أعدت الملف: نـوّارة لـحـرش
ظهر وانتشر الإعلام الرقمي بشكلٍ لافت، في السنوات الأخيرة، كأكثر وأبرز وأهم الوسائل التي تُقدم مادة إعلامية بوسائل وآليات ووسائط مختلفة، كما برز دوره في توجيه وصناعة الرأي العام، والرُؤى والتصورات. وهنا يتكرّر السؤال المحوري عن دور الإعلام الرقمي في صناعة الرأي العام؟ وإلى أي حد يمكن أن يقوم بهذا الدور؟ أي صناعة رأي عام في المجتمع أو لدى فئة معينة من المجتمع كفئة الشباب مثلاً؟، أيضًا هل أصبح الإعلام الرقمي في وقتنا الراهن من الضرورات التي لا يمكن تجاوزها، وهل أصبح -حقًا- من أهم الوسائل في صناعة الرأي العام، وبالتالي أكثر قدرة على التأثير وتوجيه هذا الرأي؟
حول هذا الموضوع «الإعلام الرقمي وصناعة الرأي العام»، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثّقافة»، مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين المختصّين في علوم الإعلام والاِتصال.
الأستاذ والباحث في علوم الإعلام والاِتصال نصر الدين لعياضي
الميديا الاجتماعيّة أداة للقمع والرقابة وتمييع النقاش أيضا
يؤكد المترجم والأستاذ الجامعي المُتخصص في علوم الإعلام والاِتصال، البروفيسور نصر الدين لعياضي أن « (الإعلام الرقمي) بحاجة إلى تدقيق أو مُراجعة لأنّه فَقَدَ بُعْدَهُ الإجرائي. فماذا نقصد بالضبط بالإعلام الرقمي؟ هل هو ذاك الإعلام الّذي يتوسل عُدّة تقنيّة قائمة على التكنولوجيا الرقميّة كبديل للتكنولوجيا التماثلية. ففي هذه الحالة يُصبح مفهومًا عائمًا و رجراجاً يشمل طائفة غير مُتجانسة من الغايات، ووسائط مُختلفة، وفاعلين متنوعين في تعدّدهم».
ثمَ أردفَ قائلاً: «على كلّ حال، المفاهيم كائنات ذهنية تتغيَّر وتتطوّر بتطوّر الواقع الّذي تُغطيه. لقد ظهر مفهوم الإعلام الرقمي في نهاية الثمانينيات ومَطلع تسعينيات القرن الماضي. ثم توارى وراء مفهوم الميديا الجديدة مع اتساع الاِستخدام الاِجتماعي لشبكة الانترنت، ليتراجع هذا المفهوم وراء مصطلح آخر، وهو الواب2، الّذي لم يُعمر طويلاً ليترك مكانه لمفهومٍ آخر، وهو الميديا الاِجتماعيّة، كما تُسمى في الثّقافة الأنجلوسكسونية، ومواقع الشبكات الاِجتماعيّة في الثّقافة الفرانكفونية».
وفي ذات السّياق أضاف: «إذا اِتفقنا على أنّ السؤال يتعلق بالميديا الاِجتماعيّة فإنّ الإجابة عنه تكمن ضمنيًا في المنطق الّذي يتحكم في نشاط الميديا الاِجتماعيّة، والّذي يختلف عن منطق الإعلام. فالإعلام يقوم على مبدأ البث/النشر/التوزيع. وينشد الحقيقة. بينما تروم الميديا الاِجتماعيّة، التفاعل، والتشارك بغية بناء علاقات».
على الرغم مِمّا سبق، -حسب الدكتور لعياضي- «ذهب عُلماء اِجتماع الميثولوجيا، على حد تعبير بيار بورديو، إلى تضخيم دور الميديا الاِجتماعيّة في إحداث الثورات حتّى في البلدان التي كانت فيها نسبة تغلغل شبكة الانترنت ضعيفة. ولجأت السلطات العمومية فيها إلى قطع التواصل عبرها، مثلما حدث في تونس ومصر في أحداث ما يُسمى بالربيع العربي. هذا ناهيك عن الحديث عن دور الميديا الاِجتماعيّة في تشكيل الرأي العام».
مُوضحًا في هذا المعطى، أنّ مفهوم الرأي العام ظهر مع ظهور البرجوازية ليُسجل انتقال النّاس من حالة الاِنتماء إلى الجماعات التقليديّة إلى الاِنتساب إلى المجتمع كمواطنين. وارتبط بالنقاش العقلاني في الفضاءات المُتاحة آنذاك: المقاهي، والصالونات والمنتديات، والمنابر السّياسيّة، والتنظيمات النقابيّة.
وقد لعبت الصحافة المكتوبة -يُضيف المُتحدّث- دورًا نشيطًا في هذا المجال من خلال نشرها للأفكار والآراء وفسح المجال لمُناقشتها، لكن مع تراجع صحافة الرأي وبروز الصحافة الشّعبيّة المُرتبطة بمتطلبات السوق وعائدات الإشهار، تراجع دورها في تشكيل الرأي العام. ولم تتمكن وسائل الإعلام السمعيّة-البصريّة من تعويضها في هذا المجال، خاصةً بعد انسياقها وراء الفرجة والتسلية بعد تسليع الأخبار والثقافة.
وقد ترتبَ عن هذا الاِنسياق -حسب ذات المُتحدّث- تراجع ثقة الجمهور في وسائل الإعلام. وفقدت هذه القدرة على تحديد جدول أعماله. هذا مع الإشارة إلى أنّ الصحافة في البلدان النّاميّة، ظلت صحافة نخبوية نظرًا لاِنتشار الأميّة، وتزايد عوائق توزيعها، وفقدانها لأي استقلالية.
وأضاف: «مع بروز الميديا الاِجتماعيّة، وارتفاع عدد مستخدميها تنامى الاِندهاش من قدرتها على جذب الجمهور، خاصةً عبر المؤثرين الذين اِحتلوا مكانة في المنصات المُختلفة. فبات الاِعتقاد راسخًا أنّهم سيكونونَ بديلاً لقادة الرأي في صحافة الرأي».كما يرى من جهةٍ أخرى، أنّ هناك جملة من التحفظات على الاِعتقاد بمقدرة الميديا الاِجتماعيّة على صياغة رأي عام. وذلك للعديد من الأسباب. وقَدْ أَوْرَدَ بَعْضهَا فقط، مِن بينها -حسبَ رأيه دائمًا- أنّ: «الرأي ليس الاِنطباع والمشاعر والنزوات. والرأي العام يتشكل بناءً على معلومات ونقاش حر، وجدل بين الأفكار المُتنافرة وحتّى المُتعارضة، ففي حالة غياب هذا النقاش أو تغييبه لاِنعدام الحرية ينفي القول بوجود رأي عام».مُشيرًا في ذات الوقت، إلى أنّ البعض يعتقد أنّ الميديا الاِجتماعيّة منصات لمُمارسة حرية التعبيــر والتفكير، ويتجاهل أنّها أيضًا أداة فعّالــة للرقابة والقمع وتمييع النقاش والتضليل ومُمارسة الرقابة الذاتية والتملق. صاحب كتاب «الوسائط المُتعدّدة بين المتن والهامش» أضاف قائلاً: «إنّ الإيمان بقوّة تأثير الميديا الاِجتماعيّة أدى إلى التسليم بمقدرتها على تشكيل الرأي العام، نظرًا لمُساهمة مستخدميها في تجييش العاطفة، في ظل رسوخ ما أصبح يُعرف بِمَّا بعد الحقيقة، والتي تُعرف بــ(السّياق الّذي يتراجع فيه تأثير الوقائع الموضوعية لصالح المشاعر والأهواء والقناعات الشخصية. ففيه يحتمي الأشخاص بمشاعرهم ويبنون عليها قناعاتهم وآراءهم). لكن إن لم تُحظَ هذه الآراء بمناقشة واسعة من خارج دائرة الجماعة التي صدرت عنها، تبقى مجرّد آراء مجموعة أو جماعة، حتّى وإن كانت مرئية أكثر».
من بين الأسباب التي أَوْرَدَهَا الدكتور لعياضي، أنّ الميديــا الاِجتماعيّة تعمــل على تشــكيل جماعات اِفتراضية تزداد تماســكًا بفضل الاِســتقطاب السّياســيّ والأيديولوجــيّ والعاطفيّ عبر «الهوموفيليا Homophily»، وتعني ميل الشــخص إلى مثيله، أي إلى من يملك قواســم مشتركة معــه، مثل الهوايات، والأفكار والمُعتقــد، واللّغة.
وهنا أوضحَ قائلاً: «حقيقةً أنّ هذه الميديا لا تخلق هذا الاِستقطاب من العدم. إنّه موجود في الواقع اليوميّ، لكنّها تُعيدُ إنتاجه وتمنحهُ الاِنتشار الواسع. فلا وجود نسبة وتناسب في الفضاء الاِفتراضي. فمجموعة صغيرة تنشر منشورات بإيقاع سريع ومُتواصل في الفضاء الاِفتراضي تُوحي بأنّها حشودٌ واسعة. وخطورة هذا الأمر أنّه يُمارس الإقصاء، ونبذ الرأي المُخالف والمُعارض الّذي يُؤسس لبناء الرأي العام».
ومُستدركًا أضاف: «تتعرض الميديا الاِجتماعيّة إلى ما أَصبَحَ يُعرف بفقاعة الغربلة، بمعنى أنّها في يد خوارزميّاتها التي تنتقي ما تُريد أن يُنشر وترفض البقية. وهذا ما نُلاحظه بخصوص حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني. لقد طبق الحجر على حسابات في بعض المنصات لتعاطف أصحابها مع الشعب الفلسطيني بحجة معاداة السامية أو دعم الإرهاب».
وخلص إلى القول: «إنّ الإعلام الرقمي بكافة وسائله وآلياته يُعتبر أحد أبرز وأهم وسائل صناعة الرأي العام في مُختلف الأصعدة التي يتناولها، إذ يُتيح بخاصيّاته التّفاعليّة المُختلفة لعملية التوجيه أن تُحقّق أهدافها والذهاب بعيدًا لتكوين رأي عام مدني مُتحضر يتشكلُ من خلال متطلبات حرية التعبير الرقمية وهي الثّلاثية (العِلم والديمُقراطية والحرية) التي يتفاعل المُجتمع (الشباب) الجزائري في ظلها من جهة أخرى، في ضوء قدرته على إيصال المعلومة على أُسس سليمة من خلال رسائل مُباشرة أو برامج وتطبيقات ذكية تُكرس للهدف بصورة غير مباشرة».
الكاتب والإعلامي عمار بورويس
أصبح من أكثر الوسائل في صناعة وتوجيه الرأي العام
يعتقد الكاتب والإعلامي عمار بورويس، أنّ دور الإعلام الرقمي في المجتمعات الراهنة تعاظَم بشكلٍ لافت في السنوات الأخيرة، وأصبح المصدر الأوّل لتلقي المعلومة بالنسبة لملايين النّاس في كلّ دول العالم، كما أصبح من أكثر الوسائل في صناعة وتوجيه الرأي العام. ولقد تحقّق ذلك بفضل الوتيرة المُتسارعة للتطوّر العلمي الحاصل في تكنولوجيا وسائل الإعلام والاِتصال من جهة، ورغبة الجمهور في تلقي المعلومة في حينها بالصوت والصورة.
وأضافَ قائلاً: «لقد أصبح بإمكان أي إنسان يملك جهاز تلفون أن يستقبل سيلاً من الصور، في أي مكان يتواجد فيه. وتراجعت بذلك كله سلطة الإعلام التقليدي، أمام هذا الزحف الكبير الّذي أصبح يحمل عنوان الإعلام البديل. ومن نتائج ذلك أن توقفت الكثير من الجرائد عن الصدور، في حين غابت الطبعات الورقية لبعض الجرائد، وأصبحت تهتم فقط بطبعاتها الالكترونية. ومن نتائج ذلك أيضًا أن توقفت عديد الإذاعات والقنوات التلفزيونية عن البث، وعمدت إلى اِستحداث قنوات رقمية على منصات التواصل الاِجتماعي».
وبذلك -حسب رأيه- أصبح هذا الإعلام الرقمي البديل يستحوذ على اِهتمامات الجمهور بشكلٍ يتزايد كلّ يوم، كما أصبح محط أنظار شركات الإعلان أيضًا.
بل إنّ الهيئات الرسميّة أيضًا -كما يُضيف- أصبحت تتعامل مع الإعلام الرقمي دون غيره من وسائل الإعلام التقليدية. وإذا كان الإعلام الرقمي يُقدم المعلومات في حينها صوتًا وصورة، ويتمتع بخاصية التحرّر من سلطة الرقابة، فإنّه ينطوي على مخاطر عِدة قد تُحوله إلى سلاح فتّاك في معركة قادمة. وهُنا أَرْدَفَ مُوضحًا: «لقد اِتضح فِعلاً في مناسبات عديدة كيف تمكنت المعلومات المُفبركة (فايك نيوز) من زرع الفتنة وتحريك الجماهير، ما أدى بعديد المُلاحظين إلى التنبيه إلى المخاطر المحيطة بالإعلام الرقمي، خاصةً بعد ثورة الذكاء الاِصطناعي. ودعا الخبراء إلى توخي الحيطة والحذر عند تلقي المعلومة الرقمية، لأنّها تُعَدُ أحيانًا في مخابر خاصة، وغايتها توجيه الرأي العام نحو قضية ما، في سياق حروب إلكترونية هدفها السيطرة على العالم». مُضيفًا في ذات السّياق: «يبدو واضحًا اليوم، أنّ زمن الجريدة الورقية ونشرات الأخبار التلفزيونية والإذاعية، قد بدأ يتراجع ليصبح جزءًا من الماضي، في حين تحوّل الهاتف الذكي إلى وسيلة التواصل والاِتصال المُفضلة لدى الملايين من النّاس».
صاحب «ليالي سردينيا» خلص إلى القول: «لا شك أنّ هذا الاِنتقال السريع نحو المعلومة الاِلكترونية لن يمر دون أن يُحْدِثَ الكثير من الخلل في يوميّات النّاس وطباعهم، ودون أن تُصاحبه الكثير من المخاطر على ثقافة الفرد وسلوكه، وعلى أمن وسلامة الدُّول والمجتمعات نفسها، ما يتطلب اِهتمامًا كبيرًا من قِبل مراكز البحث، للتقليل من المخاطر والسلبيات التي تُرافق عادةً كلّ قفزة نحو عالم مستقبلي، يبدو لنا اليوم غريبًا ومُخيفًا».
الأكاديمي المُختصّ في علوم الإعلام والاِتصال الدكتور نصر الدين مهداوي
الوسائط الرقميّة كرست استراتيجيّة جديدة في صناعة الرأي العام
يقول الأكاديمي المُختصّ في علوم الإعلام والاِتصال، الدكتور نصر الدين مهداوي، من جهته، إنه: «في ظل التطوّر الحاصل لتكنولوجيا الإعلام والاِتصال الّذي أفرز العديد من الأشكال الرقمية التي غيَّرت مجرى المُمارسة الإعلاميّة والاِستخدام نتيجة تزاوج شبكة الإنترنت مع مُختلف الوسائل الإعلاميّة والاِتصاليّة الكلاسيكيّة والّذي أنْتَجَ ما يُعرف بالإعلام الجديد New média وهو توليفة اِندماج وسائل الإعلام الكلاسيكية (صحافة-تلفزيون-إذاعة) مع الحواسيب الالكترونية وشبكة الانترنت web 2.0».
ولقد توّلد عن هذا الاِندماج -يضيف المُتحدّث- بروز تحوّلات جذرية من الإعلام التقليدي إلى الإعلام الرقمي فظهرت الصحافة الإلكترونية محل الصحافة الورقية أو ما يُعرف النشر عبر الواب (المواقع الإلكترونية الإخبارية) وظهرت المدونات وشبكات التواصل الاِجتماعي حيثُ أصبحت تُتيح هذه الأشكال العديد من الميزات والخصائص التي غيَّرت في طبيعة المُمارسة والاِستخدام حيثُ وفرت ما يُعرف التّفاعليّة interactive داخل الفضاءات الرقميّة والتشاركيّة وحرية الاِستخدام والتنقل في بيئة لا جماهيرية ولا تزامنية.
حيثُ أصبحَ الإعلام الرقمي -حسب ذات المُتَحَدِّث- يرتكزُ في الوقت الراهن على الفوريّة والآنيّة والنشر هي أحد أولويات المؤسسات الإعلاميّة نتيجة المُنافسة الشرسة في السبق الصحفي بين وسائل الإعلام، من ينشر أوّلاً، من يصل للمعلومة أوّلاً، ومن يُؤثر أوّلاً (تريند- scoup).
وفي هذه النقطة تحديدًا يُضيف: «إنّ هذا التوجه المهني هو حتميّة رقميّة تفرضها سياسات المؤسسات الإعلاميّة من أجل إنعاش اِقتصاديّاتها عبر الوسائط الرقميّة إذ نَجَمَ عن هذا السلوك المهني خُططٌ استراتيجيّة أخرى تَتَبِعها المؤسسة من أجل توجيه وتأطير الرأي العام نحو المضامين والمحتويات والتي تنطلق من دراسة سوق الجمهور وحاجاته واهتماماته من أجل صناعة الإعلام، وإنتاج المعلومة وفق بروباغندا مُعينة للتأثير فيه وتوجيهه (التأثير المُباشر لوسائل الإعلام الساخنة) من منظور هارولد لاسويل».
ثُم استدرك قائلاً: «وعليه تستغل المؤسسات الإعلاميّة الخوارزميات التي تطرحها الميديا الرقميّة وهي عبارة عن تقنيات ذكيّة توجه المُستخدم user إلى اهتماماته وتفضيلاته حسب نمط تفكيره وشخصيته فوجدَ في وسائل الإعلام سهولة الأمر في صناعة الرأي العام من خلال هذه الخوارزميّة لتتبنى إستراتيجية التحكم في سيكولوجية الجماهير وامتصاص روح الحشد من مقاربة غوستاف لوبون من خلال توظيف قادة رأي: (صحفي/ مراسل/ مُحرّر/ ناشر) يشتغلون داخل هذه الفضاءات الرقميّة ويعملون على توجيه وتأطير الجماهير وفق تنظير التلاعب بالعقول لهيربت شيلر وبيار بورديو، أي التحكم في الجماهير سيكولوجيًا وعاطفيًا ونفسيًا وذهنيًا وفق صناعة معينة للمضامين والمحتويات وتوجيههم نحو تصديقها ومشاركتها عبر وسائط مختلفة وهنا نُؤكد مدى فاعلية نظريّة تدفق المعلومات عبر مرحلتين أو مراحل والتي تُعزِّز دور قادة الرأي في توجيه وصناعة الرأي العام لا تهم إذ كانت المضامين صحيحة أو كاذبة».
وهذا راجع -حسب رأيه- لأخلقة المُمارسة الإعلاميّة عبر الوسائط الرقميّة وضمير الصحفي، فقد ينجم عن هذه المُمارسة المهنيّة نشر أخبار كاذبة أو مُزيفة أو شائعات من شأنها التلاعب بمشاعر الجمهور وإغرائه، خاصّةً فئة الشباب.
مُضيفًا: «اليوم نعيش عولمة جد خطيرة ألا وهي الغزو الثقافي، فنرى شباب اليوم يُقلد موضة وسلوكات وعادات وتقاليد دخيلة عن قيمه ومجتمعه، وهو ضحية تأثير العولمة الغربيّة التي سعى الإعلام إلى توجيهه نحوها وتأطيره (الإشهار والتسويق الرقمي)، ومن هذا المنطلق بدأ توظيف إستراتيجية رقمنة الصناعة والتوجيه في المضامين الرياضيّة، ثم في مجالات أخرى تتعلق بشؤون السيارات والمرأة وغيرها من المجالات التي تُوهم الشباب وتغويه...الخ، وما هي إلاّ سياسة مُمنهجة لإنعاش اقتصاديّات المؤسسات الإعلامية ورفع نسب التفاعل والمشاركة».
واختتم قائلاً: «لو نرجع إلى حقبة الزمن القديم، كان للإذاعة دور كبير في صناعة الرأي العام والتأثير فيه، باِعتبارها وسيلة ساخنة اِعتمدَ عليها هتلر في توجيه الرأي العام نحو الاِنتخابات من خلال توظيفها في سياق الخطاب، اِستعمالات عِدة تتماشى مع سيكولوجية الجماهير، لكن وسائل التواصل الاِجتماعي اليوم صارت أكثر توجهًا نحو صناعة الرأي من خلال إنتاج محتويات تعكس متطلبات الجمهور سواء كانت رديئة أو هادفة ومع استمرارية التفاعل والتأثير تعمل الخوارزمية على توجيه تلقائي للمُستخدم نحو تلك الصناعة وهذا ما نشهده اليوم في محتويات الريلز والتيك توك».
أستاذة الإعلام والاِتصال الدكتورة منى صريفق
فكرة ارتباط الإعلام الرقمي بالرأي العام فكرة حساسة للغاية
ترى الناقدة وأستاذة الإعلام والاِتصال الدكتورة منى صريفق أنه «منذ بدايات القرن العشرين أصبح الإعلام بعامة والإعلام الرقمي بخاصة من أهم المجالات التي تهتم بها الدراسات الإعلاميّة والنقديّة على السواء، لِمَا له من مساقات ذات مخرجات تتسم بالسرعة والقوّة في الوقت ذاته. وإنني أجد نفسي موقنة أنّه من أكثر المجالات تعقيدًا وتأثيرًا على سلوكات المُجتمعات وعواطفهم وآرائهم وحتّى أذواقهم التي يُشكلونها حول موضوع ما».
فقد أضحت وسائل الإعلام الرقمية -كما تُضيف- من أهم الوسائل التي تحكم طبيعة التعامل بين الأفراد وحتّى المجتمعات التي تختلف من حيث طبيعة الهوية والمآلات التي تؤول إليها. هذا ما يقودنا مُباشرةً نحو علاقة الإعلام الرقمي بالرأي العام.
ثم أردفت: «فإنْ كانَ الإعلام الرقمي عبارة عن اِمتداد للإعلام التناظري الّذي يعتمد على وسائط تواصليّة تقليديّة كالراديو والصُحف وما إلى ذلك فإنّ الفرق بينهما واضح للغاية وهو السرعة والاِنتشار. إنّ هذه الميزة جعلت المادة الإعلامية تنتشرُ بطريقة رهيبة بين مُختلف فئات المُجتمع وبخاصّة فئة الشباب. على اِعتبار أنّهم أكثر الفئات اِستخدامًا للوسائط الرقميّة».
وتُواصل مُؤكدةً: «وجب التنويه في هذا السّياق أنّ تعرض فئة الشباب لهذا الإعلام من خلال الوسائط الرقمية قد يكون على نوعين: النوع الأوّل هو النّوع الّذي يكون رسميًا ومُباشرًا مادته واضحة وأهدافه مُسَطَرَة كنشرات الأخبار وما إلى ذلك من المقالات اليوميّة والتي لا يمكن حصرها في مُختلف المجالات والتي تُنشر على مختلف الوسائط».
وفي ذات الفكرة، تُضيف: «في حين يوجد تعرض غير واعٍ لهذه المواد الإعلامية والترويجية فيحصل لدى هذه الفئة أو الفئات الأخرى -حسب الاِستخدام للوسائط الرقمية- ما يُعرف بـــ(البرمجة الذاتية لأنماط السلوك) فيجد الشخص نفسه يملك مجموعة من الأفكار وأنماطًا سلوكيّة غريبة عنه لا يعرف كيف يُفسرها ولا كيف يتحكمُ بها بشكلٍ واضح. ومِن أهم مَنْ تَحَدَّثَ عن هذه الظاهرة نجد (وليام جيمس بوتر)W.j. Potter الباحث الأكاديمي الأمريكي الّذي عالج هذه الفكرة في كِتابٍ مهم للغاية هوdigital media effects.
أمّا عن سؤال: هل أصبح الإعلام الرقمي، من أهم الوسائل في صناعة الرأي العام، وبالتالي أكثر قدرة على التأثير وتوجيه الرأي؟
فتجيب: «أنا أجزم أنّ الإعلام الرقمي أصبح في وقتنا الراهن من الضرورات التي لا يمكن أبدًا تجاوزها أو حتّى الاِنفصال عنها، إنّه صانع لِمَا يُعرف بمجتمعات الحتميّات (حتميّة التأثير والتأثر، حتميّة الرقمية...إلخ). لقد نَجَحَ الإعلام الرقمي من خلال مُختلف الوسائط التي يستخدمها في صناعة مجتمعات تعتمد في أساسها على السرعة في الاِنتشار والمُعالجة للمواد الإعلامية الصادرة والواردة في غضون دقائق والوصول إلى أقصى نقطة في الكرة الأرضية بكلّ سلاسة عبر شبكة الانترنت. وهذا الإنجاز جعلَ منه قوّة لا يُستهانُ بها؛ بطبيعة الحال هذه القوّة سلاحٌ ذو حدين».
وذات صلة بهذا المعطى، تُكمل رأيها: «فالإعلام الرقمي الفعّال يعمل على تقديم فعاليّة آداتية قُصوى أثناء تقديمه للمادة العلميّة لصناعة رأي عام مبني على الوعي التّام والتشاركية؛ في حين نجد الإعلام الرقمي العفوي والّذي تقوده جحافل من روّاد مواقع التواصل الاِجتماعي قد يقود الرأي العام إلى الجحيم بخاصّة إذا قاد هذا الإعلام مجموعات غير عارفة في المجال الّذي تتحدّث وتُناقش الأفكار فيه».
واختتمت بقولها: «الإشكال الفعلي في هذه القضية هو أنّ العقل البشري لا يُفرق في كثير من المواقف بين المادة الإعلامية التي تعتمد على إعلام رقمي فعّال وآخر عفوي غير مسؤول. فنجد النوعين يُعيدان إنتاج الأنماط السلوكيّة بشكل تلقائي. هذا ما يجعل فكرة ارتباط الإعلام الرقمي بالرأي العام فكرة حساسة للغاية وعلى الإنسان أن يعي مدى خطورة انخراطه في تقديم مادة إعلامية رقمية مهما كانت تافهة في نظره. وأعتقد أنّ ما حدث في الساحة الأدبيّة والنقديّة والرياضيّة مؤخرًا قد يُبَيِّنُ ولو بشكلٍ بسيط كلّ ما ذهبنا إليه في موقفنا».