عاد الحكواتيون أو الراوون، للظهور مجددًا على شاشات التلفزيون وعبر محطّات الإذاعة وعلى منصّات التواصل الاجتماعي، فضلًا عن عروضهم على خشبة المسرح وفي السّاحات و الشّوارع، وذلك بعدما انحصر حضورهم كثيرًا في المشهد الثقافي و الاجتماعي خلال السنوات الماضية، لتفتح قنوات الاتصال الحديثة الباب أمام بعث هذا النشاط الذي يتميّز برمزية كبيرة خاصة وأنه الصندوق الذي حفظ ذاكرة الرواية الشعبية و سمح باستمرارها و تلقينها عن طريق المشافهة، فضلا عن أن وظيفة الراوي تعدو ذلك إلى تمرير الرسائل النضالية أو الثقافية أو الاجتماعية.
أعدت الملف: رميساء جبيل
ما تزال الحكايات الشعبية تلعب دورها في إثراء المعرفة البشرية، من خلال تصويرها لأحداث الحياة، عن طريق القصص و الأساطير و المعتقدات الشعبية القديمة، فضلا عن نقل مجريات العصر و أحداثه و تقديم توصيف للتاريخ والجغرافيا.
ورغم غزو التكنولوجيا، إلا أن للقصص الشعبية مكانة خاصة، تنتهي عندها مغريات الهواتف والحواسيب الذكية، هذه الأخيرة التي أضحت وسيلة تستغل في بعث القصص الشعبية من جديد وترويجها على نطاق أوسع، بعدما وجد حكواتيون متنفسا في منصات التواصل الاجتماعي، ليبرزوا حجم وقيمة وجمالية الموروث القصصي الشفهي الأمر الذي نال استحسان متابعين قابلوا الفكرة بالترحيب والإعجاب، معلقين على فيديوهات الحكواتيين بعبارات « فكرتونا في أيام زمان» و « رجعتوني لصغري» و» فكرتوني في يما وجداتي».
تبرمج المؤسسات الثقافية والتعليمية أيضا، حلقات للراوي، أغلبها تكون موجهة للأطفال الصغار في الأعياد و خلال العطل، للسماح لهم بالسفر بمخيلة الطفولة بين جدران البيوت وأزقة الشوارع القديمة و تعلم القيم و الاستفادة من سير الأولين ناهيك عن الارتباط بأبطال وشخصيات يشاركونهم الثقافة والهوية والانتماء. كما لا تسقط برمجة بعض المهرجانات الثقافية الوطنية فقرة الحكواتي من الأجندة، على غرار المهرجان الوطني للشعر النسوي بقسنطينة، وذلك لإحياء الذاكرة و ضمان استمرار التقليد.
يعتمدُ الراوي خلال إلقائه على حواسه و طبقة صوته برفع المقامات تارة وخفضها تارة أخرى، مع الغناء في بعض الأحيان إن تطلب الأمر ذلك، أو استخدم آلة موسيقية للفت الانتباه وإيقاف التشويش وللتأكيد على نقطة معينة، أو التلويح بالعصا.
إضافة إلى ذلك، فإن إذاعات و قنوات تلفزيونية جزائرية و عربية أضحت تخصص برامج ينشطها حكواتيون يتميزون بخفة الظل وقوة الشخصية وطلاقة اللسان والحنكة والتحكم في إيماءات الوجه بما يتناسب مع تفاصيل القصة، إما بجحظ الأعين أو زم الشفتين أو رفع الحاجبين وغيرها، وهو توجه إعلامي فرضه الاهتمام المتزايد بهذا الفن الذي وجد له مكانا أيضا على المنصات الاجتماعية التفاعلية.
* الحكواتي صديق ماحي
هو فن الكلمة وإعادة بعث الذاكرة
يرى الحكواتي صديق ماحي، أنه من الضروري إعادة ضبط المفاهيم قبل كل شيء قائلا، إنه شاع في الجزائر خلال السنوات الأخيرة مصطلح الحكواتي الذي يستعمل في الأصل بفلسطين وبلاد الشام ولبنان، والذي يطلق على كل من يروي قصصا وحكايات، أما في دول الخليج كالبحرين مثلا فيدعى الرجل بـ» أبو السوالف» والمرأة بـ « أم السوالف» و» البداوي» في تونس، في حين شاع في الجزائر منذ القدم لفظ الراوي أو القوال أو المداح وليس الحكواتي.
وأضاف المتحدث، بأنه من الإيجابي أن تعيد التغيرات الحاصلة في المجتمع، الراوي للظهور والبروز مجددا، خصوصا وأن الحكاية في أصلها ليست فنا وجد للترفيه والتنفيس فقط، وإنما لها أبعاد أعمق بكثير، فلها وظيفة تتمثل في بعث الذاكرة من جديد، سواء النضالية منها أو الثقافية أو الشعبية ومختلف المحطات التاريخية العريقة وكبريات المقاومات الشعبية، والتذكير بتاريخ الأجداد مؤكدا أن جل القصص التي تروى في بلادنا تحمل في مضمونها عبرا ودروسا وحكما وجماليات تُلتمس بالتركيز في الحيثيات.
وأشار ماحي، إلى أنه ليس كل من يقص قصة في جماعة أو مقهى هو راو أو قوال، ذلك لأن الإلقاء في مكان عام أو على خشبة المسرح، يتطلب تقنيات معينة يُستوجب إتقانها والعمل على تطويرها جيدا حتى يتجاوب معه الجمهور ويتذوق كلماته ومعاني الرواية، وبذلك يستخلص العبر والحكم من ثناياها ويتشوق للمزيد ولبقية التفاصيل قبل انتهائها، كما يُطلق العنان لخياله ويسرح مع الأحداث الشيقة.
وأعطى مثالا، بقصص «الغولة وبقرة اليتامى»، فهي عندما تروى للطفل الصغير تساعده على تنمية وتطوير خياله وذاكرته، وتضيف مصلحات ومفردات جديدة إلى رصيده اللغوي، كما تزود قاموسه بألفاظ قديمة وحديثة لم يكن ملما بها في السابق، خصوصا وأن كثيرا منها قد اختفى من ذاكرة الأشخاص وتناسته الأيام، فإحياء الراوي لقصص قديمة على مسامع المتلقين مهم، و قد تبدو لهم غريبة في بادئ الأمر، لكن عقولهم ستلتقط كل مصطلح جديد لاستعماله فيما بعد.
وقال المتحدث، إن فن الحكاية يعني في الأصل إعادة الاعتبار للكلمة والقصة الشعبية، و اتهام للأجداد بالخرف، و عدم الاهتمام بما تنطقه ألسنتهم وترويه ذاكرتهم ولا حكاياتهم التي تسرد قصصا ومغامرات وأحداث حقيقية مر على وجوده بعضها أكثر من مئة سنة، هو إغفال و محو دون إدراك لجزءا من الذاكرة المحفوظة في الحكايات والأساطير والروايات وإسقاط لحق الكلمة قائلا، إنه كبر على حكايات أمه التي كانت تقصها عليه والتي تلقتها بدورها من والدتها، حيث يقوم اليوم بسردها على عشرات الأشخاص من داخل وخارج الوطن بفرنسا و إسبانيا و بريطانيا وفي بعض الدول العربية كذلك. وتابع ماحي حديثه، بالقول بأن الشعوب التي ليس لها ذاكرة محكوم عليها بالزوال والاندثار، فكثير من البلدان التي لا تملك في سجلها تاريخا أو بطولات وشخصيات، بنت دولا وإمبراطوريات ضخمة من خلال الحكايات والأساطير الخرافية، في حين ما تزال نظرتنا لهذا الفن ضيقة، فحتى المؤسسات الثقافية حسبه، لا تعتبر فن الحكاية أبا للفنون، بل تراه فنا قاصرا، و يفضل القائمون عليها عموما عروض البهلوان و الأنشطة التهريجية على تنظيم مجالس للحكاية، متناسين أن الحكايات تقدم دروسا وعبرا تربي الأجيال، و يطلق عليا في دول أخرى « فن الذاكرة» و» فن الشعوب والأمم».
رسائل الحرب
وأضاف، أن القوال و الراوي ظهر في الجزائر بقوة مع الحرب العالمية الثانية، وقد كان اعتماد الحركة الوطنية وجمعية العلماء المسلمين كبيرا عليه لتوعية الشعب، فالقوالون كانوا بمثابة أدوات لإيصال الرسائل ذات المعاني المشفرة في قالب ترفيهي تنفيسي، نظرا لدخولهم إلى الأسواق الشعبية و الوعدات و القعدات والزوايا، وقد لعبوا على حد قوله، دورا كبيرا في تعليم الأشخاص، رغم الطمس الذي تعمدته فرنسا مضيفا ، بأن جل المداحين كانوا مثقفين ومتعلمين منذ القدم، فغالبيتهم تعلموا بالزوايا وعند تنقلهم من منطقة إلى أخرى بغية طلب العلم والتوسع فيه، كانوا يستغلون مهارتهم وعلمهم في سرد القصص الدينية والترفيهية وحتى التاريخية لكسب لقمة العيش، أين كان الناس يكرمونهم بالمال أو الأكل أو باستضافتهم للمبيت، إلى أن أصبحوا محترفين.
وقال المتحدث، إن الراوي يستعمل خامة صوته المميزة، في جذب الانتباه إليه والاستحواذ على تفكير جمهوره خلال فترة الإلقاء، وكذا تطبيق كل ما تعلمه وسمعه على مرأى المتلقين، مضيفا، أن ما يميز القوال هو شخصيته القوية و الكاريزماتية وثراؤه اللغوي والفكري والثقافي، حيث يحمل في فكره مكتبة غنية مشيرا، إلى إنه خلال الإلقاء يتقمص شخصية أبطاله، فيكون كوميديا و ممثلا و ساردا، مشيرا إلى أنه رغم العروض التي يقدمها في الخارج أمام شخصيات أجنبية، إلا أنه يسرد القصص الشعبية باللهجة الجزائرية، لأن جمهوره هناك يبحث عن لغة الجسد وإيماءات الوجه.
وأوضح ماحي، بأن الراوي المحترف هو الذي يتقن إلقاء القصة عدة مرات بذات الأسلوب والتشويق وبنفس الإيقاع السابق، حتى يخيل للمتلقي أنه يستمع إليها لأول مرة، مع تخصصه في مجال واحد إما القصص الخرافية أو الثورية أو الثقافية أو قصص المغامرات، أما الهاوي فيروي كل الأنواع.
وأوضح، من جانب آخر، بأن القصص تستخدم للعلاج النفسي فهي تساعد على الاسترخاء والنوم والتخلص من الأرق، كما أنها وسيلة جيدة لإيصال المعاني والرسائل التي يلتقطها المتلقي فيشعر أنها تجيب على أسئلة في داخله، فالصغير مثلا سيتلقى معاني الحكاية وفق مستوى وعيه وإدراكه الحالي، لكن عند تلقيه لنفس القصة بعد سنوات سيستوعبها وفق وعيه الجديد.
* الحكواتية فضيلة بن صالح
حكواتيون بأبعاد رسمتها التكنولوجيا
حسب رأي الحكواتية فضيلة بن صالح، فإن مهنة الحكواتي لم تنقطع يوما عن الجزائريين، فقد كانت منتشرة في أوساط المجتمع على صفات متعددة منها القوال الذي يتواجد بالأسواق، والحكواتي الغنائي الذي كان يحمل معه آلة موسيقية للعزف عليها أينما حط ترحاله، ناهيك عن تواجدها داخل أسوار البيوت الجزائرية، بصفة الأمهات والجدات اللائي يسردن القصص على مسامع الأطفال الصغار.
وقالت، إن التطورات التكنولوجية التي يعرفها المجتمع في الآونة الأخيرة، قد عززت وجود الحكاية بشكل أكبر، فأضحى من الممكن تقديم عروض حكواتية على ركح المسرح أو في الساحات بتقنيات ثلاثية الأبعاد، التي أضحت رائجة في الآونة الأخيرة، فيظهر من خلالها الراوي على شكل شخصية مجسمة ما يعطي للقصة طابعا خاصا ونكهة مميزة.
وأضافت المتحدثة، أن الحكايات الشعبية التي تندرج ضمن الموروث الشفهي الجزائري، تتشابه مع مثيلاتها في بعض دول المغرب العربي من ناحية حيثيات وتفاصيل القصة المروية، لكنها تختلف في بعض المصطلحات والكلمات العامية على اعتبار تنوع اللهجات، فعلى سبيل المثال الحكاية المعروفة لدى الجزائريين بـ « بقرة ليتامى» تعرف في دولة شقيقة بـ « غزيل» وغيرها من القصص المشتركة و أشارت إلى أن كثيرا من القصص التراثية ترتبط بالشعر الملحون والألغاز بشكل وثيق.
وتابعت المتحدثة تقول، إن دور الراوي يكمن بدرجة أولى في الحفاظ على تنوع الموروث الشفاهي المعروف بزخمه ومفرداته القديمة والجميلة، مع الإبقاء على مختلف أشكال الحكواتيين المتعددة مضيفة في ذات السياق، بأن هذا النوع هو فن نسوي بامتياز، ففي عهود سابقة كانت النساء تتولين مهمة تحفيز الرجال العائدين من الحروب والمعارك ومدهم بجرعات من الأمل والتفاؤل، من خلال سرد حكايات تنسيهم مرارة التعب وتدفعهم للمضي قدما معلقة بالدارجة : « الحكاية إذا ما مدت الحكمة للراس تصنع تراس».
وترى الحكواتية، أنه من المهم أخذ تكوين في هذا الفن قبل ممارسته، كما فعلت هي عن طريق منظمة التعاون الألمانية، الأمر الذي ساعدها على صقل موهبتها، وعرفها بكيفية التعامل مع الجمهور وزيادة ثقتها بنفسها، فقدمت عروضا داخل وخارج الوطن.
وتنصح المتحدثة الأمهات، بأن يتخذن من الحكايات والقصص سبيلا لتوطيد أواصر العلاقة مع أبنائهم فالوقت الذي تقضيه الأم مع صغيرها أثناء السرد من شأنه أن يقرب المسافة بينهما، ويسهل عليها عملية التربية والتواصل، ويساعد في تنمية مهارات الطفل وذكائه الاجتماعي والعاطفي، كونه يغذي الخيال لدى المستمع، و الخيال حد قولها تربية من نوع آخر، خصوصا وأن الحكايات تعتمد بشكل كبير على الخيال الذي يساعد على تحفيز منطقة الذكاء لدى الطفل، ولهذا منذ القدم والجدات يعتمدن في التربية على قص حكايات أسطورية وخيالية، على غرار « الغولة» التي استعملت في العادة للتخويف لكنها في الحقيقة تنشط مخيلة المصغي فيبدأ في تخيل شكلها.
وأكدت بن صالح، بأنه من المهم سرد حكايات عن الثورة الجزائرية المجيدة، فهي جسر لتوثيق الذاكرة الثورية، خصوصا وأن بعض القصص تحمل في طياتها أحداثا أغرب من الخيال لا يجب أن تنسى أو تمحى من سجل التاريخ، حتى تشهد الأجيال القادمة على تضحيات الأجداد ومعاناتهم في سبيل تحرير الوطن.
* القاصة نرجس زبيري
منصات التواصل أعادت للراوي جمهوره
قالت القاصة والكاتبة نرجس زبيري، إن مهنة الحكواتي أو الراوي أو القصاص أو القاص، تعتبر عادة شعبية تقليدية امتهنت منذ القدم لسرد القصص في المنازل والمحال والمقاهي والطرقات، أين كان الناس يحتشدون حول الراوي وهو يسرد أحداث القصة المشوقة بتفاعل كبير.
والحكواتي حسب زبيري، أقرب إلى الممثل بطبيعة الحال، فهو يجسد شخصيات روايته وكلامها بتحريك يديه ورفع صوته أو تضخيمه، فهو فنان مبدع من نوع خاص، يتميز عن غيره بأسلوبه ومهارته في الإلقاء والتعبير، ومدى تحكمه في ملامح وجهه، فيظهر عابسا تارة وضاحكا تارة أخرى حسب الحدث أو الشخصية، وكلها في الأخير تبقى أساليب لزيادة التشويق وجذب المشاهدين والاستحواذ على تركيزهم.
كما يتمتّع الحكواتي بذاكرة قوية، ويملك في رصيده كما هائلا من المعلومات الفياضة والقصص التراثية الممتعة، التي تتمحور عادةً حول شخصية رمزية تلعب دور البطولة وتتحلّى بالشجاعة والمروءة ونصرة المظلوم، وفي نهاية كلّ حكاية لا بد للخير أن ينتصر على الشر، وأن تكون الحكمة هي سيدة المواقف، والقيم و الفضائل هي الرسالة المنشودة مشيرة في ذات السياق، إلى أن دور الحكواتي لا يتوقف في امتاع السامعين وفقط، بل هو عبارة عن وسيلة توعوية، تعرف الجماهير بكثير من الظواهر الاجتماعية والإنسانية والثقافية والترفيهية ما يعدد وظائفه على الخشبة.
وأوضحت، أن كل هذه الأهمية والمكانة الوظيفية للراوين وحكاياتهم لم تسعف فن الحكي ليبقى رائداً وحاضراً في الحياة، إذ تأثر بعدة عوامل أدّت لتراجع حضوره في سنوات سابقة، أبرزها موجة الحداثة وتسارع دخول التكنولوجيا للبيوت الجزائرية، بدءاً بالراديو والتلفاز والفضائيات الكبرى والسينما والأفلام، وبذلك لم تبقَ للحكواتي ذاتُ المكانة بين هذه الوسائل الترفيهية، واختفى عصر الحكاية وزمن تبادل القصص والأحاديث اليومية، وصار الحديث عن الحكواتي والحكايات الشعبية وجلسات السَّمر، حديثا عن التراث الماضي والزمن القديم، إلا أن عالم الإنترنت وثورة الاتصالات قد أعادت بعث هذا الفن من جديد وساعدت على انتشاره على نطاق أوسع، فبات الحكواتي يُعرف ويُتابع من خلال ما ينتجه من فيديوهات يتم الترويج لها عبر منصات التواصل.
وأضافت المتحدثة، أن للحكايات أهمية في عالم الطفل و تأثيرها تربوي نظرا لبصمتها، فهي تأخذ الصغار إلى عالم الأحلام والخيال والمتعة، كما تحمل في طياتها رسائل عميقة، ولذلك يحب كثير من الأطفال الإصغاء إلى قصة ما قبل النوم لكي يغفوا على وقع أحداثها ومجرياتها، رغم توفر الهاتف الذكي و التلفزيون، فالأجهزة الإلكترونية تعطي صوراً جاهزة تبقي الطفل مستيقظاً وتفقده قدرة التخيّل الطفولية، في حين أن القصص المروية مع سلاسة الإلقاء توقظ خياله الخاص، فيخترع شخصياته بحسب قدرته على التخيّل، و يؤسس عوالم واسعة يلوّنها بمزاجه، ويغرق في أمكنته الخاصة التي تشبه الأحلام، فتنقله القصة التي يسمعها من الواقع إلى الحلم وبالتالي إلى النوم.
وأفادت المتحدثة، أنها اختارت كحكواتية ومؤلفة قصص معاصرة للصغار، أن تبرز في الأدب العلمي للطفل، وأن يمتزج علم فيزياء الطيران بخبايا أحداث مؤلفها « عصفور المحيط»، بغية تمرير حقائق علمية إلى عقل الصغير بأسلوب تعليمي غير مباشر يرسخ المعلومات مع كم من المشاعر الجياشة التي تصاحب أحداث القصة مضيفة، بأنها كشفت مؤخرا خلال لقائها مع الصغار في مهرجان الطفل بمكتبة قسنطينة، عن خبايا الحكاية غير المرئية وقدمت بعض الشروحات والمعاني التي قد تحملها جملة واحدة.
* الشاعـرة و الحكواتية راضية قوقة
عودتنا ردّة فعل على العولمة والتكنولوجيا
تعتبر الكاتبة والشاعرة و الحكواتية راضية قوقة بأن الحكايات الشعبية قد وجدت لأخذ دروس الحياة والعبر والمواعظ والقيم الأخلاقية والإنسانية بإطلالة دافئة تذكر بحضن الجدات، فالحكاية حسبها « زخات مطر تروي فسيلات المتعطشين الذين يبحرون بخيال مجنح، في حين أن الحكواتيين هم من يرسمون أطياف قوس قزح ويصنعون الابتسامة على ملامح الأطفال».
وأضافت المتحدثة، أن بروز الحكواتيين في الساحة الفنية والأدبية، ردة فعل على اتساع سحابة العولمة والتكنولوجيا، على اعتبار أن الحكاية الشعبية هي الوسيلة الأمثل لإيصال معلومات مفيدة مشبعة بالقيم والمواعظ، تحمل في مضمونها رسائل تعليمية وتثقيفية تزيد من الرصيد الثقافي والمعرفي للطفل وتساعده على النمو المتزن خاصة على مستوى الجانب النفسي، كما أن عودة الحكواتيين ستُبقي هذا الموروث الشعبي على قيد الحياة وتحافظ عليه من الزوال والاندثار.
وتابعت قوقة قائلة، إنه لا بد أن تكون للحكواتي قدرة على جذب انتباه المستمعين مهما كانت أعمارهم، وإدراجهم في قلب القصة وتغذية نفوسهم وعقولهم، لا سيما الشباب والأطفال، على أن يكون كلامه مقنعا وحديثه جميلا سلسا محترما، وأن يطور أحداث القصة إن كانت مقترنة بالمكان والزمان ويطور من مهاراته الحكواتية المتعلقة ببراعة السرد والتحكم في طبقات الصوت وحركات الجسد وإيماءات الوجه، مع وجوب امتلاكه لرصيد قصصي واسع و شامل ومتنوع، من القصص الشعبية والأساطير والخرافات المعروفة والمتداولة بين الأجيال منذ القدم، كأساطير بني هلال وألف ليلة و ليلة وكليلة و دمنة، أو القصص الشعبية مثل الغول و لونجة وبقرة ليتامى، إلى جانب تحريه للباقة والفصاحة اللغوية، شرط أن يكون الكلام مفهوما و يُلقى بصوت جوهري جميل جذاب وواضح تنجذب إليه الآذان و تطمئن إليه القلوب خصوصا وأنه يحمل على عاتقه مسؤولية غرس الصفات الإيجابية من الصدق والشجاعة والمروءة والأمانة من خلال ما يرويه من حكايات.
كما يمكن للحكواتي حسبها، أن يؤلف قصصه بنفسه من باب التعليم والتأديب الترفيهي، فيصنع بمخيلته حكاية تربوية شفوية تربي الأجيال وتكُون في نفس الوقت تجربة فريدة من نوعها بالنسبة للشباب، فتظل راسخة في الأذهان بكل ما تحمله من قيم ومواعظ خصوصا وأن الحكايات الشعبية لها تأثير فعال على نفسية المتلقي، إذ يصغي إليها الطفل بكل حواسه فيبحر من خلالها في عالم واسع، وبهذه الطريقة تنمو لديه القدرة على التخيل.
وقالت، إنها كحكواتية تؤلف قصصها بنفسها على غرار قصة « الأميرة وحورية البحر»، التي تعرف من خلالها ببعض العادات والتقاليد والألعاب التراثية القديمة. كما اختارت أن تمرر الكثير من العبر والقيم الأخلاقية التي تدمج بين الخيال القصصي والإبداع الفني، وأن تضفي على القصة لوحات فنية تعزز عند الطفل الميل الفني وحب الإبداع، فضلا عن أن النشاط الحركي في قلب الحكاية يشعر الأطفال بأنهم أبطال حقيقيون لهم دور في كتابة النهاية، لأن تجسيد مختلف الشخصيات في العالم الحسي، يجعل الطفل ينتقل من العالم الخيالي إلى الواقع المعيش، وكأنه انتقل داخل الحكاية ليعيشها بنفسه ويستشعر كل أحداثها.
وأضافت، أنها تعرض قصصها في كل مرة على الأطفال خلال المهرجانات و الفعاليات التي تخصهم وقد لاحظت تفاعلهم مع هذا النوع من الحكايات مشيرة في ذات السياق، إلى أهمية القصص الشعبية من الزاوية التربوية والترفيهية ومن منطلق دورها الحاسم في إغناء التجربة النفسية للطفل ومساعدته على فهم ذاته وفهم العالم الخارجي الذي يحيط به وإنعاش مخيلته وتحفيز الجانب الإبداعي المكبوت بداخله.