ما موقع ودور النُخب المثقفة في ساحة المؤثرين؟ ولماذا لا يملك المثقف رغم شهرته أحيانا وحضوره الإعلامي قوّة التأثير في النّاس كما يملكها بعض صُنّاع المحتوى الرقميين الذين اِنتشروا في مواقع التواصل الاِجتماعي وفي مختلف المنصّات الإلكترونية؟ و هل يمكن القول إنّ النُخب المثقفة بعيدة أو معزولة عن التأثير وصناعة التأثير؟ وهل يجب القيام بمراجعة عاجلة وفعلية لدورها أو مكانتها وما مدى فاعلية موقعها في القرية الكونية؟ وإلى أي حد النُخب المُثقفة مسؤولة عما تُقدمه للمُجتمع عكس بعض المؤثرين الذين يتجاوزون ذلك من خلال ما يُقدَم من آراء وأفكار شخصية وغير عقلانية أو غير مدروسة النتائج غالباً.
استطلاع/ نــوّارة لحــرش
حول هذا الشأن "موقع النُخب المثقفة في ساحة المؤثرين" كان ملف "كراس الثقافة" لهذا الأسبوع، مع مجموعة من الكُتّاب و الأكاديميين.
عبد السلام يخلف كاتب ومترجم وأكاديمي
للنّخب حدود نفسية تُعيقها عن الدخول في عالم المؤثرين
لقد أدركت المُجتمعات المعاصرة أنّ التكنولوجيا في عصر العولمة لن تُؤتي ثمارها إلاّ بوجود نخب عارفة تقف وراءها من أجل رسم معالم مجتمع المستقبل والدفاع عن القيم الهوياتية والسياسية التي يعتبرها المجتمع حيوية. تمكنت وسائط التواصل الاِجتماعي والهواتف النقالة من نقل النقاش والمعرفة إلى ساحة جديدة في متناول الجميع، ولم تعد المعلومة محتكرة من طرف النُخب في تخصصات متنوعة، بل أصبحت ملكا مُشاعاً مثل النقاش حول كورونا الّذي أخذ طريقه إلى كلّ البيوت والصحاري إلى بين يدي من لم يقرأ معلومة علمية في حياته ولم يسمع عن مسار الفيروسات.
إنّ "الآنية" (Instantaneity) والاِنتشار (Propagation) هُما ما يُمثل عالم اليوم بالنسبة للأخبار وغَدَا التأثير على الجماهير هو الأساس والهدف إضافةً إلى أنّ ذلك يُذر أموالاً طائلة على المستعملين. وجدت النُخب التقليدية نفسها محصورة في دوائر ضيقة، كما أنّها لا يمكنها أن تُقحِم نفسها في عوالم وميادين لا تُسيطر عليها كالنكتة والتفاهة والرقص والضحك والاِستهزاء والكاميرا المخفية. هذه الزاوية تمّ اِستغلالها من قِبل أشخاص من كلّ الأشكال والمستويات راحوا يدغدغون الزوايا العميقة للنفس البشرية خاصةً لفئة الشباب الّذين غالبًا لا يملكون المُؤشرات الثّقافيّة والأدوات المعرفية لتصفية الغث من السمين، وبالتالي يُصبحون جزءا من متاهة كبيرة يلعب فيها ما تمّ الاِصطلاح على تسميتهم بـ"المؤثرين"– التسمية جاءت من نفس تلك الدوائر كي تمنح هؤلاء الأهمية وبالتالي جلب أكبر عدد من النّاس للمشاركة في المشاهدة و"اللايكات" و"الاِشتراكات" التي بفضلها يتم توزيع جزء من الأموال الكبيرة التي حصل عليها أصحاب المواقع دون تعب.
يبدو أنّ النُخب في الجزائر لها حدود نفسية تُعيقها عن الدخول في عالم المؤثرين ومنافستهم على المواضيع التي يتعرضون لها حتّى أنّ مصطلح "القنوات التلفزيونية الشبابية" هي نوع من هذه العوالم التي تخلق هوة كبيرة بين النُخب التقليدية التي لها ثقافة مُحَافِظة وعالم الشباب الجديد الّذي يتأثر بسرعة بعالم الموضة وكُثرة المُغالطات التي يبتلعونها من وسائط التواصل الاِجتماعي.
إنّ التأثير مسألة مُهمة تتعلقُ بالدور الّذي أسندتهُ المُجتمعات للمُثقفين عبر التاريخ على أنّهم القاطرة التي تُوجِّهُ كلّ الفئات الاِجتماعية لكن الواضح اليوم هو أنّ المُجتمع المُعاصر دخلَ في عصر السرعة، ولأنّ التغير عملية بطيئة تعتمدُ البِنَاء النفسي والسياسي للفرد القائم على التنشئة الاِجتماعية والسياسية فإنّ المؤسسات التقليدية اليوم وجدت نفسها على الهامش باِعتبار أنّ الفرد يستقي تنشئتهُ في كلّ الأوقات (في الليل والنهار) والأماكن (في البيت وخارجه) من الهاتف النقال وغيره وبالتالي فإنّ مصادر التنشئة تَغيرت بشكلٍ جذري حتّى أنّ النّاس أصبحوا يُؤمنون بشكلٍ أعمى بكلّ ما يُشاهدونه أو يسمعونه وهذا هو مصدر الخطر.
هناك أيضاً اِنفصالٌ تام بين المؤسسات والمواطن بحيث أنّ المدرسة مثلاً لا تفرض على الأطفال مُشاهدة موقع مُعين أو الاِستماع إلى فيديوهات أستاذٍ ما، ثُمَّ مناقشتها في القسم، وهذا بسبب التقاليد البالية في المدرسة وقِلة الجرأة في اِتخاذ القرارات الجذرية في رسم معالم الثقافة الوطنية والموضوعات التي تَهُمُ الجميع. إنّ الصراع حول الهوية الوطنية واللّغة الواجب اِستعمالها في أوساط النُخب التقليدية أثر كثيراً على السرعة في التنفيذ وترك المجال "للمؤثرين" (الذين في الواقع لا يُؤثرون سوى على الجماعات الهشّة من الشباب) اِنطلاقاً من مبدأ "الطبيعة ترفض الفراغ" وراحوا يعيثون فساداً في الشأن العام بثقافة قليلة جداً وأدوات معرفية غائبة وبمستوى ثقافي محدود جداً، بالمقابل فإنّ وظيفة النُخب هي أن تكون نقطة قوّة للمجتمع وفاعلاً أساسياً في التوجيه وإيجاد الحلول واقتراح البدائل. يبدو أنّ تهميشها الذاتي وضياع دورها في المتاهات المؤسساتية قد ترك المجال لبدائل جديدة اِنتهازية تعتمدُ على مصادر أموال "غير شرعية" تقريباً وتقوم بكلّ ما يجلب الثروة ورأينا ذلك في ملف التحايل على الطلبة الراغبين في الدراسة بالخارج.
محمّد تحريشي ناقد وأكاديمي
المُثقف قليل الحيلة لأنّه يتقيد ببعض المراجع
ينبني هذا السؤال على مفارقة عجيبة حول التنوير في المجتمع الحديث المُرتبط بتطوّر تكنولوجيات الإعلام والاِتصال في واقع تحتلُ فيه ثقافة الصورة مكانةً مرموقة، والتي أصبحت تُزاحم ثقافة الورقي والمطبوع مزاحمةً تجعله في خطرٍ من أمر وجوده أصلاً، ويدفعنا هذا الوضع إلى الدعوة إلى مراجعة هذا الخطر الّذي يُداهم تقاليد التواصل، وضرورة الوقوف عند الأسباب التي جعلت منه ظاهرة إعلامية ونفسية واجتماعية وتجارية بالأساس. وهذا ما تشيرُ إليه مقالة للدكتور محمّد أسليم، مؤداها: "إنّ فكرة المبدع والمثقف نفسها تتعرض لمُراجعة قوية مع حادث الشبكة؛ فثقافة الكِتاب الورقي كرست صورة هذا الفاعل الاِجتماعي والثقافي باِعتباره شخصاً يمتلك سلطة القول، تمنحهُ إياها مجموعة من الوسطاء: دور النشر بتراتبياتها الداخلية، الصُحف بطواقم تحريرها، المجلات بفِرق تحريرها وهيئاتها الاِستشارية، المؤسسات العلمية، وأخيراً النُقاد والقُرّاء. في حين مع الانترنيت صار بإمكان من شاء أن ينشر ما شاء ويُقدمه باِعتباره ما شاء مُوصلاً إياه رأساً إلى المُتلقي، دون المرور من أي وسيط أو رقيب، وذلك على قَدَم المساواة مع أي أديب أو مثقف آخر اِجتاز آليات التصفية التقليدية وكرس نفسه باِعتباره اِسماً وازناً..".
إنّ حُسن اِستغلال الوسائط من طرف المؤثرين باِحترافية وإتقان ومهنية لإيصال المعلومة بسرعة وسهولة، وبالاِعتماد على التكثيف والإثارة والتشويق والتحفيز إلى درجة يُصبح المتابع سجيناً لهذه المواقع بشيء يُشبه الإدمان والعادة والتعود، في حين نجد أنّ النخبة –بعيداً عن كلّ تعميم- مازالت تقليدية في تواصلها لكونها تعيش في غربة أو في برج عاجي لعِدة عوامل منها غياب المثقف نفسه عن القيام بأي دور تنويري قوي، أو أنّه يُعاني من حالات تغييب مقصودة لتحييد دوره التثقيفي في المجتمع بسلطة قوية ضاغطة أو بنية مقصودة أو إرادة فاعلة تسعى إلى طرح بدائل لهذه الفئة من باب التيئيس أو عدم الثقة أو قِلة الفعّالية، أو تحت ظرف اِجتماعي أو نفسي أو سياسي. إنّ هذا الطرح يجعلنا نقف على مسألة مهمة تتعلق بالمرجع الإعلامي والنموذج الحديث المُواكب لتطوّر تكنولوجيات الإعلام والاِتصال، ولهذا سارع بعض الأفراد إلى اِختيار دور المُؤثر في التواصل مع المتابعين، وهو يدرك أنّ هذه الوسيلة تُمكنه من الشهرة والذيوع والاِنتشار بين النّاس، وتضمن له حضوراً إعلامياً فاعلاً ومؤثراً. إنّ اِمتلاك المعلومة المهمة والضرورية، والتي تُحقّق أكبر نسبة مشاهدة، والتي تجيب على حيرة المتابعين وفضولهم، هي التي تدرك الهدف والغاية خاصةً إذا عَرَف المُؤثر كيف يُغذي كلّ ذلك بعناصر الإثارة لشد الاِنتباه وتحقيق الحضور عند المتابعين في الوعي وفي اللاوعي الجمعي. خاصةً في مجتمع العولمة الّذي اِنمحت معه تلك الحدود بين الدول. في حين يقف المُثقف قليل الحيلة والوسيلة والأداة، وحتّى وإن حاول أن يستفيد من هذه التقنية والوسيلة، فقد لا يُحدِث ما ينشره ذلك الحضور الوازن عند المتابعين، وقد يتباين عدد المتابعين بين موضوع وآخر، وبين منشور وآخر. ذلك أنّ هذا المثقف يتقيد ببعض الأصول والتقاليد وبعيداً عن كلّ جرأة زائدة أو اِستفزاز قوي، أو حتّى مساس ببعض المراجع التي لا يتقيد بها المُؤثر، والتي قد يرى المثقف أنّها تهورٌ أو اِنحدار أو تجاوز لكلّ قيم المجتمع الفكرية.
إنّ كثرة مواقع المؤثرين وشهرتها بين النّاس وذيوعها في بعض الأوساط الاِجتماعية أو حتّى الحكومية، جعلت الرغبة في ركوب هذه الموجة قوية وكبيرة، بل إنّها أصبحت دُرْجَة (موضة) وكأنّها سلعة جديدة تعود على أصحابها بالربح الوفير والمردود المالي الكبير خاصةً على اليوتيوب. وفي المُقابل كان هذا الوضع بمثابة ضباب أو غيم يحجب حقيقة مهمة عن هؤلاء المؤثرين، خاصةً مع غياب الثقافة القانونية، والتي تجعل مِمَا يُنشر في هذه المواقع موضع متابعة قضائية قد تجر أصحابها إلى المحاكم، والتي تهتم بالجرائم المُستحدثة ذات العلاقة باِستخدام تكنولوجيا الإعلام والاِتصال ووسائط الفضاء الأزرق، في حين يتقيد المثقف بالمسطرة القانونية تحت طائلة المسؤولية والرقابة الذاتية والرقابة الخارجية.
عبد اللطيف بوروبي أستاذ التعليم العالي بكلية العلوم السياسية-جامعة قسنطينة3
ظهور هذا النوع من التأثير يُقصي النُّخب المُثقفة
تُثيرُ مراجعة طبيعة العلاقة بين قدرة تأثير النُخب المثقفة الجزائرية أو العربية على العموم والمؤثرين في وسائل الإعلام والاِتصال عِدة إشكاليات تقوم على فهم وتفسير خمس ملاحظات حول ماهية مفهوم التأثير والتطوّر التاريخي لهذا الأسلوب من التواصل، وطبيعة المواضيع التي تجلب الاِنتباه لدى المُتلقي سواء المُشاهد أو المُستمع، وأسباب ظهور هذا النوع من التأثير، وأهداف ذلك. هذه المُراجعة نهدفُ من خلالها –في المقام الأوّل- اِقتراح مقاربة جديدة لفهم هذا الدور.
تتمحوّر المُلاحظة الأولى حول ماهية مفهوم التأثير للنُخب أو للمؤثرين في أنّها تقوم على خلق اِنطباعات قد تتحوّل إلى قناعات ومخرجات سلبية أو إيجابية في توجيه الرأي العام، من خلال ثقافة نخبة أو شعبية تظهر في المجتمع على المستوى المحلي، أو الوطني، أو أكثر من ذلك المستوى الدولي.إذن هناك علاقة شرطية بين القدرة على التأثير وتوجيه الرأي العام والفاعل سواء نخبة أو مُؤثر والّذي قد لا يحمل أي مُؤهلات علمية، مِمَّا يقودنا إلى أنّ ماهية التأثير لا ترتبط بالمُؤهل العلمي والمستوى المعرفي بقدر ما ترتبط بالشخص وقدرته على توجيه الأفكار والّذي لا يتحمل أية مسؤولية في طرح الأفكار سواء وفق قراءة قانونية أو أخلاقية. فيما يخص المُلاحظة الثانية فهي ترتبطُ بالتطوّر التاريخي لمثل هذا التأثير الذي يرجع إلى الثورة المعلوماتية والتكنولوجية مع ظهور مفهوم القرية الكونية، أي أنّنا أمام مجتمع عالمي تتوفر فيه المعلومة بسرعة ودون تكلفة، تُقرِب المسافات ولا تعطي أهمية إلى الحيز الجغرافي، ومن ثمّ نحن أمام نوع من التأثير للمعلومة لا يمكن التحكم فيه، ويتعدى وظائف الدول، أي أنّها أصبحت لا يمكنها التحكم في آراء وتصورات الأفراد الذين يشكلونها.
أمّا المُلاحظة الثالثة فمرتبطة بالمواضيع التي لها تأثير على المجتمع والتي حسب اِعتقادنا هي بالأساس اِقتصادية-اِجتماعية في ظل المشاكل التي تُعاني منها الشعوب وفشل الدول في حلها، أصبحت بشكلٍ أو بآخر المجال الأكبر للتأثير في ظل تقديم بدائل تظهر ممكنة في ظل أنّها لا تلزم فاعلا في حد ذاته بقدر ما هي تصورات وآراء شخصية تُلزم صاحبها فقط. إذن المواضيع التي لها تأثير هي حول الواقع المُعاش، أي نعم، ولكن باِقتراح بدائل لا تلزم أحدا.
تبرزُ المُلاحظة الرابعة حول أسباب ظهور هذا النوع من التأثير والّذي يقصي النُّخب المُثقفة ويختزل الدور في المُؤثرين في أنّ العملية سياسية-اِقتصادية، ترتكزُ على الفرد كحلٍ لإدارة المشاكل حيثُ الربطُ بين مواضيع حساسة لم يكن مُمكناً الربط فيما بينها. مثل التمثيل، والاِنتخاب، ومشاركة المرأة، والتداول على السلطة، والحُكم الراشد، والتنمية المستدامة. أين النُخب مهمشة ولم يظهر لها دورا في السابق لتغيير الوضع الاِجتماعي والاِقتصادي للشعوب التي تُمثلها، فأصبحت الشعوب تبحثُ عن البديل. رغم أنّ الإشكالية تظهر في كيف نقصي (طرفا) لم تكن له فرصة للتأثير في المجتمع، ومن ثمّ تهميش النُخب من الأنظمة، ورفضها من المجتمع في ظل كونها لم تستطع التأثير وهي معضلة تحتاج إلى التعمق أكثر. ومن ثمّ غياب ديمقراطية تشاركية كرّس ثقافة الإقصاء وأنّ الأنظمة السياسية لم تعطِ أهمية لنخبها ما جعل الساحة فارغة أمام نوع من الخطاب اِستغلته فئة من المؤثرين.إنّ مُراجعة دور النُّخب المُثقفة هي المُلاحظة الخامسة، وإعطائها فرصة بمنظومة قوانين تكفلُ وتُنظمُ العالم الاِفتراضي مرتبطة بمفهوم المسؤولية، فالنُّخب المُثقفة مسؤولة عما تُقدمه للمُجتمع عكس بعض المؤثرين الذين يتجاوزون ذلك من خلال ما يُقدَم من آراء وأفكار شخصية. وهذا ما يقودنا إلى المسؤولية أكثر وتعزيز الحقوق والحريات الجماعية والفردية وكيفية تنظيمها.
نستخلصُ في هذا السياق مجموعة من الاِستنتاجات. أهمها أنّ البحث في مواضيع كيفية إيجاد توازنات بين المال والسياسة وتحقيق الديمقراطية التشاركية، وفَهْم أهداف ودور الأفكار في أي مُجتمع لإرساء نظام ديمقراطي هو دورُ النُّخب المُثقفة لتحقيق التنمية المُستدامة، ومن ثمّ هل فئة المؤثرين هُمُ البديل الأوحد والأهم للنُّخب المُثقفة في مجتمعنا أو المجتمعات العربية الأخرى؟ أقول لا، لأنّ التهميش السابق لها والإقصاء المُستمر فسح المجال أمام بدائل لا تُقدِم الحلول بقدر ما تنتقد الواقع. فلا يبرز أيُّ دورٍ لها مع الأمية –مثلاً- ولا مع البيروقراطية في غياب المسؤولية، ومن ثمّ نحنُ أمام معضلة: ماذا نريد منها وطبيعة سُلم الأولويات والقيم في مجتمعاتنا.
محمّد بن زيان كاتب وناقد
مثقفون يحاكون سيرة المؤثرين في الاِستعراض
في سياق ظاهرة ما يُسمى بالمؤثرين، التي هي من إفرازات الزمن الرقمي، يتجدّد السؤال عن موقع المُثقف. ولا يمكن أن نتحدث في الموضوع بدون اِستيعاب السياق بكلّ مُلابساته وحيثيّاته، ولا يمكن أيضا أن يقف بنا النظر عند محطة ظاهرة المؤثرين لأنّ الإشكالية ترتدُ بنا إلى ما هو أبعد.
في مطلع ثمانينيات القرن الماضي عرفت الجزائر نقاشاً واسعاً أثاره حواراً أجراه محمّد بلحي مع المرحوم عبد القادر جغلول وقام المرحوم عمار بلحسن بترجمة الحوار والردود التي أعقبته، ثمّ جمع تلك المادة في كِتاب حمل عنواناً يُلخِصُ الإشكالية وهو "مُثقفون أم أنتلجنسيا؟". وفي التسعينيات وما تلاها، نُشِرت مُقاربات من بينها كِتاب علي حرب عن "أوهام النُّخبة" وكتاب عبد الإله بلقزيز عن نهاية المثقف الداعية. وفي ما ذُكِر تأكيد على أنّ الإشكالية ليست مُستجدة بل مُتجدّدة.
لقد ثار البعض ضدّ المؤثرين وتمَّ نشر الكثير من الكلام، لكن غاب التَمثُّل الّذي ينفصلُ عن الاِنفعالية ويتجهُ نحو ما فيه تحري التدقيق. الحديثُ يقتضي إجرائياً ضبطَ الصيغ الاِصطلاحية، أي ما المقصود بتوصيف المُثقف؟ لأنّ هناك تعويم وتبديد لِمَا يستقيمُ به التوصيف. المُثقف في شبكة العلاقات الاِجتماعية، لهُ دورهُ المُرتبط بِمَا يُعبّر عنه بيار بورديو بإنتاج الرأسمال الرمزي، ودورهُ هو في الحضور الفاعل، حضور بلورة المعنى عملياً، حضور بيداغوجي، حضورٌ يصيغ نبضات المُجتمع ويفتحُ أفاق تشكله المُتجدّد.ا
للمُثقف إذاً دور وهو ما جعل المُفكر حسن حنفي يَنعتُ الشيخ إمام المغني بـ"إمام المُثقفين". وإنّ لكلّ عصر آلياته وبراديغماته وخصوصياته، ولا يمكن لِمن لم يستوعب ذلك أن يُحدِثَ التأثير. العالم كُله، يعيشُ ما يشبه المخاض المستمر ويُواجِه وضعاً طغت فيه الميديا، وهو ما يخدم قِوى الهيمنة. وقد نَجَمَ عن طغيان الميديا أو طغيان الصورة وإيقاع السرعة، بعض ما عبّر عنه المُفكر الكندي ألان دونو بــ"نظام التفاهة" وهو نظام نسف المعنى والحس الّذي تصيغه الثقافة، والدلالة المُفصحة عن هذا الحال تضمنها عنوان كِتاب للفيلسوف الفرنسي الراحل ميشال هنري "الهمجية، زمن عِلم بلا ثقافة". لكن هناك في العالم من يُحقِّقون الدور ورغم اِجتياح ما يُسمى بــ"المؤثرين"، يعطون للتأثير وجهته الخلاّقة، ويُواصلون سيرة سارتر وراسل وفوكو وغيرهم من الذين جَسّدوا الدور والموقف. أمّا قضية المُؤثرين فهي بديهية بحُكم السياق وهي ليست شراً محضاً ولا خيراً محضاً، بل هي تحديات ستفرزُ المصير لأنّ نوعية الاِستجابة للتحدي بلغة توينبي هي التي ستُحَدِّد. لخصت الشاعرة والروائية الفلسطينية صونيا خضر المسألة في مقالٍ نُشر لها مؤخراً، قالت فيه: "هؤلاء المدعوون بالمؤثرين والذين يتمُ دفعهم إلى الواجهة الإعلامية والتسويقية، عبر القنوات الرقمية والمنصّات الإلكترونية، هُم المسؤولون الرئيسيون عمّا وصل إليه المُحتوى من سخافة وتفاهة، لكن كيلا نحكم حُكمًا جائرًا بحقهم ربّما علينا أن نُذَنِّب أنفسنا أوّلًا، نحن من أصبحنا نحترفُ السهولة للحصول والوصول إلى أي شيء بِمَا فيه المعلومة والحكمة والجدوى، نحن من اِستغنينا عن العودة إلى المراجع والبحث فيها لمجرّد أنّنا تعودنا الحصول على كلّ الأشياء جاهزة ساخنة شهيّة، كما قطعة البيتزا التي لا نعرف كيف وبأي وسيلة تمّ إعدادها". إذاً بدل الاِستغراق في الشكوى وفي الاِنتقاد لنُواجه أنفسنا ونقول بصيغة لينين: ما العمل؟.. وهناك من يُحسب على المثقفين ولكنّه يُحاكي سيرة من يُسمون بالمؤثرين في الاِستعراض وفي البحث عن الشهرة وفي التمادي في التسطيح والتتفيه، بدل أن يستوعب ويستثمر المنجز التقني المُتمثل في وسائط التواصل بغية الرقي بالمحتوى وتوجيهه نحو ما يُحقّق فاعلية الدور المُنتظر من المثقف.
محمّد خطاب كاتب وناقد
لا مجال للحديث عن تأثير النُخب المثقفة
ما المعنى الّذي نمنحه لكلمة تأثير؟ إذا اِشتركنا مع آخرين في تصورهم الباهت فلا مجال للحديث عن أثر أو تأثير النخبة. لأنّ الأثر هنا يأخذ معنى الاِنتشار والصدى والصراخ. قل كلمتك وامش، كلمة أسمعها منذ الصغر عن أمين الريحاني، فلا تلتفت للأثر، الأثر من صُنع الطريق وليس من مهمتك أيّها الكاتب أو الشاعر. يمكنكَ أن تتحرك كلّ يوم وأن تحكي وترتفع بصوتك حد الصراخ، ولا أثر. هذه مشكلة في التصوّر وفي التعاطي مع الوجود، وفيما يُفكر فيه الكاتب الّذي يحب النياشين المُعلقة، والجوائز، وحُسن السيرة، والمريدين. النُخبة لا تفكر بتلك البلاهة، النُخبة مُستترة ترى أبعد من تحوّلات هذا العالم المادي البحت.
كلّ شيء يتم بوعي المسافة أو المسافات. ما الّذي ينبغي وعيه داخل هذه التحوّلات؟ هناك وعي الذات أوّلاً، وهي أعقد خطوة يمكن للمُثقف أن يقوم بها، لأنّه لا يستطيع أن يتخطى عتبة الذات ما لم يقهرها بالنسيان والصمت، ويُعودها على الصوم والزهد فيما يرغب فيه النّاس. الإعلام يتغذى على الصخب والخبر السريع، المعرفة ليس مجرّد خبر، المعرفة تجربة الإنسان مع العالم، هي تجربة لا يمكن تلخيصها في مجرّد الفهم والوعي والإحاطة. تجربة تبدأُ من السؤال وتنتهي إليه، فهل هي بحاجة لصخب؟ متى كانت المعرفة تفجرات إعلامية؟ متى كان وجود الإنسان عرضاً مسرحياً للآخرين؟
كلما كانت المسافة مع العالم مبنية على التكتم والسر والصمت كلما كانت المعرفة أعمق وأليق بالعقل الّذي يستوعبها وينتجها. العالم ليس بحاجة لصخبنا ولا لصراخنا، العالم بحاجة لإنصاتنا والاِستماع إلينا، فلنكن أليق بمهمة السماع لهذا الوجود المُمتلئ النقي الفائض. ثمّة يُمكننا أن نفهم كيف يمكن للسر اليوم أن يتعاظم فيتحوّل إلى دم للوجود غداً، وهذا يحتاج لطريق طويلة جداً تستلزمُ صبراً ومقاومةً للصخب والرياء الثقافي ورؤية للأفق القادم.
وعي العالم يبدأ كخطوة تالية لوعي الذات التي هي عالم مُصغر تنعكس فيه كلّ شروط العالم الأكبر. المُتغير أنّ العتبة الأولى أصنع لكَ بيتاً مُحصناً وعزيزاً، وتعزز مكانتك منذ البداية: من أشرقت بدايته أشرقت نهايته. العالم يستدلُ بالذات والذات تستدلُ بالعزلة التي ينبغي أن تكون هي العتبة الحقيقية لبناء المعرفة وتحصين الجدران وتثبيت مقامات النّور.