الأحد 15 سبتمبر 2024 الموافق لـ 11 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

باحث روّض المتضادات وحلّ معادلة الرياضيات والعلوم الإنسانية: سليم خزندار .. مثقف بأكثر من قبعة


طوت قسنطينة السبت، آخر صفحة في كتاب مثقفها المعاصر سليم خزندار، باحث روض المتضادات فجمع بين الرياضيات والمنطق والفلسفة و الفيزياء و علم النفس، و أحب الموسيقى وكان يقرأ الشعر أيضا، كما غرف بسخاء من صحن التاريخ ليتشبع، وكتب فيه ليصنع مجده الخاص، فلا يكون بذلك الفتى الذي عاش في جلباب أبيه الشهيد توفيق خزندار.

ككل الكبار كانت قامته العلمية أطول من أن يدخل غرف الضجيج فعاش إسماعيل سليم خزندار 72 سنة لاجئا بين أحضان الكتب، نضج فكره ليبلغ حد مناقشة رسالة دكتوراه حول علاقة الميتافيزيقا و الرياضيات، كما أثرت رصيده الأكاديمي رسالة ثانية في مجال البحوث الفلسفية، إلى جانب تخصصه الأول في علم النفس.
ابستيمولوجي يعشق المعلقات ويتدبر في سور القرآن
شهادات البروفيسور سليم خزندار، كانت تزين مكتبته الخاصة التي زرناها ذات ديسمبر من سنة 2018، حينما استقبلنا في منزله ببلدية مسعود بوجريو، وقد كان البيت يومها شبيها جدا بصاحبه، هادئ و مرتبا وأنيقا دون تكلف، وكان أيضا يعبق برائحة الكتب التي تتزاحم في غرفة كبيرة جدرانها من رفوف الخشب، رجحنا حينذاك أن يكون العدد ألف كتاب وربما ألفين أو أكثر، سألناه عن الرقم فابتسم وقال بأنه "لا يعدها بل يطالعها".
كتب بكل اللغات تقريبا ضمتها المكتبة، بالعربية و بالفرنسية والإنجليزية والألمانية، إصدارات في الفلسفة والرياضيات والمنطق و التاريخ و الأدب و الموسيقى و الإعلام الآلي و الشعر الفصيح، الذي أخبرنا بأنه يحبه جدا، بل و يعشق منه المعلقات.
ونحن نتشارك القهوة، أخبرنا بأن عائلته تتوارث الكتاب، وقد سبق لوالده الشهيد أن امتلك مكتبة من 45 ألف كتاب، هي عبارة عن إرث عائلي تعود ملكيته لجده الأول، ضم مؤلفات قيمة ونسخا أصلية لبعض أمهات الكتب مثل مقدمة ابن خلدون، أحرقها الاستعمار غداة اعتقاله الوحشي لخزندار، ولم تسلم سوى 100 نسخة كانت مصفوفة بعناية في مكتب سليم، الذي عرض علينا جزءا منها آنذاك.
قال لنا في معرض حديثه، بأن تكوينه "مفرنس"، كغيره من طلبة الاستقلال، كما أنه أتم جانبا مهما من دراساته العليا في فرنسا، لكنه عاشق للعربية، بالفعل فقد كانت الحروف تتسرب من منطقه كنوتات فصيحة، وهو أمر أرجعه إلى المطالعة موضحا أنه ممن يؤمنون بأن الاستقلال يشمل تحرير اللسان و العقل معا، ناهيك عن أنه قارئ متدبر للقرآن، و مهتم كثيرا بمجال الأدب.
وراثة
كان حديثنا مع الراحل سليم خزندار، قد مر بمحطات تأثر وصمت ودموع حبيسة الذاكرة، فقد تمحور ذلك اللقاء الذي صدر في واحدة من نسخ جريدة النصر، حول والده الشهيد توفيق خزندار، وقد علما منه حينها أن :" صفة المثقف تتجسد بكل جوانبها في شخصية الشهيد، فهو سليل عائلة دستورها الفكر و العلم، تمتزج في عروقه دماء الأتراك والفرس، ارتبط جده الأول بسيدة إيرانية قبل قدومه من الأستانة إلى الجزائر، أما والده عمر عبد المطلب، فقد كان واحدا من قيادي حزب الشعب".
هكذا وصف سليم والده الشهيد، وكأنه يشرح لنا تركيبة حمضه النووي الذي يحمل سلسلة مورثات المثقف، و رجل الرياضيات متعدد التخصصات واسع الاطلاع و المعرفة.
كان وصفه لوالده يشبه وصفا لانعكاس صورته الشخصية في المرآة، لأن توفيق خزندار كان أيضا رجل رياضيات، سافر بدوره إلى باريس للدراسة و أحب الفيزياء كما كان ملما بالعديد من العلوم، ومهتما بالشعر الجاهلي وحافظا للمعلقات، وكلها صفات مشتركة بين الرجلين فكلاهما مثقف يضع أكثر من قبعة.
معزوفة الفلسفة
كان البروفيسور سليم خزندار، رجل فلسفة وهي أم العلوم ولذلك فقد عزف طوال حياته العلمية والأكاديمية أكثر من مقطوعة واحدة كانت فلسفته قائمة في الأصل على أساس المعرفة وتداولها، إلى جانب دراسة وتمحيص المعرفة ومبادئها وأشكالها، وطرح الأسئلة بخصوصها والتحقق من صحتها، لذلك نهل من عديد التخصصات واعتبر أن لكل علم من العلوم الموجودة في العالم أصلا فلسفيا، كما فسر الميتافيزيقا من منظور رياضي، وربطته علاقة وطيدة بالموسيقى، و حاول أن يكتب قصته بأكثر من لغة.

كان الفقيد، يرى بأن تحرير الفكر و العقل و حتى السياحة و المنهج مرتبطان بإتقان اللغات، و أن الفرد مطالب على الأقل بإتقان ثلاث لغات، كما أن دراسة الفلسفة حسبه، لا تشمل التخصص فحسب، فالبعد الفلسفي في رأيه، من شأنه أن يسمو بالفكر بعيدا، لأن الفلسفة لا تزال موجهة للعلوم بدرجة كبيرة.
ولذلك فقد تخرج الراحل أول مرة من جامعة قسنطينة بشهادة ليسانس في علم النفس، ورغم أنه درس و درّس الرياضيات التي تخصص فيها بعد ذلك، إلا أن علاقته بالعلوم الإنسانية والفلسفة لم تنقطع يوما، كما اشتغل في حقل الإعلام الآلي كذلك، وله إسهامات عديدة في مجال البحث العلمي، حيث يعرف عنه سخاؤه فيما يتعلق بالمقالات العلمية التي ينشرها دوريا.
بحث خزندار، عن البعد الفلسفي لكل شيء، وقد اهتم بالعديد من القضايا الحديثة على غرار الذكاء الاصطناعي، وتكلم عن الموضوع في واحدة من محاضراته التي قدمها في إطار نشاطات الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية.
عن الأدب و الترجمة و التاريخ
تطرق الباحث كذلك، إلى علاقة الأدب بالفلسفة، وذكر في محاضرة قدمها سنة 2018، بالمدرسة العليا للأساتذة بقسنطينة، بأن نسيجا متينا يربط التخصصين، بالرغم من أنه لا يبرز إلا نادرا في الأعمال الأدبية الجزائرية.
وقال بأن الجزائري الوحيد الذي قدم أعمالا ذات اتجاه فلسفي لغوي، هو الكاتب الراحل محمد ديب، فقد كان حسبه، أديبا كثير التأثر بالفلسفة، و تتسم إصداراته بالعمق و التحليل، كما يظهر هذا البعد كذلك في رواية "التفكك" لرشيد بوجردة، وهناك حسبه شاعر جزائري يتمتع بغزارة أدبية و فلسفية و سياسية لم يسبقه إليها مبدع آخر، ألا و هو مفدي زكريا، الذي اعتبر الراحل بأن شعره يستحق قراءة أخرى أدق وأشمل، لأن منهجه الفلسفي أعمق من بعض فكر مالك بن نبي.
وكان فقيد قسنطينة، يرى بأن فهم البعد الفلسفي لأي عمل أدبي، سواء كان لكبار الفلاسفة و الأدباء كجون بول سارتر و أمبيرتو إيكو و رولان بارت و غيرهم، مرهون بالتحكم في اللغة و مطالعة الأعمال بلغتها الأم، لأن الترجمات في الغالب لا تخدم العمل بقدر ما تشوهه، بل هناك ترجمات قد تكون خاطئة كليا حسبه، و منها ما هو مغرض أيضا.
فكر الراحل، كان أقدر تجميع لكل الخيوط المتناثرة في سلة العلوم، ثم إعادة تفكيكها و ترتيبها وفق منهج علمي وبعد فلسفي، وقد ترك خلفه إصدارين مهمين في التاريخ، يتحدث الأول عن المؤرخ محمد حربي، عمل عليه رفقة عدد من المشتغلين في الحقل وأراد من خلاله مناقشة دور المؤرخ في صناعة الحدث التاريخي.
أما الثاني فمؤلف جماعي صدر عن دار البرزخ، أشرف عليه وتضمن رؤية عشرة مفكرين وباحثين من حقول وآفاق متعددة من ضفتي البحر الأبيض المتوسط، لـ "مظاهر التوبة".
ويتطرق الكتاب بالتحديد إلى تجاذبات النقاش الفرنسي- الجزائري حول الموقف من الاستعمار، تأثيراته ونتائجه ووفق أية شروط يمكن اليوم التأسيس لعلاقات تعاون حقيقية بين البلدين.
يناقش العمل، موضوع التوبة المدرج في الحياة السياسية المعاصرة، و بين الصلة المبادئ الأخلاقية والدينية و السياسة، حيث أنه ونظرا لأهمية المفهوم، فقد ركز المؤلف على دلالات مفهوم التوبة المختلفة إضافة إلى البحث في غاياته والأهداف منه.
وتكمن أهمية الكتاب كما قدمته المجلة الجزائرية في الأنثروبولجيا و العلوم الاجتماعية " لسانيات"، في " أنه يفتح آفاقا للتفكير ليس فقط في حاضر وماضي العلاقات الجزائرية-الفرنسية، بل هي دعوة صريحة للتفكير في العلاقات بين جميع الشعوب والدول من منطق حوار أو صراع الحضارات، خاصة عندما تكون علاقات القوى بين هذه الشعوب غير متكافئة أو في حالة ما إذا كان يجمعها ماض حافل بأفعال آثمة ومجرمة في حق أحدها، كما يدعو الكتاب للتفكير في أصل الشر في العالم والبحث عن الحلول المناسبة والتي تكون متعددة وكامنة في التوبة الحذر، التوضيح، الاعتراف بالمسؤولية والحوار".
هدى طابي

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com