* تزداد التحديات وقعا على المجتمع كلما اِنخفض توهج وتأثير نخبه
يَعْتَقِدُ الكاتب والباحث الأكاديمي الدُّكتور فؤاد منصوري، أنّ النُّخب بمختلف تصنيفاتها تلعبُ دوراً محوريًّا في حياة أيّ مجتمع، ولهذه النُّخبة مجموعة شروط لولادتها واِنبعاثها فهي مرتبطة أساسًا بنوعيّة التَّعليم في المدارس والمعاهد والجامعات وأيضا بنوعيّة التَّكوين المُستمرّ في فضاءات العمل.
حوار: نـوّارة لـحـرش
مُؤكِّداً في هذا السّياق، أنّ فعّاليّة هذه النُّخب مرتبطٌ أيضا بِمَّا يُسمِّيه "غرامشي" المُثقَّف العضويّ الّذي يتماهى مع قيّم مجتمعه ويُدافع عنها بلغة العقل والجدل العلميّ.
مشيراً إلى أنّه لا مخرج لأمّة من أزماتها دون نُخبها المسؤولة إستراتيجيًّا عن هذه الوظيفة تزوّدها بالحلول لمشكّلاتها الاِجتماعيّة، الثّقافيّة، السّياسيّة، الاِقتصاديّة والحضاريّة. وتضمَّنُ بذلك اِستمراريّة المُجتمع في عطائه كوحدة مُستقلَّة مُتفاعلة إيجابًا مع المُنتظم الدّوليّ لا يتلقَّى تأثيراته فقط بل يُؤثر فيه أيضاً ويُضيفُ إليه.
وضمن هذه الوظيفة الكُبرى -حسب رأيه دائما- تعمل النُّخب كمحرّكات لإنتاج الأفكار والمُساهمات العقلانيّة الّتي من شأنها ضمان الدّيناميكيّة المُتوازنة داخل المجتمع.
للإشارة، الدّكتور فؤاد منصوري، أستاذ العلوم السّياسيّة، بجامعة عنابة، وعضو التّنمية المُستدامة والحُكم الرّاشد بذات الجامعة، مُحكمٌ في عدد من المجلاَّت الوطنيّة والدَّوليّة، ومكوّن في بعض مدارس التَّكوين الخاصّة في مجال المناجمنت. شَغَل لسنوات عديدة مناصب بمؤسّسات إداريّة واقتصاديّة قبل اِلتحاقه بالتَّدريس بالجامعة.
تشتغل كثيراً على ثنائية وإشكالية النخبة والصفوة. إلى أي حد برأيك يمكن للنخبة أو الصفوة أن تُحقّق توازنات المجتمع، أو تخلق بدائل وحلول في حالة الأزمات أو تقترح مشاريع؟
فؤاد منصوري: على مر التاريخ، حقّقت الأُمم مُرادها بفضل نُخبها المُختلفة التي كانت المنارة: تتوقع تُسَيِر وتقيم وتُعدل ضِمن سيرورة المُراجعة الدائمة، فهي بمثابة الرأس في الجسد مسؤولة على توازن المجتمع وإيجاد البدائل المواتية في حالة الأزمات. فهي المُقترحة للمشاريع والآليات التي من شأنها الدفع به نحو كسب حاضره ومستقبله وتزيد هذه التحديات وقعًا على المجتمع كلما اِنخفض توهج وتأثير نخبه.
هناكَ الكثير من اللُبس أو الالتباس في مفهوم النخبة أو الصفوة؟
فؤاد منصوري: تُعرف النُخبة أو الصفوة على أنّها فئة من المجتمع تمتلكُ خصائص تُميزها عن باقي فئات المُجتمع مثل الرأسمال المعرفي، الرأسمال الاِقتصادي -الملكية-.. مِمَّا يُؤهلها لقيادة وتوجيه مجتمعها ويُميز "باريتو" بين نوعين من الصفوة -على أساس مُمارسة الحُكم– صفوة حاكمة وصفوة غير حاكمة، وهذا عكس "موسكا" الّذي يربط النخبة أو الصفوة بِمُمارسة السلطة والحُكم. أمّا "ميتشلز" فيرى أنّ النخبة أو الأوليغاركية تحكم بفضل المُؤهلات التي لا تتوفر لغيرها، ولقد فسر "ميلز" كيف تتحكم النُخب على مستوى مُصغر في القرار السياسي الأمريكي. وكتعريفٍ إجرائي يُمكننا القول أنّ النخبة أو الصفوة فئة قليلة من المجتمع تمتلك رأسمال معرفي وثقافي واِقتصادي وتمتلكُ (مشروع) بآليات تحقيقه وتكون مُؤثرة في مجتمعها من خلال القيادة والتوجيه.
مثلاً: ماذا عن تاريخية النُخبة الاِقتصادية في الجزائر؟
فؤاد منصوري: المُتتبع لتاريخية النخبة في الجزائر بعد الاِستقلال وتحديداً النخبة الاِقتصادية كنوع من أنواع النُخب المُؤثرة في مجتمعها، يُقسم هذه السيرورة إلى أزمنة وفترات تتميزُ كلّ واحدة منها بملامح وحقائق مختلفة. ففي فترة الستينات ورثنا وضعاً كارثيًا عن الفترة الاِستدمارية في ظل غياب إقتصاد حقيقي يحتكم إلى تكوين المُورد البشري في الصناعة والاِقتصاد فكان عدّد المُسيرين الصناعيين نادراً مِمَّا وَّلَدَ وضعية هشّة ومُتوترة في فضاء المُؤسسة وبالتالي الاِقتصاد الوطني.
في فترة السبعينات ومع تأميم المحروقات في ظل قيادة سياسيّة جديدة برئاسة هواري بومدين أعطت الدولة مكانة رائدة للنُخبة الصناعية والاِقتصادية عمومًا، حيثُ عملت على بناء الجامعات الكُبرى في العواصم الجهوية، كما اِتجهت إلى تشييد معاهد ومدارس وطنية وظيفتها تكوين المُسير والنخبة الاِقتصادية، إضافةً إلى تشييد مصانع كُبرى على غرار مصنع الحديد والصلب بالحجار، تكون مسرحًا عملياتيًّا لتكوين نوعية من المُسيرين قادرة على مُجابهة الأزمات وضمان ديمومة المُؤسسات.
كما عمدت الدولة إلى إرسال دفعات إلى بلدان عديدة للتمرس على مبادئ وأصول المناجمانت... وكلّ هذه الإستراتيجية ولدت وضعاً مُتميزاً للنُخبة الصناعيّة التي كانت مطلوبة بالخارج أيضاً بالنظر إلى نوعيتها، وهذا ما اِنعكسَ بالإيجاب على واقع مؤسساتنا الاِقتصاديّة في تلك الحقبة وكانت الاِنطلاقة الاِقتصادية الفعلية للاِقتصاد الوطني.
التموقع في سوق أصبح يتميز أكثر بالتنافسية من أهم التحديات التي تُواجه النخبة الاِقتصادية
وماذا عن فترة الثمانينيات؟
فؤاد منصوري: في الثمانينيات ولاسيما في النصف الثاني منها بدأت بوادر الأزمة الاِقتصادية ترمي بثقلها على المؤسسة الاِقتصادية لعِدة عوامل أهمها تراجع المداخيل البترولية بسبب اِنهيار أسعار النفط حيثُ تراجعت الاِستثمارات في المورد البشري ولاسيما التكوين مِمَّا ولد هشاشة في نوعية النخبة الصناعية وجعل منها شبه عاجزة عن إيجاد حلول وبدائل سريعة لمشكلات آنية مُتعلقة بحماية مناصب العمل وضمان ديمومة المُؤسسة في ظل منظومة قوانين مُستمدة من الفلسفة الاِشتراكية.
مع سنوات التسعينات وما حملته من الدعوة إلى ضرورة الإنتقال إلى ثقافة منظومة اِجتماعية واِقتصادية مُغايرة لسابقتها أي المنظومة اللبيرالية بدأت النخبة الصناعية في محاولة التكيّف مع القيم الجديدة في ظل شح الموارد المالية الّذي عمَّق من أزمة المؤسسة الاِقتصادية مع تزايد ظاهرة تسريح العُمال والصراعات المهنية وتراجع المردودية...
إلى غاية اليوم بقيت تحديات إعادة الهيكلة التنظيمية، تنافسية الموارد البشرية، التموقع في سوق أصبح يتميز أكثر بالتنافسية... من أهم التحديات التي تُواجه النخبة الاِقتصادية..
تعمل النُخب كمحركات لإنتاج الأفكار والمُساهمات العقلانية التي من شأنها ضمان الديناميكية المُتوازنة داخل المجتمع
وظيفة النُخب مُتعدّدة، فهل يمكنك إيجازها في أهم وأكبر النقاط؟
فؤاد منصوري: تمامًا. في ما يتعلق بوظيفة النُخب، فهي مُتعدّدة، ويمكن إيجازها في هذه النقاط، من بينها: رسم ملامح المشاريع المُجتمعية الماكروية المُنظمة للحياة الاِجتماعيّة والاِقتصاديّة والسّياسيّة والثّقافيّة.
مراقبة تنفيذ وتجسيد تلك المشاريع وتقييمها ومراجعتها. وكذا شرح وتفسير الخطوط العريضة والحيثيات لباقي فئات المجتمع لضمان الاِنخراط وبالتالي نجاح المشروع. الدفاع عن قيم المجتمع التي تُجسد ثقافته وهويته. وضمن هذه الوظيفة الكُبرى تعمل النُخب كمحركات لإنتاج الأفكار والمُساهمات العقلانية التي من شأنها ضمان الديناميكية المُتوازنة داخل المجتمع دون أن ننسى أهمية النُخب وقت الأزمات لإيجاد الحلول والبدائل المُلائمة لكلّ وضعية.
تلعبُ النُخب بمختلف تصنيفاتها دوراً محورياً في حياة أي مجتمع
ما الدور الّذي تلعبهُ النُخب أكثر؟
فؤاد منصوري: تلعبُ النُخب بمختلف تصنيفاتها دوراً محورياً في حياة أي مجتمع، ولهذه النخبة مجموعة شروط لولادتها واِنبعاثها فهي مرتبطة أساسًا بنوعية التعليم في المدارس والمعاهد والجامعات وأيضا بنوعية التكوين المُستمر في فضاءات العمل، وبهذا المعنى فالدولة على عاتقها توفير تلك الشروط الفُضلى لإنتاج نُخبها. وفعّاليّة هذه النُخب مرتبط أيضا بِمَّا يُسميه "غرامشي" المُثقف العضوي الّذي يتماهى مع قيم مجتمعه ويُدافع عنها بلغة العقل والجدل العلمي. لم نجد في أزمة كورونا إلاّ نخبتنا الطبية رغم ما تُكابده من نقائص مثلها مثل بقية النُخب.
أعتقدُ جازماً أنّ الفرد الجزائري مبدع في مجاله إن أُعطيت له المكانة التي يستحقها وتُناسب مواهبه ومؤهلاته دون اِستصغار.. فلا مخرج لأمة من أزماتها دون نُخبها المسؤولة إستراتيجيًا عن هذه الوظيفة تزودها بالحلول لمشكلاتها الاِجتماعيّة، الثّقافيّة، السّياسيّة، الاِقتصاديّة والحضاريّة. وتضمنُ بذلك اِستمرارية المُجتمع في عطائه كوحدة مُستقلة مُتفاعلة إيجابًا مع المُنتظم الدولي لا يتلقى تأثيراته فقط بل يُؤثر فيه أيضاً ويُضيفُ إليه.