مالـك حـداد .. التـأسيس لكتابـة مختلفــة
يفتح «كراس الثقافة» نافذة أخرى على الكاتب مالك حداد في الذكرى 45 لرحيله، حداد الّذي ظل حاضراً في ذاكرة أجيال كثيرة من القرّاء والكُتّاب، كما ظل حاضرا في أبحاث ودراسات النقاد والباحثين، ورغم ذلك تبقى العديد من الأسئلة عالقة حول سيرته ومنجزه ومواقفه، خصوصا بعد الأسطرة التي تعرض لها بناء على عبارة عن اللّغة تحولت إلى صفة ألصقت بكاتب توقف عن الكتابة مبكرا، وانخرط في السياسة الثقافية الرسمية قبل أن يخطفه السرطان وهو بعد في سنّ النّضج والعطاء، أي في سنّ الرواية!
إعداد: نوّارة لــحـرش
مالك حداد في سطور
من مواليد 5 جويلية 1927 بقسنطينة، عمل معلما لفترة قصيرة، تنقل عبر مدن وبلدان عدة، منها: باريس، القاهرة، لوزان، تونس، موسكو، نيودلهي. عاد بعد الاستقلال إلى أرض الوطن وأشرف في قسنطينة على الصفحة الثقافية لجريدة النصر، ثم انتقل إلى العاصمة ليشغل منصب مستشار، ثم عُين كمدير للآداب والفنون بوزارة الإعلام والثقافة. أسس سنة 1969 مجلة «آمال»، وكان أول أمين عام لاتحاد الكتاب الجزائريين.
توفي في 2 جوان من عام 1978.
من مؤلفاته: «الشقاء في خطر» 1956، «الإنطباع الأخير» 1958، «سأهبك غزالة» 1959، «التلميذ والدرس» 1960، «رصيف الأزهار لا يجيب» 1961، «اسمع وسأناديك» 1961، «الأصفار تدور في الفراغ» 1961.
* محمّد خطّاب
أسس لكتابة مختلفة اِستمدت قوتها من تجربته الخالصة
يقول الناقد والباحث الأكاديمي، الدكتور محمّد خطّاب أنّ مالك حداد أسس لكتابة مختلفة في وقت كانت الكتابة فيه قائمة في معظمها على حس الاِتفاق والسير في خط التقاليد المُتوارثة. وبغضِ النظر عن اللّغة، فإنّ كتابة حداد -كما يضيف الدكتور خطاب- «اِستمدت قوتها من التجربة الخالصة التي عاشها الكاتب بروحه وجسده، وأنّه غالبًا ما تكون بعض التجارب تقليداً واستنساخاً لتجارب أخرى، ولكن تجربة حداد أصيلة في أكثر من منحى».
ذات المتحدث، أشار إلى بعض التفاصيل الخاصة بالكاتب والمُتلقي. وهنا يذكر على وجه التحديد، رواية «سأهبك غزالة» إحدى أروع روايات حداد. وهو يراها شبيهة في مدخلها برواية الكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو Italo Calvino «لو أنّ مسافراً في ليلة شتاء Si par une nuit d›hiver un voyageur»، التي تستدعي القارئ بشكلٍ مُباشر وتُدخله في حضرة السرد والحكاية.
مضيفًا في هذا المعطى: «مع مالك حداد تجد نفسك مع الكاتب والبطل المؤلف متورطاً بشكل سافر في الحكاية، عتبة الرواية مُحرِجة للقارئ التقليدي، عتبة يُراد بها الدخول مع الاِسم النكرة، ربّما لأنّ نص حداد ضدّ المعرفة الجاهزة».
مؤكداً من جهةٍ أخرى أنّ مالك حداد يُؤسس للغة الثانية حيثُ لا كاتب هناك، فقط الصوت الّذي يتحدث عن نفسه ويترك أثراً في الآخر لكي يستجيب. وهنا يوضح فكرته قائلاً: «الكاتب منفي باللّغة التي اِختارها، ولكنه يحيا بالصوت الّذي يتبدّد داخل رواية لا يمكن تصنيفها، إنّها متداخلة بحس الشاعر. الكاتب ميت بتعبير بارت Barthes وحيلة حداد هو اِستعارة صوت آخر لكي يُخفّف من حِدة الشعور بالغربة. لا يمكن الصمت في هذه الحالة، ولكن الكتابة خلاّقة للاِسم النكرة (المخطوطة لا تحمل اِسم المؤلف) ص13 من (سأهبك غزالة). (الكِتاب الّذي يحمل اِسم صاحبه يُضايقه)، ص14، إنّنا أمام كتابة خلاّقة للصمت والنكرة، على القارئ أن يستعد مُجدّداً للفهم الّذي صار قيمة معرفية ومسؤولية أخلاقية بالمعنى الفلسفي وليس الديني».
خطاب يواصل في ذات السياق: «نحتاجُ إلى نقد يتأسس على تجارب كُبرى مثل تجربة مالك حداد. كان بإمكان النقد الجديد أن يقفز على مراحل كثيرة ضاع الجهد فيها في مسائل تقليدية لا معنى لها. إنّ بحث الاِسم النكرة والصوت الّذي يعبُر إلى الصمت وغربة الكاتب الحقيقي داخل لغة تُؤسس لنفيه الكبير لهو مفتاحٌ من مفاتيح المعرفة النقدية التي تتغير معها كثير من الاِعتقادات الراسخة التي نجدها في الملخصات النقدية المدرسية».
كان بإمكاننا –يضيف ذات المتحدث-، أن نبحث بارت ودريدا بشكل واضح لو كان المنطلق الإبداع الّذي يستمد قوته من التجربة الإنسانية الخالصة، مثلما أسس إيتالو كالفينو لرواية لا تضع حجابًا أمام القارئ.
وهنا يتساءل: «هل بإمكاننا أن نتفهم جملة حداد في روايته (سأهبك غزالة) التي تقول: (أن ترى هي أن تحتجب)؟ ص11. إنّني أتذكر من وراء نص حداد فكرة الفيلسوف ليبينتزleibniz عن البيت الّذي لا نافذة فيه ولا باب. بحث مشكلة التواصل والفهم جديرة بالتنبه لكي تُوقظ فينا حسًا جديداً بالحياة والإبداع».
الدكتور خطاب خلص في الأخير إلى القول: «إنّ قراءة الرواية من زاوية تواصل القارئ مع صوت المؤلف البطل الّذي يُردّد دائمًا بأنّ الاِسم لا يعني شيئًا مُطلقًا تجعل من النص ظاهرة مُتجدّدة وحية ومُستمرة مع الوجود، إنّ الكاتب يكتب من منطلق كونه نكرة لكي يتم التعرف عليه من قِبل أصوات مجهولة تتواصل معه ضمن أُفق الإبداع الحقيقي، لذلك قلتُ في البداية بأنّ نص مالك حداد هو إحراج حقيقي للنقد التقليدي، فهو نصٌ يُراهنُ على نقد يتجاوز الحُجب المانعة من المعرفة البانية، نقدٌ يتعامل مع الصوت الّذي يعني الصمت وليس الصوت الّذي يعني الجلجلة والصخب. صوت مالك حداد قوي هادر لكنّه يحيا في دائرة النفي».
* بوداود عميـّـر
موقفه الملتزم من الفرنسية غطّى على إنجازاته الأدبية
أشار الكاتب والمترجم بوداود عميّر، إلى مقولة مالك حداد الشهيرة، إذ قال في هذا المعطى: «لم تشتهر مقولة في الأدب الجزائري المعاصر، مغاربيّا وعربيًّا، مثلما اِشتهرت، مقولة مالك حداد: (إنّ اللّغة الفرنسية لمنفاي)، والتي وردت في مطلع روايته (سأهبك غزالة): (اللّغة الفرنسية حاجز بيني وبين وطني، أشدّ وأقوى من حاجز البحر الأبيض المتوسط، وأنا عاجز عن أن أعبّر عمّا أشعر به بالعربيّة، إنّ الفرنسيّة لمَنفاي). لم تُنافسها ربّما في الاِنتشار والشهرة، سوى مقولة أخرى تبدو مُخالفة قليلاً لمقاصدها، حتّى وإن تقاطعت معها اِشتراكًا في طرح سؤال اللّغة المهيمنة، يتعلق الأمر بمقولة كاتب ياسين الشهيرة (الفرنسية غنيمة حرب)، وبين القولين، تباينت الأطروحات وتعدّدت المواقف، وسرعان ما اتخذ النقاش فيما بينهما منحى تجاوز الطرح اللساني للإشكالية الهوياتية في الأساس، لترسو رهينة تحت قبضة الإيديولوجية والتزمّت اللغوي وحتى العرقي، مِمَّا أفسد للأسف نقاشًا ثقافيًا وسوسيولوجيا مهمًا، كان سيخفّف قليلاً من وطأة تعصّب طالت جنايته الهُوية الجزائرية بجميع مكوّناتها».
ومن المفارقة -يضيف ذات المتحدث- أنّ ما كُتب عن مقولة مالك حداد الشهيرة هذه، من مقالات وأبحاث ودراسات، وما أتاحته من حقل خصب للتنظير والنقاش الواسع، فاق باِهتمامها جميع أعماله السرديّة ودواوينه الشِّعريّة، التي اِستطاعت أن تفتح بزخم حروفها أمام المتلقي آفاقًا واسعة من التأملات والأسئلة، تمكن قلم مالك حداد بِمَا حازه من شحنة ثورية وجرأة في الطرح والموقف، أن يمنحها بعداً شعريًّا وأفقًا جماليًا، كان حريًّا أن تحظى هي كذلك ببعض العناية والاِهتمام.
ثمّ اِستدرك قائلاً: «هكذا توارت خلف مقولة طارت شهرتها الآفاق، أقوالٌ أخرى مأثورة تُؤثث نصوص مالك حداد الشِّعريّة والنثريّة، أخصّ بالذكر مقولته الرائعة، ذات الدلالات العميقة: (لا تطرق الباب كلّ هذا الطرق، إنني لم أعد أسكن هنا)، أو قوله مثلاً: (المأساة الحقيقية، هي أن الشقاء يجعلنا أذكياء، أكثر مِمَّا يجعلنا مجتهدين)، أو قوله: (علينا أن نتحلّى بشجاعة النحل، كي نستحق العسل)، أو: (استعدت رشدي حين أضعتُ عقلي)».
بوداود وهو يخوض في مسألة اللّغة دائمًا، قال بهذا الشأن الإشكالي: «الموقف المُلتزم لمالك حداد من اللّغة الفرنسية، مجسّدا في جرأة إعلانه التوقف النهائي عن الكتابة، بعد نيل الجزائر اِستقلالها، وهو في أوج عطائه الإبداعي، أثار جدلاً واسعاً بين مؤيّد ومعارض، وبين راض وساخط، لم يلبث أن غطّى هذا الموقف -تمامًا مثل مقولته الشهيرة- على اِنجازات مالك حداد، المُثقف العضوي بالمفهوم الغرامشي للمثقف الحقيقي، عندما كان يشرف على الصفحة الثقافية لجريدة النصر (كانت تصدر بالفرنسية آنذاك) لنحو أربع سنوات (من سنة 1965 إلى سنة 1968)، أو عندما أُسندت له مهام مدير الثقافة والإعلام بوزارة الثقافة، أو كأمين عام لاِتحاد الكُتّاب الجزائريين، ولاسيما عندما أسّس مجلة (آمال) التي كانت تُعنى بأدب الشباب، والتي يعود لها الفضل في اِكتشاف الكثير من الكُتّاب الجزائريين، أصبحوا الآن يتصدرون المشهد الأدبي».
صاحب «صوب البحر»، خلص إلى القول: «لعلّ موقفه المُثير للجدل في اِنتصاره للغة العربيّة، وانسحابه من الكتابة تجسيداً لرؤيته العميقة للأشياء، أورده من خلال واقعة حقيقية، الكاتب أحمد دوغان في كتابه (شخصيات من الأدب الجزائري المعاصر)، في حادثة تنطوي على رمزية شديدة، حينما اِلتقى الدكتور عبد الله الركيبي بمالك حداد أمام مبنى اِتحاد الكُتّاب الجزائريين، قبل وفاته بمدة قصيرة، بعد أن شاهد طفلاً صغيراً يُرافقه، ينطق اللّغة العربية بفصاحة، سأله الركيبي من هذا؟ ليجيب مالك حداد: (هذا اِنتقامي من اللّغة الفرنسية.. إنّه ولدي !».
* محمّد العيد بهلولي
لنقرأه قراءة غير أكاديمية عسانا نفلح في التعرف إلى الشاعر
يقول الكاتب والروائي محمّد العيد بهلولي أن عوامل عديدة ساهمت في قتل مالك حداد قبل أن يموت بعيداً عن اللّغة الأم/ منفاه الآخر.. « ومن ساهم في قتله.. يقوم بنفس الدور في زمن مختلف لقتل شقيق له في الأرض والمنفى والكتابة. مالك الغائب الحاضر الكبير نفرح لذكراه.. نلفظ اِسمه ورسمه وشِعره وما تبقّى من بقاياه ننفخ سفير الجمرة في اِكتناز الرماد، ها هو مالك يجمعنا مثلما يجمعنا الوجع والقهر وعولمة القتل، نقتسم الثقل والوجع ليخف الوطأ الثقيل وتنزاح عقود المهانة، يُورق الورد بقلب النزيف (تعود الطيور إلى الشبابيك العتيقة) كعود أوراقه.. ذكرياته أصداؤه... حمائم بيضاء بعين الأُفق. نلتقي به/نحتفي بنصه المُؤسس للألم والتراجيديا..».
صاحب «ندوب المنفى» يواصل قائلاً: «كان مالك يتسلق وعر المسافات، لم يكن الدرب يسيراً ولا كان الليل قصيراً، كان يتشبث بالبقاء في كون الإبداع لدرجة الإيمان المُطلق، كان يتوغل ثائراً بوجه الغدر والقُبح والدسيسة.. شاعراً كبيراً وروائيًا رائداً من رواد بحر الدم/ بحر الإبداع».
مضيفًا: «لنقرأ مالك حداد قراءة غير أكاديمية عسانا نفلح في التعرف إلى الشاعر، لنحيا مع مالك قبل الموت، ندرج معه لحوار الحرية الإبداعية ذات النغم الإنساني المقدس، صاحبة الشأن في كلّ الأمكنة والأزمنة..».
بهلولي يستحضر مالك حداد أيضا بِمَا يشبه النشيد الشّعري، ملوحاً باللّغة ودفء المفردات: «تصفّحك لكِتاب الغربة، رحيلك في اللّغة وفي الوجع، اِنتصارك على الجرح الكلونيالي، حريتك الإبداعيّة.. روحُ الإنسانية، هدوؤك الإبداعي، قدرتك في سردية الشِّعر، تفاصيل نصك، نبض قصائدك، أمكنتك المستعارة. البناء في الفراغ، جرأتك في اِصطناع وطن باِتساع الكون. موتك الكبير، لم يكن موتًا عاديًّا، كان عبارة عن -إحداث الدهشة في السكون- موت الشاعر نهارٌ مُختلف».
ذات المتحدث يضيف: «رسالة إلى مالك حداد كاتبًا وشهيداً وباقيًا عالي الجبهة، نتلو بياناته حين نستميلهُ إلينا قراءةً وكتابةً وبحثًا.. حين نفعلُ نبعثُ الحياة في كلماته.. نروى عطش القبر، نُحرك في الشكل روح الشكل، نعيدُ اللون للشاعر والسارد والحكّاء.. نُخفِّفُ من سرابيل اليأس، نُحييه ونحيا به. هل نفى الشِّعر مالكًا خلف تخوم البلاد..؟ هل كان يبحث عن النبع؟.. (الماء في سيلانه لا يعود إلى النبع) هل ضيعهُ الشِّعرُ وهو يسبح عكس التيار؟ هل أعانه الشِّعر وارتفع به عن الحقد والكره والمذّلة، هل كفكف الشِّعر ضياعاته ولملم جراحاته الكثيرة... واستقانا منه كرمًا وضيافة..؟». غاب الجسد -يقول الروائي بهلولي- ولم يغب الشاعر، مالك حداد عَبَرَ في حياتنا رمحًا من الضوء والأسرار، هاجر إلى غير عودة.. هل قتلته الهجرة أم قتله الحبّ الشمولي المختزن في كلّ حرف وفاصلة ونقطة، و»من الحبّ ما قتل».
* محمّد الأمين بحري
يجب القيام بتقصٍ لتخليص سيرة مالك حداد من المغالطات التاريخية
يدعو الناقد والأكاديمي الدكتور محمّد الأمين بحري، إلى القيام بتقصٍ جاد حول سيرة رجل «زُجّ بهِ عمداً وبغير عمد في مغالطات تاريخية، لسببٍ وحيد يشترك فيه مُناوئوه ومُساندوه، يتعلق بموقفه الحدي من لغة القلب والهويّة (العربيّة)، ولغة اللسان والمنفى (الفرنسيّة)، الّذي مزق وجوده حياً، وضاعف من حبك المُغالطات حوله ميتاً، فهل من مسعف بتحقيق ينصف سيرة الرجل ومواقفه من كُبرى قضايا الوطن والكِتابة؟ هذا الحيف، والتزييف؟؟. نقول هذا على الرغم من تعدّد التكريمات، والوقفات التي تُحيي ذكرى (مالك حداد) عامًا بعد عام، وتنتهي بتوزيع الشهادات، والهدايا دون منح الرجل شهادة للتاريخ تُوثق ما أراد أن يقوله لسانه السديد، ويكتبه قلمه الوئيد».
ثمّ أضاف مستطرداً: «لعلّ أولى المُغالطات التي اِعتورت مسار مالك حداد، هي تلك المقولة الشهيرة التي صارت أيقونة على كلّ الألسنة، حيثُ قال أثناء غضبة مبدع بأنّ: (اللّغة الفرنسيّة هي منفاي، لذا قررتُ أن أصمت، دون أن أشعر بأي ذنب أو مرارة وأنا أضع قلمي). وقد ساد الاِعتقاد وهماً بأنّ الرجل قد صمت حقاً، وصدّقت العامة جزافاً بأنّ من يتنفس الشِّعر، يمكن أن يتنازل عنه بكلّ سهولة، غافلين أو متغافلين عن كون قرار الاِنتحار أو النفي الجسدي أهون بكثير على المبدع من أن يهجر فنه. وهكذا أغلقوا باب البحث عن حقيقة المقولة وأبعادها، ومعرفة الرجل وعلاقته بفنه، جاهلين أو متجاهلين بأنّه قال كلمته في لحظة قنوط عابرة من وضعه المغترب الّذي ظل يلعنه طيلة حياته. لكن دون أن يتوقف يوماً عن كتابة ذاته ومعاناته باللّغة التي يتقنها، بل لعلّ هذه المقولة في حد ذاتها هي أروع بيت قاله الأديب الّذي طالما آمن بأنّه لا خطر على الشقاء وهو يكتب لهؤلاء مدونة: (الشقاء في خطر)».
مشيراً في ذات السياق، أنّ من أبرز من روج لهذه القصة الواهمة التي تروج للملأ بأنّ مالك قد توقف عن الكتابة وكسر القلم نهائياً، هي الروائية أحلام مستغانمي حين كتبت بشاعرية ملتاعة بنوستالجيا رثائية، في إهدائها لذاكرة الجسد: (إلى مالك حداد اِبن قسنطينة الّذي أقسم بعد اِستقلال الجزائر ألا يكتب بلغة ليست لغته، فاغتالته الصفحة البيضاء، ومات بسرطان صمته ليصبح شهيد اللّغة العربية، وهو أوّل كاتب قرر أن يموت صمتاً..)/ذاكرة الجسد ص5 من الرواية. لو أراد أي مستفهم أن يتمعن في صدقية هذه الكلمة، لتبيّن له في أوّل اِنطباع أمران: إمّا أنّ أحلام لا تعرف مالك حداد حقّ المعرفة حين كتبت هذه الكلمة، أو أنّها أرادت أن تمنحه اِمتداداً دراميًا وصيتاً عربياً، متلفعة بقناع التخييل الّذي يقوم على حرفية الكلمة لا على ما كتبه مالك حداد بعد تلك الكلمة».
هكذا -حسب الدكتور بحري- أخذت أحلام مقولة مالك حداد الغاضبة، صيغتها البعيدة عن حقيقة علاقته بقلمه وشخصيته، وهاجس الكتابة لديه، وراحت تنسج حولها خطاباً دراماتيكياً، بلغة تفيضُ شاعرية واغتراباً جعلت من ذلك القرار سيداً، وجعلت من سيد ذلك القرار كبش فداء للكلمة، وهذا ما لم يكن. وحتّى إن تمّ الاِفتراض جدلاً بأنّ مالك لم ينشر بعد هذه المقولة شيئاً، فهل معنى هذا أنّه لم يكتب بعدها شيئاً؟؟
ثمّ يستدرك قائلاً: «يبدو بعد مرور كلّ هذه السنوات من رحيل الرجل بأنّ ما قاله في لحظة قنوط عابرة، لم ينفذه لأنّه أديب يتنفس الكتابة، وأنّ ما لم يقله قد فعله، فأنجز بعدها درراً لم تشرق عليها الشمس لأسباب يعلمها مقربوه الذين صرحوا في غير مناسبة بأنّ له من المخطوطات والأعمال التي لم يتوقف عن تدوينها حتّى آخر رعشة في يده، ما يكفي ليثبت بأنّه عاش ومات وفياً للقلم أكثر من وفائه للحظة الضعف وحرقة الألم. فهل سيأتي ذلك اليوم الّذي يتجاوز فيه المثقف ثقافة الإشاعة، والاِنسياق وراء التخييل، وتشرق الشمس على مخطوطات: رواية (قاطرة في جزيرة)، ورواية (نهاية الحروف الكبيرة)، ومقالة (القوّال والأربعينيات) والمجموعة الشِّعرية «البرود الأوّل)؟. وما خفيَ من المخطوطات الشِّعرية حقيق -إذا ما رأى النّور- بأن ينفي ما تتداوله الإشاعات من أوهام تصنع بطولات الرجال على وأد ما خلفوه من منجزات تخلدهم بعد الرحيل».
إلى ذلكم الحين: أهيب بما كتبته الشاعرة الروائية أحلام مستغانمي عن مالك حداد من سرد يفيض شعراً، وما حبرته ذائقتها من تخييل حول مقولته الشهيرة. مع ما بين التخييل وواقع التأثيل، من مسافات باهظة تلقفها المثقفون جزافاً دون نظر. وآن للتاريخ الثقافي أن يستوقفها بصدقية التحري بعيداً عن شعرية التخييل ودرامية التمثيل ومزايدات التهويل.
واختتم قائلاً: «كلنا ترقب لإنصاف مسيرة الرجل الكاملة حتّى آخر يوم من حياته، ولِمَ لا نقرأ يوماً كِتاب مذكراته بأقلام مقربيه وورثته؟ ونتصفح آخر مؤلفاته؟ نفضاً لغبار التزييف وهيلمان التخييل الّذي طال شخصية الرجل، والأمر سائر على شخصيات ومنجزات كثير من أعلام ثقافتنا الذين تركناهم نهباً للغط الإشاعات، وأغلقنا دونهم باب النظر والتقصي. هذا ما أسميته بالتحقيق المضاد الّذي بات أكثر من ضروري. فهل من مُحقّق.؟؟».