صورة قسنطينة في كتابات الرحالة والجغرافيين العرب
كانت قسنطينة منذ القدم، محورا لكتابات رحالة زاروها، أو مروا بها أثناء رحلاتهم شرقا وغربا، فكتبوا عنها نصوصا مختصرة و مركزة، لكنها متكاملة وشاملة وعميقة، قدمت صورة متكاملة عن الحياة الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية والسياسية، إلى جانب النواحي العمرانية و الثقافية والفنية، في حين تجاهلت الجوانب السياسية والعسكرية، إلا ما اقتضته الضرورة، عكس ما تضمنته كتب التاريخ، ما يجعل هذا النوع من الكتابة، يصنف في خانة الأدلة الجغرافية، إذ يجمع بين دلالة المكان، و دلالة الزمان في نفس الوقت.
* الطيب صالح رضوان
قال الدكتور إسماعيل سامعي، أستاذ التاريخ بجامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة للنصر ، إن جل الرحالة خصوا قسنطينة بنصوص هامة و متنوعة، إذا جمعت في كتاب واحد و درست، من شأنها أن تقدم صورة متكاملة عن المجال الجيو إستراتيجي، و عن المراحل التاريخية التي مرت بها، و أدوارها السياسية و الحضارية عموما، و قد جسد ذلك من خلال مؤلفه الذي يحمل عنوان» قسنطينة في كتابات الرحالة والجغرافيين العرب».
النصر التقت بالباحث، فسلط الضوء على مضمون كتابه حول أم الحواضر قسنطينة، منذ بداية اهتمام الرحالة و الجغرافيين العرب بها، مشيرا إلى أنها لم تجذبهم كثيرا خلال القرون الأولى للهجرة، و في بداية فتح بلاد المغرب العربي، لكن منذ القرن العاشر الميلادي، تجلى الاهتمام بها بوضوح، حسبه.
و استعرض المتحدث ما كتبه الرحالة و الجغرافيون عن قسنطينة سواء الذين زاروا المدينة فعلا، أو الذين كتبوا عنها دون أن يتمكنوا من زيارتها، بالاعتماد على غيرهم، و رتب ذلك حسب سنوات وفاتهم، و الحقبة الزمنية التي عاشوا فيها، و كذا الظروف التي دونوا فيها كتاباتهم عن مدينة الصخر العتيق.
ابن خرداذبة أول من ذكر مدينة الصخر العتيق في كتاباته
أول من ذكر المدينة في كتاباته ابن خرداذبة، المتوفى سنة 280 هجري الموافق ل 893 ميلادي، بالإشارة إلى وادي الرمال، دون أن يذكرها باسمها، و يفسر ذلك، ربما، بكون قسنطينة كانت آنذاك تشهد تدهورا حضاريا، تبعا لما كانت عليه بلاد المغرب، في أواخر الحكم البيزنطي، و أوائل الفتح الإسلامي، و لم تكن ذات أهمية، على غرار ميلة و تيهرت «تيارت» و تلمسان.
أما الجغرافي اليعقوبي أحمد بن أبي يعقوب المتوفى في 284 هجري الموافق ل 897 ميلادي، الذي جاب بلاد المغرب و الأندلس، فقد ذكر الكثير من المدن، ك"بغاية و ميلة و تيجيس و نقاوس و تاهرت"، و لعل ميلة خطفت منها في ذلك الوقت الأضواء، بعد إقامة أبي مهاجر دينار بها، والتي تعد أول مدينة يحط بها العرب في المغرب الأوسط، خصوصا، ثم جاء الإصطخري إبراهيم بن محمد الفارسي أبا إسحاق، المعروف بالكرخي، الذي ذكر بعض الحواضر التي لم يكن لها شأن في ذلك الوقت، كجزائر بني مزغنة، و لم يذكر قسنطينة نظرا لعدم أهميتها من الناحية الإستراتيجية، و لم يكن لها وزن اقتصادي، من حيث الزراعة والمعادن والكثافة السكانية.
و هو نفس ما ذهب إليه المقدسي أبا عبد الله محمد بن أبي بكر، المعروف بالبشاري، المتوفى في 387 هجري الموافق ل997ميلادي ، الذي قام برحلة في ربوع المغرب الذي ذكرها مع بعض مدن الإقليم الشرقي للمغرب الأوسط، كمسكانة، و بغاي وطبنة و تيجيس، ميلي و جيجل و سطيف، و سلك نفس التوجه الهمداني إبراهيم ابو بكر بن الفقيه، المتوفى أواخر القرن الثالث هجري الموافق للتاسع ميلادي، و ذكر وادي الرمال عندما تحدث عن حدود ملك ابن صُغَير البربري حيث قال «..في يده .. خلفية إلى واد الرمل».
البكري وصف قسنطينة بـ « الحصينة المنيعة»
أكد الدكتور إسماعيل سامعي، أن أول من قدم معلومات متنوعة و دقيقة عن قسنطينة هو البكري عبد الله بن عبد العزيز بن محمد أبو عبيد الأندلسي، المتوفى عام 487 هجري الموافق ل1094 ميلادي.
و المعروف أن البكري لم يخرج من بلده الأندلس، و اعتمد في جمع المعلومات حول قسنطينة، على سابقيه، ممن لم تنتشر أعمالهم، أمثال الوراق محمد بن يوسف أبو عبد الله، المتوفي عام 363 هجري الموافق ل973 ميلادي، و اعتبر البكري قسنطينة من المدن القديمة الكبيرة الآهلة بالسكان، و وصفها ب"الحصينة المنيعة" و ذكر أنهارها الثلاثة، وركز على «قنطرتها ذات الأربعة حنايا» أي أقواس، و هو شكل معماري غاية في الإبداع، وأكد أنها ذات أهمية في السلم و الحرب، و تعجب كغيره من الذين وصفوا قسنطينة انطلاقا من هوة وادي الرمال العميقة، و قال أن الماء في قعر الوادي، كالكوكب في جوف السماء.
و ذكر البكري قبائلها مثل ميلة، نفزاوة، قسطيلة، و هي جميعها من قبائل كتامة، مضيفا أن أسواق قسنطينة كانت جامعة للكثير من التجار و البضائع و حركة التصدير.. فكانت نشطة و تدر ربحا وفيرا على المشتغلين بها، وهو ما يفسر تطور الحركة الاقتصادية بها، سيما الزراعة و الحرف، ما جعل الإنتاج التجاري متوفرا ، و يتم تصريف فائضه داخل و خارج المنطقة. و ساهم في ذلك موقعها البعيد عن التقلبات السياسية و الفتن والحروب، حيث كانت تتوفر على نوع من الاستقرار السياسي، و الأمن، و قد تكون، كما قال البكري قد تمتعت ب»حكم ذاتي مسالم»، فانعكس ذلك على نموها الاقتصادي، علما بأن البكري لم يتطرق لعلاقاتها ولا إقليمها، ماعدا إشارته إلى ارتباطها بمرسى سقدة، أي سكيكدة، التي قال بأن المسافة بينها و بين قسنطينة مسيرة يوم.
الإدريسي تحدث عن واديها و قنطرتها و آثارها و منتجاتها
أما الإدريسي محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحسني الطالبي الصقلي أبو عبد الله ، المعروف باسم الشريف الإدريسي، المتوفي في 560 هجري الموافق ل 1165 ميلادي، فمن الجغرافيين الرحالة الذين قدموا تفاصيل عن حاضرة قسنطينة و قال عن موقعها « تقع فوق قطعة من جبل منفصل، مستدير قليلا، لا يمكن الوصول إليه إلا من جهة الجنوب»، و هو الوصف الذي ورد عند معظم الجغرافيين و الرحالة، سواء الذين كانوا قبله أو الذين أتوا من بعده، و وصف واديها وصفا دقيقا وجميلا « يحيط بها الوادي من جميع جهاتها، كالعقد مستديرا بها.. يأتي من الجنوب، فيحيط من غربها و يمر شرقا مع دائرة المدينة، ويستدير في جهة الشمال، ويمر مغربا إلى أسفل الجبل، ثم يسير شمالا إلى أن يصب في البحر في غرب وادي يسر «.و أعرب عن إعجابه بقنطرتها، فقال أن «علوها 100 متر، وهي من بناء الروم، و هي منصوبة فوق أقواس عددها خمسة، يجري الماء في ثلاثة منها، و فوقها أقواس أخرى، حتى مستوى البر من الجهتين»، و يعتبر الإدريسي من القلائل الذين تحدثوا عن الآثار القديمة التي كانت تضمها، فذكر القصر المتهدم، و الملعب الروماني الشبيه بملعب ثرمة، جنوب شرق صقلية، و أضاف أن أهم ما تنتجه الحنطة والشعير و العسل و السمن، مشيرا إلى أن دور المدينة كلها، لها عتبة من حجر، نظرا لطوبوغرافيتها، جراء ميلان أرضها شرقا أو جنوبا، وخوفا من نوائب الدهر، و الغزو والحصار، فكان في كل بيت عدد من المطامير منقورة في الحجر، تتراوح بين اثنين إلى أربع، تدخر بها الحبوب ومواد غذائية أخرى لسنوات طويلة، دون أن تفسد، و داخلها خزانات كبيرة لتخزين الماء لوقت الحاجة.
قسنطينة الهواء .. « الطير لا يصلها إلا بجهد»
في القرن 12 ميلادي، جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي ، المتوفى في 626هجري الموافق ل 1228 ميلادي، أنه نظرا « لعلو موقعها فإن الطير لا يصلها إلا بجهد «، وهو أول من ذكر حياة الترحال عند الأعراب الذين يأتون طلبا للكلأ من الهضاب وهوامش الصحراء، إلى سهول قسنطينة في نهاية الربيع، حيث يقضون الصيف، ثم يعودون إلى مسقط رأسهم في نهاية الخريف.
و ذكرها أيضا أحد علمائها وهو علي بن أبي القاسم محمد أبو الحسن التميمي المغربي القسنطيني المتكلم الأشعري، الذي قدم من دمشق و توفي بها في 519هجري الموافق ل 1125ميلادي، في تصنيفه « كتاب تنزيه الإله و كشف فضائح المشبعة الحشوية».
وفي القرن 12 تعرض لقسنطينة باختصار شديد، الرحالة الهروي علي بن أبي بكر « أبي طالب « ، أبو الحسن، المتوفي في 611 هجري، الموافق ل 1214ميلادي، صاحب كتاب « الإشارات إلى معرفة الزيارات»، حيث ذكر اسمها «قسنطينة الهواء»، و ذكر قنطرتها و اعتبرها من عجائب العمارات، فأورد أنه لا يوجد مثيل لها في بلاد الإسلام.
و قدم صاحب كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار» (عاش خلال القرن 6 هجري، الموافق ل12 ميلادي )، الذي زار قسنطينة عدة مرات، إضافات جد هامة، مقارنة بمن سبقوه حول المدينة، حيث قال أن المدينة كبيرة وعامرة و قديمة و أزلية، تقع على جبل صلد، وسط خندق يدور بها من ثلاثة جوانب، و بها آثار قديمة، لكنه لم يذكرها، و أضاف أنه «لا يعرف أمنع منها إلا رندة بالأندلس»، و انفرد بذكر مناخها، قائلا « إنه يمتاز بالبرودة الشديدة وسقوط الثلج شتاء، وكثرة هبوب الرياح عليها لعلوها».
كما ذكر وجود قنطرة بها ينقل عبرها الماء إلى المدينة لعلوها، وهي المعروفة اليوم بالأقواس، و ذكر أنها من الطراز المعماري القرطاجني، و تضم المدينة أماكن لتخزين الماء ، على غرار ما ذكر الإدريسي.
ويبدو، كما قال الأستاذ سامعي، أن ابن سعيد المغربي علي بن سعيد بن موسى بن عند الملك أبا الحسن، توفي في 685 هجري، الموافق ل1286 ميلادي، صاحب «كتاب الجغرافيا»، أول من حدد موقعها بالنسبة لإفريقيا و بجاية، فكتب «إنها في آخر سلطنة بجاية، حيث كانت الدولة الحفصية، في هذا الوقت أي سنة 683 هجرية الموافقة ل 1284 ميلادية ، منقسمة إلى تونس و بجاية في عهد أبي زكريا الذي أقام مملكة بجاية، ضاما إليها كل من الجزائر و بونة و قسنطينة و الزاب، و ينبهر روادها بواديها الذي يصب في خندق عظيم يسمع له دوي هائل دائر من أعلى المدينة في قعر الخندق، مثل ذؤابة النجم، لبعد المسافة، كما قال.
و أوضح المسافات بين قسنطينة و بين بعض الحواضر، مستعملا وحدات القياس الدرجة والميل واليوم، و قد سبقه الإدريسي إلى ذلك.
اعتبرها الأنصاري الدمشقي من عجائب الدنيا..
من بين الذين كتبوا عن قسنطينة باقتضاب، شيخ الربوة شمس الدين أبي عبد الله محمد بن أبي طالب الأنصاري الدمشقي ، توفي في عام 727هجري الموافق ل 1327 ميلادي الذي كتب « نخبة الدهر في عجائب البر والبحر «، و ذكر به أن من عجائب الدنيا منتخبة و مختصرة « مدينة الهواء، لارتفاعها وعلوها و لوقوعها فوق جبل صاد « و اعتبرها من عجائب الدنيا الثلاث.
أما أبا الفداء عماد الدين إسماعيل السلطان الملك ( توفى في 732هجري الموافق ل 1331ميلادي)، صاحب مصنف « تقويم البلدان «، فقد أخذ من سابقين و أضاف أنها تقع في آخر مملكة بجاية و أول مملكة إفريقية ( تونس )، و هذه الملخصات قال الدكتور سامعي، دليل على أن المشارقة و إلى غاية اليوم، لم تكن لديهم معلومات كافية عن بلاد المغرب، ويقدمون معلومات ناقصة أو مغلوطة في الكثير من الأحيان.
و ركز مصنف ابن الحاج إبراهيم بن عبد الله النميري أبو القاسم (توفى في 774هجري الموافق ل1372ميلادي ) و عنوانه « فيض الغياب وإفاضة قداح الآداب في الحركة السعيدة إلى قسنطينة و أبواب» الذي جمع بين الرحلة والتاريخ، لأن ابن الحاج كان شاهد عيان، على مناعة المدينة و وصف سكانها بالعناد والرفض، وهو ما يلاحظ في كل مراحل تاريخها، و ذلك لتصديهم لكل محاولات نيل الأعداء منها.
و أضاف أن أبا عنان المريني حاصرها من جميع الجهات، إلا أن ذلك لم يمكنه منها، فسكانها كانوا على توافق تام، و لهم بها من المدخرات، ما يكفيهم لتحمل تبعات حصار طويل وقاس.
ابن بطوطة ركز على كونها محطة أساسية لقوافل الحجاج..
كما مر بها أشهر رحالة و هو ابن بطوطة محمد بن عبد الله بن محمد الطنجي (توفي في 779 هجري الموافق ل1377 ميلادي)، ولم يمكث بها إلا بعض الوقت، و اقتصر على ذكر ما جرى للموكب الذي كان قاصدا الحج، فبات من كان فيه خارج المدينة، فأصابهم وابل من المطر، اضطرهم إلى اللجوء إلى الدور القريبة من مخابئهم، حيث كانت قسنطينة محطة أساسية لمرور قوافل الحج، و كانت هذه القوافل محل تقدير وتبجيل من الحكام والسكان، على حد سواء، حيث استقبل حاكمها أبا الحسن، وفدا عن الحجيج بمقر حكمه، وغسل ثياب ابن بطوطة الملوثة، مما أصابها جراء نزول المطر، و أهداه ثياب الإحرام من النوع البعلبكي، ودينارين ذهبيين، واعتبر ذلك فأل خير عليه.
أما الحميري محمد بن المنعم الصنهاجي أبو عبد الله ( عاش في القرن الثامن الموافق للقرن 14ميلادي)، صاحب» الروض المعطار في خبر الأقطار «، فقد قدم الكثير من المعلومات الجغرافية والتاريخية، و أفضل إضافة قدمها، كما أكد الدكتور سامعي، قوله أن قسنطينة «من أشهر البلاد الإفريقية، قديمة وكثيرة الخصب والماء، و تمتاز بمواجلها التي تشبه مواجل قرطاج، وبقنطرتها وأسواقها».
وذكر أن أهلها كانوا في ذلك الوقت، ميسورون يملكون أموالا طائلة ومعاملات واسعة مع الأعراب من بني هلال وبني سليم، الذين استقروا بأحواز قسنطينة، واختلطوا بأهلها، ومن ثم تحولوا من بدو رحل، يعتمدون الرعي، إلى فلاحين
مستقرين حرفتهم الزراعة و الغراسة، فأثر فيهم تعاملهم المباشر مع أهل قسنطينة المتحضرين تأثيرا كبيرا، فأدى ذلك إلى تغيير نمط حياتهم ومعيشتهم السابق ذكرها، و لم يتصادموا بل تم احتوائهم، و أكد الكاتب على خصوبة الأرض وتنوع المحاصيل التي تخزن في المطامير لسنوات طويلة، و كذا العسل والسمن.كما تعرض للأحياء و ذكر الأموات بالمقبرة، و قال إن الأخيرة تبين المراحل التاريخية التي مرت بها المدينة، كما ذكر آثار قسنطينة القديمة، كالقصر الذي تهدم والملعب القديم، كما حدد مواقع أبوابها.
عيش رغد و حكام يمتازون بالعدل، حسب ابن مصباح
وفي رحلة ابن مصباح المدجن الحاج عبد الله الأندلسي ( النصف الثاني من القرن 8 الهجري، الموافق ل 14ميلادي) التي خصص لها كتاب» نسبة الأخيار وتذكرة الأخبار «، الذي لم يعرف له تاريخ محدد ولا لصاحبه، إلا أنه قدم معلومات جد هامة حول المدينة، فتحدث عن خصبها ورخائها، و ضرب مثلا بسميد الدقيق و «أرطال بجديد»، وهي عملة نحاسية كانت مستعملة آنذاك.
و ذكر أن اللحم فيها يباع دون وزن، لكثرته و انخفاض سعره، إضافة إلى التمر والسمن و الصوف الذي يوفره الأعراب الذين استقروا بنواحيها، و انفرد بذكر بعض الفواكه التي تغرس فيها، كالمشمش، وأكد أن العيش رغد بها وسكانها يشبعون لحد التخمة، وحكامها يمتازون بالعدل، وأهلها أصحاب إيثار وعافية، وبذلك يكون ابن مصباح، قد نقل صورة صادقة لنشاط و طبيعة سكان قسنطينة وحكامها.
أما العبدري محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن مسعود الحيحي أبو عبد الله (خلال القرن 7هجري الموافق للقرن14ميلادي)، المغربي الذي قام برحلة قيمة إلى الحج ، و دون خلالها ما رآه في طريقه، و تعرف رحلته ب» العبدري العبدري « أو «رحلة المراكشي «، ابتداء من سنة 677هجرية الموافقة ل 1278 ميلادية، و قد مر بقسنطينة و توقف بها، عندما كانت مركزا مهما للقوافل ومنزلا لكل مسافر من الغرب نحو الشرق، ومنهم العبدري.
وذكر أن قسنطينة في تلك الحقبة التاريخية تراجعت حضاريا، جراء ما مرت به من نكبات، و تأسف لتراجع الحياة العلمية بها، لكنه قدم جوانب مضيئة تعكس التواصل العلمي بين الأجيال، وذلك من خلال بعض شخصياتها العلمية التي تجاوزت سمعتها المكان إلى بلاد المغرب، ومن بينها الشيخ أبي علي حسن بن القاسم بن باديس والشيخ الصالح الحاج الحلفاوي، وكذا الأديب أبو علي حسن بن علي بن محمد القسنطيني، المعروف بابن الفكون، الذي قال إنه سأل عنه الشيخ أبا علي بن باديس، فرد أنه أدركه و هو طفل صغير، ولم يحفظ له مولدا ولا وفاة.
ابن خلدون سلط الضوء على أحداثها التاريخية..
أما ابن خلدون عبد الرحمن بن محمد، 808 هجري، الموافق ل1405ميلادي، فقد ذكر قسنطينة في أكثر من موضع في كتابه « ديوان المرتدات والخبر ومن جاورهم من ذوي السلطان الأكبر «، و تعرض للأحداث التاريخية التي مرت بها في ظل الدولة الحفصية المرتبطة بها.
و قال الدكتور سامعي، أن كتاباته تدل أنه زار قسنطينة زيارات خفيفة، أو مر بها، على الرغم من وجود أخواله بها، الذين بعث إليهم أهله و زوجته وأولاده، عندما عزم الرحيل إلى الأندلس، كما أنه عاد إليها بعد خروجه من بجاية، وأقام عند أخواله الذين وفروا له الحماية.
ويأتي في هذا السياق ذكر بن الخطيب لسان الدين محمد بن عبد الله التلمساني الغرناطي الأندلسي (توفى في 776هجري الموافق ل 1374م) ، صاحب المؤلفات الكثيرة ، منها» نفاضة الجراب في علالة الاغتراب»، و يسرد فيه رحلة قادته إلى مراكش وجبال الأطلس، و صف فيها البلاد والمدن التي مر بها في طريقه، حيث استقر في ضاحية سلا زمنا، بجوار قبور بني مرين، و ذكر قسنطينة في إشارة خفيفة، عندما ذكر أحد أعلامها، وهو الطيب ابن المراكشي، طبيب السلطان المريني أبي الحسن.
وكان هناك مؤرخ و رحابة مشرقي أعجب بقسنطينة أيما إعجاب، وهو زين عبد الباسط بن أبي الصفاء أبو المكارم ( عاش في القرن التاسع الموافق للقرن 15 ميلادي)، فقد زار مدنا كثيرة في بلاد المغرب الأوسط، و مر بمعظم المدن من قسنطينة إلى تلمسان، و زار قسنطينة في ذي القعدة سنة 866هجرية/ 1461ميلادية، وأقام بها ثلاثة أيام، و أعرب عن انبهاره بمشاهد الصخرة والوادي العظيم، و العمران و كثرة الخصب بها و ثمارها المتنوعة التي تسقى بماء وادي الرمال، لا سيما في الشمال فقال «..كثيرة الخصب والأجنة و البساتين، ذات الأشجار ذوي الثمار المتنوعة، وبها النعم والخيرات، و الماء الغالب».
أما الوزان الحسن بن محمد _ المدعو ليون الإفريقي _ نزيل فاس ( اختفى في روما سنة 957 هجرية/1550ميلادية)، المولود بمدينة غرناطة بالأندلس، وعاش مع أسرته الصغيرة بفاس، و درس على يد أعلام القرويين وأسر في البحر في سواحل تونس، وأخذ إلى نابولي و تظاهر باعتناق المسيحية، فحمل اسم ليون أو الأسد الغرناطي أو الإفريقي، فله كتب كثيرة أهمها « وصف إفريقيا»، وقد خص قسنطينة في هذا الكتاب، بملحمة وافية و هامة.
الوزان انفرد في وصف طبيعة سكان المدينة و معتقداتهم
وصفها ليون الإفريقي ب»التقديمة التي تعود إلى العهد الروماني»، فذكر قوس النصر الذي كان قائما في عصره خارج أسوار المدينة، و الدرج الحديدي المؤدي إلى النهر، والرواق المقدس، و الحمام المعدني الساخن، وعين ماء باردة مبنية بالرخام، و أعجب بأسوارها القوية، كما وصف «أبوابها الجميلة الكبيرة والمصفحة بالحديد تصفيحا جيدا والطريقان الشرقي والغربي المؤديان إليها»، لكنه لم يذكر قناطرها.
في المقابل قدم خلافا لغيره من الرحالة، تعداد سكانها في ذلك العهد و هو حوالي 8 آلاف كانون ( أي دار أو مسكن )، بأعداد 6 أفراد لكل عائلة، وبهذا الحساب قد يكون سكان قسنطينة في ذلك الوقت حوالي 40 ألف نسمة، وهو عدد كبير بالنسبة للمدينة وحجمها في ذلك الوقت.
و اعتبر الوزان المدينة ، جد متحضرة في القرن العاشر الهجري / 16ميلادي، فقد انتشرت فيها المؤسسات المستحدثة، كالمدارس والزوايا التي بلغ عددها أربع مؤسسات.
و أضاف أن سكانها كانوا شجعانا و مقاتلين وفي الوقت نفسه، مقتصدين و متكبرين، ويرون أنفسهم أكثر رقيا من غيرهم، حسبه، و في نفس الوقت هم مغفلون، على حد وصفه، و لعل غفلتهم أتت من طيبة نفوسهم و رقيهم وآدابهم وأدبهم.
و كانوا ، حسبه ، يعتقدون أن قوس النصر الأثري، قصرا كانت تسكنه الشياطين فطردهم المسلمون عند دخولهم إلى البلاد، كما تعتقد نساء قسنطينة أن السلاحف التي كانت تعيش في المياه الساخنة شياطين، وحين تصبن بالحمى، يقدمن للماء، «النشرة»، دجاجة بيضاء بريشها في إناء تحيط به شموع، و تترك عند العين، فيأتي بعض الأشقياء، فيأخذوا الدجاجة و يأكلوها.
كما يعتقدون أن العين المبنية بالرخام ذي النوعية الجيدة، مكان مدرسة، كان المعلم الذي يدرس بها وتلاميذه فجرة، فمسخهم الله رخاما، عقابا لهم، ووجود رخام أبيض دليل على تحضر المدينة. و العقاب ينم عن رفض كل سلوك غير سليم.
و يعتبر الوزان الوحيد الذي توسع في وصف المدينة وطبيعة سكانها، فقال إن أسواقها منظمة وحسنة التنسيق، وهو ما يؤكد رقيها الحضاري، كما أن كل حرفة منفصلة عن الأخرى، وأكد أن الزراعة فيها كثيفة ومتطورة، وقدم تفاصيل، لم يسبقه إليها أحد، لكن بشكل مقتضب، فقال أن الصناعة فيها متطورة، وكانت تصدر فائض الأقمشة الصوفية والزيت والحرير إلى الجنوب كبسكرة ووارجلان..ورقلة.. ومنها إلى السودان الأوسط و الغربي، حيث كان التبادل يتم بالمقايضة، أو بالعملة، فذكر الوزان أن ثمن ثمانية أو عشرة أرطال كانت تباع بثلاث « بايوشات «، و هي عملة إيطالية قيمتها نحو واحد سنتيم ذهب..
و أكد أن قسنطينة كانت تخرج منها سنويا قوافل تتجه نحو الجنوب، محملة بالسلع والبضائع المختلفة، لاسيما أقمشة الصوف والحرير والزيت، و غيرها و يرافقها حراس من حاملي البنادق لحمايتها من هجمات الأعراب..
أوضح الوزان إن القوافل التي كانت تتجه شرقا نحو تونس، أصحابها كانوا معفيين من دفع إتاوات الدخول، وسبب ذلك احتياج أهل تونس لبضائعهم، و تشجيعا لهم من طرف الحكام، لكنهم كانوا يدفعون إتاوات أغلى عن البضائع التي تجلب من تونس، قدرها 2.5 بالمئة...
بخصوص الوضع السياسي، قال إن الدولة الحفصية التي كانت قسنطينة تابعة لها، لم تكن تتحكم في الوضع السياسي، فظهرت اضطرابات على السلطان الحفصي نفسه في تونس، جراء مخالفته التقاليد و تعيين أبنائه ولاة، وجعل الأعراب يحطمون جيش قسنطينة و يقتلون وليها، و نظرا لفساد الولاة من أبناء السلطان اضطر إلى تعيين وال من خارج العائلة الحاكمة، على غرار تعيين القائد أبا الفتح من أصل مسيحي، أسلم والده، في جمادي الأولى 857هجري/ 21 ماي 1453ميلادي، حاكما على قسنطينة، فكان داهية و قام بتجديد القلعة وجعلها حصنا له، و سيطر على المدينة وأرهب الأعراب، فقبض على زعيمهم، وأخذ أبناءه رهائن وهو ما زاد الوضع توترا واضطرابا، وشرع في الإعداد لاستقلال قسنطينة و انفراده بالحكم فيها، ووصل به الأمر إلى ضرب السكة باسمه، و انتهى الأمر بثورة السكان عليه، بغلق الأبواب في وجهه عندما عاد من نوميديا، في الجنوب، لكن بمساعدة السلطان، عاد إليها وحاصرها بالحيلة وقوة السلاح، وعاث بها فسادا وأعدم أعيانها، فثار عليه السكان مجددا وتغلبوا عليه وقتلوه و أجبروا السلطان على تعيين أحد أبنائه حاكما، باعتبارها قسنطينة مدينة مميزة.
أما ابن سباهي زادة المشرقي المولى محمد بن علي الرومي الحنفي اليرسوي (توفي في 997هجري/1589ميلادي) والذي لم يزر المدينة واعتمد في جمع معلومات مصنفه « أوضح المسالك إلى معرفة البلدان والمظالم «، على كتابات من سبقوه عن قسنطينة ، لكنه حاول تقديم الجديد وذلك بتحليل أصل ومعنى اسم المدينة.
ومن الذين قدموا وصفا دقيقا وعلميا للمدينة سيدي الحسين بن محمد الورثلاني ( توفي 1193هجري/1779ميلادي). في مصنفه « نزهة الأنظار في فضل علم التاريخ والأخبار «، فقد زار قسنطينة ومكث بها أسبوعا، وهو في طريقه إلى البقاع المقدسة ضمن قافلة الحج، فقال «إنها مبنية على كهف وعلى جرف يحيط بها سور له ثلاثة أبواب، و بها 5 مساجد وهي غاية في الإتقان، دون أن يذكر اسمها، كما قال «إن للمدينة قصبة عظيمة».
ولعل ما نقله الورثلاني لا يزال معظمه قائما إلى غاية اليوم، و هو من الأوائل الذين أشاروا إلى تجارة قسنطينة مع الجنوب نوميديا و الصحراء وبلاد السودان حيث كانت تسير قوافل تجارية و تأتيها قوافل من شتى النواحي، كما أشار إلى ضعف التعليم بالمدينة، جراء نقص اهتمام سلطة الأتراك بالعلم، ولاسيما بناء المدارس، و كان العلماء مضطهدين و يخشون الفتك بهم، لذلك كانوا يختارون الهجرة أو الاختفاء عن الأنظار، فالسلطة لم تكن تهتم بالعلم وأهله، بل بالقوة العسكرية، وهي ظاهرة تكررت في تاريخ المغرب عموما،حسبه.
و أضاف الورثلاني أن كل مسجد بقسنطينة، يوجد به قبر عالم أو شيخ و ولي صالح، ينسب إليه ذلك المسجد، وعدد المساجد حوالي 9 وهي أحمد بن عين الناس وعمر الوزان وسيدي عبد الله الشريف وعبد المومن وسيدي الرماح وسيدي مفرج وسيدي السفري في كدية عاتي، ووقف على قبور هؤلاء ودعا لهم.
و قدم في كتابه، إشارات خفيفة عن طبيعة الحكم في قسنطينة منذ العهد الحفصي، حيث كان يحكمها نائب عن السلطان في إفريقيا، أما في عصره، فكان يتولى حكمها العثمانيون الأتراك، فاتسمت إدارة قسنطينة بالتناقض والاضطرابات والانقلابات والقتل والانغماس في الشهوات، حسبه، لا سيما فترة حكم صالح باي.
و أضاف أن الوضع في المناطق الداخلية التي كانت تأبى الخضوع للدولة، بالامتناع عن دفع الإتاوات، فكانت تسيطر عليها القبائل والبدو الرحل والأعراب.. ويرى أن كل ذلك سببه الاستبداد والظلم، و تعرض للكثير من المظاهر السلبية في عهد الدولة العثمانية.