تشغل اللهجة حيزا مهما من الموروث الثقافي للشعوب، فمن خلالها يمكن التعرف على الخصوصية المعرفية والثقافية للأفراد، وكذا تركيبتهم الاجتماعية، وذلك بفعل دقة العبارات والمصطلحات الموظفة في الكلام والحوارات والوصف، أو التعبير عن حالة نفسية، وقد اعتنى مهتمون بالتراث بالموروث الشفهي خصوصا القديم منه من خلال نشاطات يقومون بها سواء في الواقع أو على «السوشل ميديا»، محاولة منهم للحفاظ عليه واسترجاع ما ضاع منه.
إيناس كبير
ذاكرة ثقافية تختزن عادات وتقاليد المجتمع الواحد
نجد في بلد واحد عدة لهجات محلية تتنوع باختلاف المناطق الموجودة فيه، كما تدوم دورة حياة اللهجة باستمرار تداولها بين الأفراد، فيما يمكن أن تندثر بعض كلماتها وعباراتها بسبب تراجع استخدامها، أو تحريفها واستبدالها بأخرى.
ويتميز النظام اللغوي للّهجة بقدرته على تخصيص معنى واحد للكلمة، كما قد يضع لها عدة معانٍ حسب حالة الشيء، صفته، مقداره وحجمه، كتوظيف التصغير، مثل «زغيبة» ويُقصد بها أصغر مقدار من الشيء القليل، أو «قهيوة»، وكذا ضرب الفأل الحسن، كأن توصف «النار» «بالعافية»، و»الملح» «الربح».
وللحديث عن الإنسان تقتبس اللهجة من الصفات التي يتميز بها، كالسن والمقام، صلة القرابة بينه وبين الآخرين، وكذا العاطفة فضلا عن الأخذ بعين الاعتبار المعايير الأخلاقية والاحترام المتبادل بين الأفراد، فتُكنى «الأم» «لميمة»، و»الأب» «بابا حني»، كما قد نجد عبارات وكلمات مقتبسة من قصة شعبية أو موقف حدث قديما واستمر في التاريخ.
وبينما تعبر اللهجة عن هوية الشعوب وتحفظ تاريخها، فضلا عن دورها في نقل الموروث الشفهي، تطرأ عليها أيضا تغييرات بمرور الزمن وتكون للأجيال الجديدة يد فيها، بإلباسها جزءا من شخصيتها وأسلوب تفاعلها مع الحياة اليومية التي تفضل الاختصار وبساطة التفكير، كما تتأثر أيضا بفعل العولمة التي تستخدم لغة هجينة تمزج أكثر من لسان، وتميل إلى الاختصارات والسرعة أكثر من العمق والدقة في التعبير.
وقد بات من المهم الحفاظ على اللهجة باعتبارها موروثا ثقافيا، والعمل مع باحثين لإجراء دراسات تنبش في تاريخها وتبحث في الموروث الشفهي الذي حفظها على غرار الشعر الشعبي والملحون، الألغاز والأمثال والحكم، والمرويات والقصص لجمع ما تناثر من عبارات وكلمات.
بالإضافة إلى القيام بابتكارات في هذا المجال واستغلال ما تتيحه التكنولوجيا في دعم اللهجات والمساهمة في نشرها، وهو الحال مع تطبيق المحادثة «هدرتنا» الذي يتيح التواصل بمختلف اللهجات الجزائرية، ويعود لشركة «فينتك» وهي مؤسسة ناشئة متخصصة في الذكاء الاصطناعي، اشتغلت على إطلاقه بالشراكة مع البروفيسور مروان دباح، المختص في الذكاء الاصطناعي، ويستند تطبيق «هدرتنا» حاليا إلى مجموعة من «2 جيغا توكنز» من البيانات النصية التي تم جمعها عبر الإنترنت، وهذا في ثلاث أبجديات، العربية، «التيفيناغ» واللاتينية.
تزيين الحديث خوفا من العبارات المشؤومة
«الشعرة والسلسلال والحق «، «الربح»، و»العافية»، هي كلمات كانت تستخدم للتعبير عن «الموت»، «الملح» و»النار»، وتُعتبر بحسب المهتمة بالتراث وصاحبة صفحة «قسنطينة وجز البايات»، هاجر عبد الرزاق، بمثابة عبارات تزيين الكلام والفأل، وقد كانت موجودة في النظام اللغوي القديم واندثرت.
و كان أهل قسنطينة مثلا، «يتطيرون» خوفا من مزامنة الكلمات المشؤومة لوقت استجابة الدعاء، تضيف الشابة هاجر، لذلك كان الجزائري يقول «زين فالك وكلامك»، أي اجعل فألك وكامل حديثك عامرا بالكلمات الطيبة والجميلة التي تسر الخاطر، فضلا عن استخدام عبارات الرد الجميل بين المُتحدثين أو للرد على تساؤلات شخص ما، كأن يقول أحدهم «وين جيت»، فيرد عليه الآخر «ينشد عليك الخير» وتعني يقصدك الخير. وإتباع عبارة «صحيت» بـ»يصح إيمانك» أو «يصح بدنك»، ويُقال للرد على شخص ذكر شيئا كان يجول في خاطر آخر، «ندور عليك يا لحبيبة»، وعند لقاء شخص برفيقه أو أحد معارفه يقول له «لاقيتك بالربح»، أما عند مغادرة الضيوف لبيت كانوا يزورونه يقولون»فارقتك بالربح» أو «خليتك على خير».
وترى المتحدثة، بأن الفرق بين التعبير باللهجة القديمة والحالية يكمن في الوزن، حيث علقت قائلة :» قديما كان الكلام موزونا على القفى أي القافية أو على المعنى، فتجد الصغير يزن كلامه قبل أن يتلفظ به»، وعبرت هاجر، بأن اللهجة كانت كلها كلاما طيبا لا يتخلله لفظ شؤم أو عبارات نابية، بل كانت صافية لأبعد حد، لهجة نابعة من لسان حفظ القرآن وعلم به وبعلومه.
كما أفادت، بأن المعنى الحالي لا يفي بالغرض، ولا يوصل المفهوم كاملا كما هو حال الحديث باستخدام اللهجة القديمة.
الألغاز والبوقالات حافظت على الكلمات القديمة
وذكرت أيضا، صاحبة صفحة «قسنطينة وجز البايات»، بأن الألغاز تُسمى في اللهجة الجزائرية بالمحاجيات، أما «البوقالات» فكانوا يسمونها «مزين الفال»، وانقسمت القصص إلى «التلاغ، اللغام، اللقان، القصية، الرواية، والحكاية «.
وأردفت، بأن لكل منها طريقة خاصة في الوزن والإلقاء، فضلا عن الأمثال الشعبية والشعر الذي يُطلق عليه اليوم بالشعر الشعبي والملحون، وترى محدثتنا، بأن هذه العناصر كانت لها أهمية كبيرة في الحفاظ على بعض الكلمات القديمة من «الدارجة»، وتنشيط الذاكرة خصوصا لمن ينقلها حفظا، وأفادت بأن هناك عائلات تلقن أبنائها طريقة نظم أمثال جديدة وحكايات وأشعار، مساهمة منها في الحفاظ على اللهجة. فيما تأسفت هاجر، لغياب بديل في الوقت الحالي ينقل الموروث الشفهي من غير كتابة النصوص أو المقالات الإبداعية، لاستدراج عقول الناس حتى تعي جمال «الدارجة».ووفقا للمتحدثة، فإنه من الضروري الحفاظ على اللهجة كموروث، كما أنها تدفع الجيل الجديد ليتعرف على العلماء والشعراء الذين ساهموا في تشكيلها، خصوصا وأن «اللقنة» أو اللهجة القديمة اقتبست من العلوم على رأسها علوم القرآن، وكذا علوم اللغة العربية، كما ذكرت الحفاظ على الفنون الجميلة من أشعار، وتلقين الشباب كيفية نظم الشعر القديم على الطريقة الصحيحة و التصرف فيه وتلحينه.
أسلوب الحديث الشبابي أثر على اللهجة
وتنشر هاجر على صفحتها على فيسبوك «قسنطينة وجز البايات»، المختصة في الترويج للتراث وثقافة المدينة، مقاطع صوتية تعبر فيها باللهجة القديمة أو «اللقنى»، كما تضع منشورات تضمنها عبارات وكلمات لم تعد مستخدمة في المجتمع.
وبحسب ما لاحظناه، فإن جل التعليقات تتفاعل مع أسلوب حديثها، كما يعبر متابعوها عن إعجابهم به، فيما يطلب آخرون منها شرح بعض الكلمات التي تعذر عليهم فهمها.تقول محدثتنا، إن صفحتها تعد مصدرا للهجة القديمة، التي تحاول نشرها من خلال إدراجها في مقالات مرحة إبداعية، فعندما يقرأها «الداري بالشيء» وتقصد المثقف يشعر بمزيج من فخامة ورقي اللهجة الجزائرية، خصوصا وأنها تحوز عبارات من لغات مختلفة مثل العربية و الأمازيغية والأندلسية و العثمانية والرومانية « التي شكلت هذا القالب، ووصفته بالجميل والموزون».
وفي هذا السياق، عقبت محدثتنا قائلة:»يجب أن ننتبه لنقطة مهمة وهي أن اللهجة الجزائرية أخذت 97 بالمائة من كلماتها من اللغة العربية».
كما أخبرتنا، أنها تتحدث اللهجة القديمة في بيتها مع عائلتها وكذا مع صديقاتها ومعارفها، فيما يتحدثون الدارجة العادية مع الذين لا يفهمون «اللقنى».
وعبرت هاجر، بأن رد الناس على طريقة حديثها يكون خياليا، فيبحرون في أوزان كلماتها ويسرحون معها، وعلقت :»أحيانا يشعرونني بأنني جئت من زمن غابر»، تضيف بأن متابعيها أيضا، يطلبون منها نشر مقاطع صوتية تتحدث فيها باللهجة القديمة، والحديث الموزون. و بحسب المتحدثة، فإن هنالك نوعين من الكلام الموزون على «القفى»، أيعلى القافية و الكلام الموزون، على «الدركة» أي على إدراك الكلام دون وجود قافية. وترى، بأن العولمة وأسلوب الحديث الشبابي أثرا على اللهجة، وأدخلا عليها كلمات لم تكن موجودة من قبل، واعتبرت بأن بعضا منها مجهول الأصل والمصدر، وفي أحيان كثيرة يرفضه المجتمع.
اللهجة ترتبط بالعوامل التي تشكلها
واللهجة داخل المجتمع الواحد هي نمط تواصلي بين أفراده، يقول أستاذ اللسانيات في المركز الجامعي أحمد صالحي بالنعامة، وعضو المجلس الأعلى للغة العربية في الجزائر، ياسر آغا، وبصفتها لغة فهي تؤدي مجموعة من الوظائف يعبر بها الناطقون عن أغراضهم، كما أنها طريقة معينة في الاستعمال اللغوي وتوجد في بيئات خاصة.
وأردف أغا، بأن مجموعة من الأسباب تتدخل في تكوينها، منها أسباب جغرافية مثل عيش أصحاب لغة واحدة في بيئة جغرافية واسعة ما يؤدي مع الزمن إلى وجود لهجة تختلف عن ثانية لكنها تنتمي إلى نفس اللغة، وهناك أسباب اجتماعية كذلك.
وأوضح أستاذ اللسانيات، بأن المجتمع الإنساني بطبقاته المختلفة يؤثر في وجود اللهجات، وكذلك احتكاك اللغات واختلاطها نتيجة غزو أو هجرات أو تجاور، وعقب بأن اللهجات العربية التي انتشرت بعد الفتح الإسلامي في البلاد العربية الإسلامية دليل على هذا، وهناك أسباب فردية كأن نجد اختلافا في النطق بين الأفراد، يؤدي مع مرور الزمن إلى تطوير اللهجة أو نشأة لهجات أخرى.
كما تطرق عضو المجلس الأعلى للغة العربية للحديث عن العوامل التي تؤثر على اتشار اللهجات وتوسعها في النسيج التواصلي المجتمعي، على غرار العوامل الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية، موضحا :» على سبيل المثال يمكن أن تؤثر الأعراف والقيم الاجتماعية على استخدام اللهجة، إذا ارتبطت بمجموعة مهمشة فقد يتم وصمها وعدم تشجيع استخدامها وبالتالي اندثار كلماتها وعباراتها».
«الدارجة الدزيرية» تكونت عبر التاريخ
وتصنف «الدارجة» الجزائرية على أنها لهجة عربية مرفقة بمجموعة لهجات موجودة في منطقة شمال إفريقيا، يضيف آغا، وهي تتوحد في مستواها التركيبي، بينما يختلف معجمها نوعا ما عن أدبيات اللغة العربية المتعارف عليها.
وذكر، بأن اللهجة الجزائرية مرتبطة بالعربية المعيارية وبالدخيل التركي والإسباني، وكذا الفرنسي وغيره لاعتبارات تاريخية، لذلك فإنها تعد لغة قائمة بذاتها لها نظامها الصرفي والصوتي والتركيبي والدلالي ولها قدرتها على التعبير. وفي رده عما هو متداول عن صعوبة «الدارجة الدزيرية»، أفاد بأن هذا الرأي يكمن في نظر متلقيها بالنظر إلى الحجم الجغرافي الذي تتمتع به الجزائر، وكذا في مستوياتها اللغوية، مثل المستوى الصوتي الذي يلعب دورا كبيرا، ومستوى الاستعمال التداولي، فضلا عن الاختلاف على المستوى المحلي، الذي يلاحظ تحديدا في المناطق القريبة من الحدود سواء في القواعد أو المفردات، مثلا لهجة الغرب لا تملك نفس لاحقة بقية اللهجات الجزائرية.
وتتميز اللهجة الجزائرية بعدة تشكيلات إقليمية، وفقا للأستاذ، إذ تنتمي إلى مجموعتين مختلفتين: لهجات ما قبل الهلالية، حضرية متأثرة باللهجة الأندلسية واللهجات الهلالية البدوية.
وأبرز، بأن هذه اللهجات الهلالية تنتمي بدورها إلى ثلاث مجموعات لغوية، لهجات هلالية شرقية، يتحدث بها أصحاب الهضاب العليا سطيف تبسة، بسكرة، البرج، المسيلة، الأغواط، ولهجات هلالية وسطى، يتحدث بها وسط جنوب الجزائر و وهران، فضلا عن لهجات المعقل، الخاصة بسكان الجزء الغربي من القطاع الوهراني، وتتميز بإضافتهم اللاحقة «الهاء» مثل «شفته» بينما تُنطق في لهجات أخرى «شفتو». أما اللهجات ما قبل الهلالية، فتصنف إلى نوعين حضرية وقروية، اللهجات الحضرية المستقرة في جميع المدن الجزائرية الكبرى كتلمسان وقسنطينة، مستغانم، البليدة، وأخرى في معسكر و بجاية لا تستخدم كثيرا وهي متأثرة باللهجة الأندلسية، واللهجات الريفية التي تأتي عادة من مزيج تبادلات بين المدن والمناطق الناطقة بالبربرية.
واعتبر أستاذ اللسانيات، اللهجة ذاكرة ثقافية تختزن كما هائلا من العادات والتقاليد داخل المجتمع الواحد، وأكد على أنها تعد في الوقت نفسه هوية ذلك المجتمع الناطق بها وأساس وحدته، ويمكن اختزال قيمتها حسبه، في الحاجة للوقوف على مراحل تطور اللغة العربية ومعالم كل مرحلة في تاريخها المديد مثلا في الأصوات، والمفردات وصيغها الدلالية والتراكيب لفهم أفضل للغة، وتقديم حلول دقيقة في كثير من قضاياها على مختلف المستويات. كما دعا إلى الحفاظ عليها ويكون ذلك بحسبه، من خلال تعزيز الحفاظ على الموروث الشعبي وصرف البحث فيه، وتوجيه الشباب الباحث إلى إقامة دراسات أكاديمية، كإنتاج مدونات خاصة بكل لهجة، وإعطائها بعدا ثقافيا يمكن من التفاعل معها في الحياة العامة والخاصة، فيما نبه الأستاذ، بأن هذا الأمر لا يكون على حساب اللغة العربية حتى لا ينشأ جيل بمستوى لغوي هجين.
إ.ك