسفير مفوض لنقل البُعد الثقافي والديني والسياسي للمجتمع الّذي أنتجها.
اِقتربت الرواية اليوم من أن تكون ديوان البشرية جميعًا، وقد أضحت مسؤوليتها أكبر من تكريس الشمولي أو تسريد العام والكلي، إذ لا حاجة للقارئ بتكرار ما يعرفه مسبقًا بل هو في شغف لقراءة ما لا يمتلك في إجابة، الرواية اليوم مُطالبة بأن تحكي الجزئي وأن تقف أمام التمفصلات الصُغرى التي باتت تصنع الإنسان في غفلة منه، وهذا بالذات ما راهن عليه فن المسرح عند اليونان عندما تكفل الإجابة عن سؤالين جوهريين هما كيف؟ ولماذا؟.
تعيش البشرية مع بداية القرن الواحد والعشرين حالة من التقاطبات العقدية والثقافية والسياسية وعلى الرواية أن تُواكب سؤال النقد الثقافي من أجل الحفاظ على دورها وعلاقتها بالراهن، فإذا كانت الرواية قد نشأت وفق نسق ثقافي أهّلها لأن تكون فنًا مُنتجًا للوعي الجمعي فهي اليوم تضطلع بالدور الأكبر في إنتاج ما تحتاجه المجتمعات من أدوات الحوار الثقافي والحضاري الّذي وصل في بعض البؤر إلى مستوى الصراع والمُواجهة المُباشرة.
وإني لأثق كثيراً في قدرة الرواية الجزائرية لأن تقول ما سكت عنه المُؤرخ تحت سلطة مبدأ التحفظ ومُختلف السُلط السيادية، إذ تبقى ضمانة حرية الفن المُعوَّل عليه في اِستظهار المُغيب واستنطاق المسكوت عنه، وقد نشرتُ مقالاً بعنوان "الرواية الجزائرية تكتب التاريخ" أكدتُ فيه قدرة الرواية على الإجابة على سؤال التاريخ، لما تمكنتْ من حوار المعتّم في التاريخ الثوري الجزائري، وقد اقتحمت ثلاثية "الأرض والريح" للروائي عز الدين جلاوجي بكلّ جرأة واقتدار تاريخ المقاومة والثورة الجزائرية.
وفي قراءة سريعة للروايات العالمية التي نالت أرقى الجوائز الأدبية سنصل إلى حقيقة الدور المُنتظر من الرواية، فهي الصوت الحقيقي للإنسان القابع في الجغرافيا البعيدة عن منابر الإعلام والمغيبة من الخطابات السياسية، يتعلق دور الرواية اليوم بالقراءة العمودية في الأنساق المحلية فتستحضر أزمنتها وأمكنتها وحتّى أسماء أطفال الشوارع المُظلمة، فتعجنها بالأخيلة وتنطقها بلغة السرد وتقنيات المشهدة فتخرجها من دائرة المحلي إلى مساحات العالمية.

* عابد لزرق
 الرواية الجزائرية أصبحت أكثر جرأة في مقاربة القضايا
الحديث عن علاقة هشة بين الرواية الجزائرية والمجتمع المحلي فيه نوع من عدم الدقة في الطرح والتجاوز النقدي، وعدم الإحاطة بتاريخ هذا الجنس الأدبي في الجزائر وسيرورته وتحوّلاته، إذ لطالما كانت العلاقة بينهما وطيدة جداً وعميقة، ويمكن القول عنها بأنّها علاقة تكامل وترابط بحيث يكمّل أحدهما الآخر ويستفيد منه، أو يتمثّله وينقده.

لا يمكن للرواية وهي تنشأ داخل مجتمع ما أن لا تطرح للسرد قضاياه وتقاربها فنّيا وتتّخذها معينًا يُغذّي موضوعاتها ومادتها الروائية مهما سعت إلى خلق وابتكار عالمها التخييلي الخاص بها. تستجيب الرواية للتطوّر التاريخي للمجتمع وترصد مختلف تغيراته وتحوّلاته، والرواية الجزائرية ليست بِدْعًا في ذلك بين النصوص بِمَا اِنطوت عليه من محمولات اِجتماعية وسياسية، وعندما نذكر المحمول السياسي فإنّنا نتكلم عن واقع سياسي لصيق بمجتمع ما في إحدى مراحله.
لقد شكّلت رواية نقد الواقع الاِجتماعي إحدى المحطات الخمس الكُبرى التي مرّت بها الرواية الجزائرية، فيمكن الحديث عن هذه المرحلة بِمَا يمثّل لها من أعمال ونصوص تبنّت فكرة الرفض ونقد الواقع الاِجتماعي كمحطة ثالثة من مراحل تطوّر المدونة الروائية الجزائرية بعد مرحلة تأسيسية مع الروّاد الأوائل في الخمسينيات ورواية الثورة وما بعدها، ومرحلة ثانية كُبرى تُجسدها رواية السبعينيات، أو ما يُعرف برواية ترسيخ الإيديولوجيا الاِشتراكية في ذلك الزمن.
ولعلّ مُختلف السياقات الاِجتماعية التي شهدها المجتمع الجزائري قد شكّلت أهم الموضوعات الغالبة على الرواية الجزائرية إلى يومنا هذا والطاغية على أنماط الكتابة فيها وأنواعها، إضافةً إلى الموضوعات التاريخية والسياسية بالأخص، والموضوعات العاطفية الرومانسية والبوليسية والسيرة الذاتية ورواية الخيال العلمي... وغيرها. وحتّى الرواية التاريخية منها ورواية الثورة قد سلّطت الضوء على مراحل اِجتماعية معينة من تاريخ المجتمع الوطني ولم تقفز على تصوّراته.
كما أنّ المنظور الاِجتماعي قد سيطر كثيراً على أعمال الكُتّاب الروائيين الجزائريين في تعاطيهم مع القضايا الراهنة وقضايا المجتمع المحلي ومقاربتها سرديًا ونقدها، ومازال هذا المنظور مُستمرّاً حتّى الآن، إذ يعود الكُتّاب إلى واقعهم بخيباته وإيجابياته ومتغيّراته، مستلهمين منه مادتهم الروائية وموضوعاتهم من نقد الواقع التاريخي الوطني سياسيًا واجتماعيًا، إلى الحديث عن أحداث أكتوبر 1988 وسردية أزمة التسعينيات والأصولية الدينية، وصولاً إلى طرح قضايا راهنة مختلفة. ولربّما أصبحت الرواية الجزائرية اليوم أكثر جرأة من ذي قبل في مقاربة هذه القضايا وتمثّل الواقع المعيش ونقده، وطرح موضوعات اِجتماعية وخرق طابوهات أكثر جدلاً لم تكن مطروحة سابقًا للنقاش.

* محمّد تحريشي
 الرواية ظاهرة اجتماعية بامتياز
تُعدّ الرواية ديوان العصر وهي ذلك السجل الّذي يحفل بكلّ ما يقوم به الإنسان وما يُفكر فيه وما يَأمله، وهي التي عبّرت عن آماله وطموحاته وحتّى خيبات آماله، وعن نجاحاته وعن اِنكساراته. ولأنّ الإنسان كائن اِجتماعي بطبعه، فقد سعتْ الرواية إلى الاِهتمام والعناية بكلّ قضايا المجتمع، ورصدت أهم التحوّلات الاِجتماعية والتغيرات الفكرية والتصورات الجمالية للمجتمع، بل إنّها في كثير من الحالات كانت الناطق باِسم هموم الفئات الاِجتماعية. وهي إذ تفعل ذلك لم تكن تقوم به من باب نقل الواقع الاِجتماعي نقلاً حرفياً، وإنّما عوّلت على الخيال وعلى تجربة الكُتّاب وخبراتهم وقدراتهم في جعل الواقع الاِجتماعي واقعاً مُتخيلاً للوقوف عند بعض الاِختلالات الاِجتماعية والآفات والظواهر التي تسترعي الاِهتمام، واستطاعت أن تكون مدونة المجتمع ووثيقة مهمة لمن يُعنى بدراسة المجتمع وقضاياه.

ولا يختلف اِثنان في أنّ مُعظم الأعمال العالمية التي خلدت قديماً وحديثاً، كانت قد حققت حضوراً لافتًا لها لاِنطلاقها من الواقع الاِجتماعي أو السياسي والتعبير عنه، ويمكن أن نُشير إلى أعمال مثل: «الحرب والسلام» لتولستوي، و«ذهب مع الريح» لمارجريت ميتشل، و«مزرعة الحيوان» لجورج أورويل، و«البؤساء»، و«أحدب نوتردام»، لفيكتور هوجو؛ بل حتّى روايات مثل: «الحب في زمن الكوليرا»، و«مائة عام من العزلة»، لغارسيا ماركيز، وأعمال نجيب محفوظ في العالم العربي، لنكتشف أنّ سر خلودها، يكمن في مضموناتها الاِجتماعية. ولا شك أنّ الرواية وهي تهتم بالمجتمع وبقضاياه، وجدت نفسها في مواجهة أصحاب المصالح والذين هم في الغالب سبب الأزمات الاِجتماعية، ومن ثمّ حملت بعض النصوص الروائية لواء الكشف عن مظاهر الفساد والاِستغلال وأسباب الآفات الاِجتماعية، وقامت الرواية بتعرية هذا الواقع الاِجتماعي الهش وكشفت عن طرائق للخروج من هذا الوضع السلبي وغير السوي، وهي إذ تقوم بذلك فإنّها في الواقع تقوم بدورها التثقيفي والتنويري. يرى الروائي السوداني أمير تاج السر أنّ "الرواية تقوم بالدور التنويري في المجتمع، كأي أداة ثقافية فاعلة حتّى لو كان ذلك على المستوى النظري. وهي مصدر معلومات ثري يمكن أن تهتدي به أي هيئة تريد أن تهتدي فعلاً، وهي بكلّ تأكيد مفتاح لا يصدأ، ويمكن أن يُستخدم لفتح أبواب مُغلقة وإلقاء نظرة لِمَا خلفها، وبالتالي مُعالجة الخلل إن كان ثمّة خلل". وهي بذلك اِستطاعت أن تُغير من هذا الواقع الاِجتماعي وأن تسهم في بناء تصورات جديدة للعالم، وفي الوقت ذاته حرّضت ضدّ الأنظمة الفاسدة مِمَا جعل بعض الروائيين معارضين شرسين اِلتزامًا بقضايا المجتمع، فتعرضوا للمُضايقات والمُتابعات القضائية وفي حالات دخلوا السجن، وفي حالات أخرى تعرضت بعض الأعمال الروائية للمنع من النشر وسُحبت من المكتبات وأُتلفت.
تتجلى علاقة الرواية بالمجتمع أيضًا في كون الرواية تحمل قيماً فنية ومرجعية للجمال، ومن ثمّ فإنّها تسهم في تربية الذوق الجمعي وفي ترقية المخيال الجمعي للمُجتمع وفي إثراء لاوعيه الجمعي أيضًا. إنّ الرواية وهي ترسم معالم علاقة براغماتية بينها وبين المجتمع، فإنّها تُنمي فاعلية الكتابة عند المتمرسين بها وتطور من آليات الكتابة عند المبتدئين، وهي في جميع الحالات قد تُقدم النموذج المرغوب في الكتابة. فقد شكّلت نصوص نجيب محفوظ والطيب صالح وإحسان عبد القدوس، وغيرها من النصوص التي لا يتسع المجال لذكرها هاهنا، مرجعية فنية وجمالية لتربية الذوق الجمعي.

* سفيان زدادقة
 لم يعد كاتب الرواية حريصا على حمل آلة فوتوغرافية أدبية لتصوير "الواقع"
اِعتاد النُقاد على تصنيف الرواية التي تتضمن أحداثًا تتعلق بالأسرة ومشاكلها والمجتمع بشكلٍ عام، ضِمن فئة الرواية الاِجتماعية، وغالبًا ما تم الربط آليًا بين هذا النوع من الرواية والاِتجاهات الواقعية التي عادةً ما تصطبغ بالإيديولوجيا اليسارية، وعلى أساس أنّ الهدف الّذي يصبو إليه الكاتب هو "تصوير" الواقع بغية تشخيص مشاكله ونقلها بصورة حية وإنسانية للمساعدة في إيجاد الحلول المناسبة.

وفي رأيي الخاص أنّ هذا الطرح أكل عليه الدهر وشرب، فلا نكاد نعثر على هذا النوع الاِجتماعي في الرواية الحالية إلاّ نادراً، وكُتّابه يميلون أكثر إلى الدراما أي نحو الكتابة للأفلام والمسلسلات حيث يمكن أن يلقى النجاح وسط الطبقات الدنيا بعكس الكتابة الأدبية التي صارت تمجه، فلم يعد كاتب الرواية اليوم حريصًا على حمل آلة فوتوغرافية أدبية لتصوير "الواقع"، لأنّه ببساطة لم يعد يُؤمن بنظرية شمولية في الاِقتصاد والسياسة، ولم يعد يعيش حلمًا طوباويًا، ولم يعد مُوقنًا بمعرفته الكافية عن هذا الواقع الّذي صار في الحقيقة واقعات مُتعدّدة ومُتداخلة، حيث تشعبت الحقائق وتداخلت المفاهيم والقيم في فوضى من المعنى فَقَدَ معها الكاتب البوصلة الأخلاقية التي كان كُتّاب الأمس يتمتعون بها، ولا يجدون غضاضة في اِستعمالها تجاه مجتمعاتهم تشخيصًا وإصلاحًا وتهذيبًا.. كاتب اليوم هو شخص ضائع مفكك الهوية لا يكاد يعثر على ذاته، ويعيش نوعًا من الخبل الاِجتماعي العام، ولم تعد الثقافة الرصينة هي المهيمنة بل الميديا وتحديداً الميديا السطحية (يوتوب، فايسبوك..) حيث بإمكان أي شخص أن يصبح مُنتجًا للخبر ومُحللاً للوقائع ومُفسدا بالتالي "للواقع".
اِختصاراً بذهاب الدور القديم للكاتب لم يعد مطلوبًا منه القيام بالتحليل الاِجتماعي، ولا أن يُصوّر المجتمع، بل لم يعد راغبًا في ذلك، إنّه فقط يتحدث عن ذاته الحميمة وهي تتصارع وتعاني وتتألم لتشكل كينونتها الخاصة ولغتها المتشظية ضمن ذوات أخرى لا تقل تشظيًا في عالم صغير يسحق الجميع بلا هوادة.

* منى صريفق
 لن تنجح فكرة استلهام قضايا المجتمع إلاّ بنجاح تقنيات الكاتب
تعمل الرواية باِعتبارها أحد أهم الفنون الإبداعية المُعاصرة على تشكيل بنياتها من موارد جمالية وفلسفية وثقافية وسوسيولوجية مختلفة بل ومُتعدّدة. إذ قد يعمد الكاتب فيها إلى نقل الواقع كما هو، أو قد يُحاول خلق عوالم مُوازية له، وقد يُحاول تكريس فكرة تجاوزه تمامًا. ففكرة نقل الواقع وأحداث المُجتمع ومُعالجة الفكرة سرديًا عملية مُعقدة للغاية. فهي ترتبط في الأساس بفكرة إنتاجية النص الروائي. ووفق أية رؤية يريد الكاتب أن يُعالج نواة قصته.

أوّلاً إنتاجية الرواية: فكرة إنتاج نصٍ روائي يستلهم أحوال المجتمع، وكلّ ما حدث ويحدث من تغيرات فيه تقوم في الأساس على فكرة جوهرية مفادها "مدى فهم الكاتب لمفهوم المجتمع وبنيته" هل هو يرى المجتمع عبارة عن مجموعة من النّاس التي تعيش في رقعة جغرافية واحدة تحكمها نقاط مشتركة، أم هو يرى الاِختلاف العميق والدقيق بين ما يُعرف بالجماعة المُشتركة والمجتمع. ليصل إلى أنّ المُجتمع هو في الحقيقة عبارة عن بنية اِجتماعية مُتلاحمة تحكمها علاقات مُتشابكة ومُعقدة للغاية كما يذهب في ذلك فردناند تونييزFerdinand Tonnies وبالتالي يصعب نقلها بطريقة مُباشرة وتقريرية في بنية تخييلية في الأساس. إنّه رهانٌ قد يجعل الكاتب يفشل ببساطة في جعل الرواية تقدم للقارئ مُقاربة متكاملة للوضع السوسيولوجي الحالي. أو قد يحمل عمل الكاتب إلى درجات عالية من المعالجة النقدية لرؤيته وما يحمله النص من صور تراتبية تخييلية موازية. إلاّ أنّه يمكن الحديث عن فكرة المجتمع وأحواله في الرواية عندما نجد تمظهراتها واضحة وبادية في شكل العنصر الأساسي للبنية السردية للرواية ألا وهو المكان أو الإطار العام للعمل، كما يمكن كذلك إيجاد عناصر المُجتمع كأحداث مُتسلسلة مُتعلقة بشخوص العمل الإبداعي. نتساءل هنا هل فكرة أحوال المجتمع فكرة يجب أن تُعَبِر عنها الرواية؟ في حقيقة الأمر فكرة المجتمع اِنطلاقًا من كونها بنية اِجتماعية تضمن تشكل عِدة صور في الواقع، هي ليست بنية يتم فرضها في الكتابة الإبداعية بقدر ما هي بنية اِختيارية يمكن معالجتها من زوايا تخييلية مختلفة بل ومن زوايا تقريبية أو حتّى موازية. وهناك من الكُتّاب من يراها بنية أساسية لتشكيل ما يُعرف بخلفية الشخوصthe background حيث تتكون ذاكرتها وبنياتها السيكولوجية. والرواية العربية والأجنبية بعامة والجزائرية بخاصة عملت على هذا الشكل في فترة الاِحتلال الفرنسي وما بعده، وفي فترة العشرية السوداء وما بعدها كذلك. ونذكر على سبيل المثال لا الحصر محمّد ديب، آسيا جبار، رشيد بوجدرة، الحبيب السائح، سالمي ناصر. والقائمة تطول لو تمّ توسيعها عالميًا إلاّ أنّني سأذكر تجربة إليف شافاق.
كما ذكرتُ سابقًا، فإنّ اِعتماد فكرة أحوال المُجتمع داخل البنية التخييلية للرواية لهو من العمليات التي تحتاج تقنيات عالية الجودة في المُعالجة من طرف الكاتب لكي ينقل القارئ من واقع صريح يعيشه إلى واقع تخييلي تعيش ضمنه شخوص مُتخيلة تُحاول بشتّى الطُرُق خلق عوالم جديدة لها وبالتالي للقارئ المُتابع لكلّ شاردة وواردة في النص. ولن تنجح فكرة اِستلهام قضايا المجتمع إلاّ بنجاح تقنيات الكاتب التي تعتمد على وعيه الهائل بكلّ البُنى السوسيولوجية المعقدة داخل المجتمع. ولأكون أكثر دقة في قولي هذا سأقترح على القارئ نص إليف شافاق 10minutes 38 seconds in thisstrange world الّذي قامت من خلاله بتشكيل فلسفة لرؤيتها جعلتها تقدم مشروعًا يكاد يكون متكاملاً من حيث زاوية الرؤية والمُعالجة الفنية لكلّ قضايا المجتمع وأحواله. أمّا عن سؤال: هل نجحت الرواية في تحقيق هذه النقطة فالأمر ليس بهذه السهولة لنحسم أمره. فالرواية عالمٌ مُنفتح كلّ أسئلته تبقى مفتوحة لا لشيء إلاّ لتطبيق حقيقة كونها الجنس الأدبي الّذي يعيش مع الإنسان يجعله يعرف مأساته ولكنّه أيضًا يعرف كيف يُطهره منها بشكلٍ أو بآخر.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com