أكدت الأستاذة الدكتورة آمال لواتي أن كتابها حول جميلة بوحيرد 'القصيدة'، الصادر مؤخرا عن دار خيال للنشر، يعد مشروعا مفتوحا على جمع كل ما قيل من شعر عن جميلة بوحيرد، وديوانا شعريا يحكي على المدى قصة المرأة البطلة في تحدّيها وتمرّدها وإحساسها الكبير بأن الزمن يمتدّ فيها، حينما يمتد وطنها عبر الزمن، وأشارت في هذا الحوار الذي خصت به النصر إلى أن الحكم بالإعدام على جميلة فجر ثورة شعرية عربية وعالمية أدت إلى انزياح المعنى الشعري حول المرأة من الحس المقيد إلى المجرد المطلق. فتحولت دلالات اللغة في الخطاب الشعري من الغزل إلى السياسة، ومن التجسيد إلى التجريد، ومن الواقع إلى المثال، وتم تحويل صورة امرأة حقيقية واقعية شاهدة على قضية وجود ومصير إلى صورة مثالية، حيث سطع إشعاع تلك القيم مع إشعاع تلك المرأة -جميلة -وتوحدت كلّها في ذلك الفن الشعري الذي يكتمل فيه الوعي المعرفي والجمالي والإنساني.
حاورها: عبد الرحمن خلفة
كيف جاءت فكرة مشروع جمع ما كتب عن جميلة بوحيرد في الشعر العربي؟
لقد كان للمهرجان الثقافي الوطني الثالث للشّعر النّسوي المنعقد من 10 إلى 15 أكتوبر 2010م بقسنطينة حول الجميلات في الشعر العربي، الدورفي بلورة هذه الفكرة المفتوحة على جمع كل ما قيل من شعر عن جميلة بوحيرد رمزاً ثورياً سجّل بطولة المرأة وقدرتها على صناعة التّحدّي، وتجسيدها في ديوان شعري يحكي على المدى قصة المرأة البطولة في تحدّيها وتمرّدها وإحساسها الكبير بأن الزمن يمتدّ فيها، حينما يمتد وطنها عبر الزمن؛ حيث كان من توصياته جمع الشعر الذي قيل عن جميلة بوحيرد، وقد سعت المحافظة إلى إنجاح هذا المشروع، الذي تقاسمته مع الأستاذ الفاضل الأديب السوري أحمد دوغان –رحمه الله-، وهو من بين الشخصيات الأدبية العربية التي اهتمت بالثورة الجزائرية في الأدب العربي، وقضايا الأدب الجزائري، وكان مشاركا في المهرجان، لكن توفاه الأجل بعد أشهر من تاريخ انعقاده (أوت 2010)، مما جعلني أتولى إنجاز المشروع بمفردي.
كيف تخيلت المرأة الجزائرية عموما وجميلات الجزائر خصوصا وأنت تحلمين بإنجاز مثل هكذا مشروع؟
لم يكن مجرد تخيل بل أعدت استرجاع شريط الحقيقة التاريخية، يوم أرادت المرأة الجزائرية أن ترسم بالقيد والحجر حياتها، وقد كلّلت رأسها بتاج الشموخ والكبرياء ورمت على كتفيها وشاح العزة والكرامة ونثرت تحت قدميها ورود الحرية الحمراء، وراحت تخوض بمشاعر الحب المطلق معركة الأرض المسلوبة. فبرزت جميلات خالدات في صفحة المرأة الثائرة، وكانت منهنّ جميلة بوحيرد، التي تحولت إلى معنى قيمي وأدبي ورمز للمقاومة والحرية، وأصبحت أسطورة شعرية تناثرت في الشعر أبياتا ومقاطع، وتصدّرت مطولات، وشكّلت قصائد فاضت دلالات ورموزا، بعد أن منحت روحها وجسدها فداء لقيم وطنها، فكسّرت صرخات الإنسانية قضبان سجنها وهي مكبلة، صامتة، معذبة، جريحة ... وتعالت أصوات نجدة حرية هذه المرأة، وتعالى معها صوت الشعر مدويا محتفيا، يعلن أنّ الجزائر وجميلة قضية وثورة. فأردت استشعار أي قضية، وأي ثورة، أنبأ عنهما هذا الفيض الشعري، هل هذا الشّعر عبّر عن حقيقة هذا الرمز ومَثَّلها كما هي إنسانة ومناضلة وثائرة ضد الظلم وعاشقة للحرية...؟
لقد أخذ المشروع من عمرك سنين؛ أين تم جمع هذا الكم من القصائد حول جميلة، الذي غطى 15 دولة عبر 468 صفحة؟
كانت جميلة وما زالت شعراً متناثراً أردت أن أدوّنه معتمدة في ذلك على مصادر متعددة حصلت على بعضها من خلال رحلاتي العلمية إلى تونس والمغرب ومصر وسوريا والأردن. وقد لاحظت أن معظم الدراسات التاريخية والأدبية والنقدية تحدثت عنها ضمن محور أدب السجون والتعذيب، أو التغني بالبطولة والأبطال، أو بدور المرأة المناضلة، أو ضمن الحديث عن الثورة الجزائرية بشكل خاص أو ما ورد حول القضايا الوطنية والقومية بشكل عام. وبعض هذه الدراسات كانت بمثابة مفاتيح بالنسبة إليّ سهّلت البحث عن المادة الشعرية في مضانها بالرجوع إلى الدواوين أو الدوريات، وإن تعذر عليّ ذلك اعتمدت النصوص الواردة في ملاحق بعض الدراسات التي استأنست بها في التوثيق، وأهمها العمل الرائد الذي قام به الأديب والمفكر الجزائري "عثمان سعدي" من جمع للشعر العراقي والسوري الذي قيل في الثورة الجزائرية، وكان منه قصائد كثيرة قيلت في جميلة بوحيرد. ولا يكاد يخلو عدد لصحيفة أو مجلة عربية صدرت أثناء الثورة من مقال أو قصة أو قصيدة، إلا وكان من بينها ما خُصص لجميلة ولثورة الجزائر وأحداثها وأبطالها، بل خصصت بعضها أبوابا أو صفحات ثابتة عنها، أو أعدادا خاصة مثل مجلة الرابطة الأدبية للنجف بالعراق، التي خصصت عددا خاصا عن ثورة الجزائر عام 1960م. وكذلك مجلة الآداب البيروتية التي نشرت عددا هاما من القصائد والمقالات التي تنوّه بثورة الجزائر، وأصبحت صفحاتها ديوانا يضمّ فصولا عن الجزائر فيها الأدب والسياسة والاقتصاد والاجتماع. ويندرج هذا الموقف من مجلة الآداب ضمن إيمانها بالتعريف بقضية الجزائر التي أصبحت قضية الأمة العربية والإسلامية. وضمت أعدادها للسنوات (1958-1960م)، مجموعة مهمة من قصائد أبرز الشعراء العرب عن الثورة الجزائرية، يتعلق معظمها بقضية جميلة بوحيرد، وكذلك مجلة الفكر التونسية، ومجلة "دعوة الحق" المغربية، اللتان خصصتا أبوابا دورية للثورة الجزائرية على مدى سنواتها، احتوت على قصائد عن جميلة، إضافة إلى مجلة "شعر" اللبنانية، التي خصصت عددا خاصا للثورة الجزائرية. كما كان للمنبر الإعلامي الإذاعي "صوت العرب" دور بارز في نقل أخبار الثورة الجزائرية سياسيا وثقافيا. وكان أول صدور لمجموعة شعرية عن جميلة لشعراء مصريين، كما أُلقيت قصائد عنها في مهرجان الشعر بالإسكندرية بمناسبة استقلال الجزائر.
متى بدأ الإبداع الشعري العربي حول جميلة بوحيرد؟
جل القصائد جاءت أثناء وبعد 1958 بعد تحديد يوم السابع من مارس سنة 1958م لتنفيذ حكم الإعدام في حقها، بعد صدور الحكم في 15 جويلية 1957م، حيث كان لهذا الحكم أثره البالغ في تأليب الرأي العام العربي والعالمي بما فيه الرأي العام الفرنسي حيث انطلق أحرار العالم ينظمون مسيرات ويوقّعون العرائض التي يرسلونها إلى الحكومة الفرنسية وإلى المنظمات الدولية وجمعيات حقوق الإنسان يطالبون بوقف تنفيذ حكم الإعدام عليها،كما طالب بذلك العديد من زعماء العالم. كما خرج النساء العربيات في مسيرات ونظمن مهرجانات تضامنا معها، وانطلق الكتاب والشّعراء في كتابة المقالات والقصائد للإشادة والتّغني بنضال جميلة ورفيقاتها جميلة بوباشاوجميلة بوعزّة، بل بنضال المرأة الجزائرية التي ضربت أروع الأمثلة في الجهاد والصّمود أمام كل أنواع التعذيب والتنكيل الفرنسي، إلا أنّ ما اشتهر وذاع اسم هو جميلة بوحيرد.
ما حصيلة الجمع الميداني لما كتب عن جميلة من شعر، ومن أشهر الأسماء التي كتبته؟
إن حصيلة الجمع الميداني للقصائد حول جميلة في الشعر العربي كانت 143 قصيدة، صنفتها بحسب الأقطار العربية. وقد ضم الديوان أسماء مشهورة من الشعراء والشاعرات مثل بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وعبد الوهاب البياتي، وصلاح عبد الصبور، ومحمد عبد المعطي حجازي، ونزار قباني، وسعدي يوسف، وسليمان العيسى، ومحمد الفيتوري ...، وأسماء أخرى مغمورة. وتجاوَزْت القصائد التي قيلت في الثورة الجزائرية وحضرت جميلة في سياق أبياتها ومقاطعها، وكانت "جميلة القصيدة" علامة سيميائية مفتوحة على تجاوز مبنى الديوان إلى القصيدة رؤية وتشكيلا. وتعد فترة الخمسينيات والستينيات من أهم عقود القرن العشرين فقد حمل هذان العقدان كثيراً من الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية، كان لها تأثير مباشر في مسار الأدب العربي حيث تمكّن دعاة التجديد في الشعر العربي من شقّ طريقهم لإرساء نمط جديد في بنية الشعر وشكله، وكذا توجيه مضامينه نحو مختلف مفاهيم الالتزام ومبادئه، وقد كان لهذه الحركة الشعرية التي انطلقت من العراق وانتقلت إلى سوريا ولبنان ثمّ إلى مصر، تأثيرها في القصائد التي نظمت في الثورة الجزائرية والتي كان أبطالها مصدر إلهام وإبداع؛ حيث نجد الشعراء العراقيين والسوريين والمصريين أكثر الشعراء نظماً للشعر الثوري، وفي خضم كل هذه الأحداث تنوعت أشكال القصيدة التي نُظمت في الثورة الجزائرية، واحتلت القصائد العمودية الحيّز الأكبر التي اعتمدت القافية الواحدة أو القوافي المنوعة حاملة في أكثرها عناوين باسم جميلة أو جميلة بوحيرد مما يعبر عن مدى أثر هذه الشخصية في تحولها إلى رمز ملهم للشعراء خلد ومجد دور البطولة النسائية في الوطن العربي من خلال وصف عذاباتها وصبرها وشموخها، وعدّها مثلا ساميا للتعبير عن الكرامة والحرية والأرض والوطن والثورة والقضية.كما أضفنا إلى الديوان قصائد زجلية من الشعر الشعبي الليبي والمصري. وإذا نظرنا إلى الشعر الجزائري الذي قيل في جميلة مقارنة مع باقي الشعر العربي لوجدنا منه قصائد معدودة، لظروف ارتبطت بالوضع السياسي والثقافي في الجزائر قبل الاستقلال، وحتى الشعراء الذين تعايشوا مع حدث جميلة بوحيرد لم يجعلوه موضوعا مستقلا، وإنما ورد ضمن رؤيتهم الشمولية للثورة، ودور المرأة الجزائرية فيها، بعد ذيوع صيت جميلة بوعزة، وجميلة بوباشا، ومجاهدات أخريات.
الحكم بالإعدام على جميلة بوحيرد فجر ثورة شعرية أدت إلى انزياح المعنى الشعري حول المرأة
إلى جانب هذا المشروع كان لك قراءة في قصائد كتبت عن جميلة بوحيرد فنشرت مقالا بعنوان 'جميلة وانزياح المعنى الشعري' حدثينا عن تجربتك في معالجة هذا الموضوع؟
إن الانزياح يتيح إمكانية خروج الشعر عبر اللغة من المعنى النمطي المتداول إلى المعنى الذي يفضي إلى التفرد والتغاير والخصوصية، وهذا ما تراءى للمتلقي من خلال تقديم قراءة في قصائد كتبتْ عن جميلة بوحيرد لأبرز الشعراء المحدثين منهم بدر شاكر السياب، عبد الوهاب البياتي، ونزار قباني، وأحمد عبد المعطي حجازي، ومحمد الفيتوري. هذه المرأة التي غيرت المنظور السائد للجميلة بعد أن رفضت الشكل واللون وثارت على الذل والقيد، ففجرت لغة شعرية أدت إلى انزياح المعنى الشعري حول المرأة من الحس المقيد إلى المجرد المطلق. فتحولت دلالات اللغة في الخطاب الشعري من الغزل إلى السياسة، ومن التجسيد إلى التجريد، ومن الواقع إلى المثال، لأنّ لغة الدلالة الحقيقية هي لغة قائمة على الإيحاء، تحمل نغم التجربة وسعة الخيال، حيث تؤدي دورا أساسيا في رسم الأبعاد الفنية العميقة للخواطر والأحاسيس، وتكتسب بذلك قيمتها الجمالية. وهذا التحول يحتاج إلى تفسير جديد يتجاوز حتى مفهوم الغزل السياسي، لأنّ هذا الغزل لم يعد ينقل عاطفة ذاتية، وإنما ينقل شحنة من العواطف المتداخلة والمتشابكة عبر قضايا السياسة والاجتماع والحضارة، فنزار لما خاطب جميلة في قصيدته "جميلة بوحيرد" في ديوانه "حبيبتي" في شعره النسائي، لم يتحدث عنها بمعانيه العاطفية الغزلية المعهودة وإنما تحدث عنها بمعنى جديد، إذ تحولت لغة الغزل إلى لغة المعنى السياسي المرتبط بالروح الوطنية والهوية العربية الإسلامية، فكانت بداية القصيدة هي بداية لمأساة جميلة وصراعها مع الظلم. فمن وصف المرأة في الحجرات والخذور، إلى وصفها في الزنزانات والسجون. ويستوقفه جسد جميلة دون استرسال في قاموس نسائياته، فثغر جميلة هو غصن سلام، وصدرها استوطن فيه الحمام، والحمام رمز السلام، فهي لا تعرف الأصباغ والزينة ولا تعرف اللعب والأحلام. وكذلك فعل البياتي في قصيدته "المسيح الذي أعيد صلبه" في ديوانه "كلمات لا تموت"، لتصبح تلك المرأة عند الشاعر أحمد حجازي، القديسة التي لم تعش أحلام المرأة الرومنسية بسموها فوق أهوائها وتنكرها لأنوثتها من أجل مبادئ سامية، وقد اختارت درب النضال من أجل الحق والحرية. أما جميلة عند البياتي فهي تتماهي في صور تجريدية مع عناصر الكون وأبجدياته، فهي ثلج أسود يرعب الأعداء، وبرق أحمر يرهب الجلادين، وحرف مارد عملاق يولد في أرض الجزائر، فكيف يتحول ضعف جسد امرأة إلى قوة خارقة لولا إرادة التحدي وصدق الانتماء إلى الحق.
وهكذا تم تحويل صورة امرأة حقيقية واقعية شاهدة على قضية وجود ومصير إلى صورة مثالية، حيث سطع إشعاع تلك القيم مع إشعاع تلك المرأة -جميلة-وتوحدت كلّها في ذلك الفن الشعري الذي يكتمل فيه الوعي المعرفي والجمالي والإنساني، بعد إيجاد علاقة بلاغية بين الواقع والمثال من خلال الرمز والأسطورة، وتتحول جميلة من مصاف الأنبياء إلى منزلة الآلهة. وتلوح صورتها الأسطورية عند السياب، فجميلة الجزائرية هي عشتار البابلية. وأصبحت جميلة رمزا للمرأة العربية الثائرة، وتفردت برمزيتها الثورية التي تمثلها الشعراء باختلاف رؤاهم الشعرية واتجاهاتهم الفكرية والجمالية. وقد جمعت بين التجريد والتقديس والأسطرة، وبين الواقعية والمثالية. ورغم ما وقع فيه بعض الشعراء من مبالغة في رسم صورتها، تبقى قصائد كثيرة حوّلت جميلة الثورة والحرية والقضية إلى لغة وصورة ورمز وإيقاع، ومن ثَم إلى لوحة شعرية خالدة.
كلمة أخيرة؟
إن جميلة بوحيرد التي لم تكن جميلة للجزائر فقط وإنما كانت جميلة للوطن العربي. ولكم تمنّيت أن ألتقي بهذه المجاهدة الشهيدة الحيّة القابعة في عرينها على مقربة منّا، وفي الوقت ذاتها المتسامقة عنّا بتاريخها المجيد، لأكتب عن تواضعها وكبريائها، وتفاصيل أخرى عن حياتها ومسيرتها الثورية لتكون شاهدة حضارية على قضيتها ووطنها وعصرها.