أعدت الملف: نوّارة لـحـرش
كثيراً ما اِرتبطت الجامعة بِمَا يُسمى "النُخب"، وبأنّها هي الحاضنة الأولى أو المصنع الأوّل والأساسي لصناعة وخلق ولتخريج أو اِصطفاء النُخب، وهي القوّة الناعمة التي تدفعهم إلى واجهة الحياة الثّقافيّة والسّياسيّة في أي مجتمع وفي أي بلد من المجتمعات والبلدان عبر العالم وعبر التّاريخ.
فهل يمكن القول أو الجزم أنّ الجامعة ما تزال حقاً هي الحاضنة الأولى لصناعة وإنتاج النخب، وهل لا تزال قادرة على تقديم النُخب؟ وما مدى فاعلية المنظومة الجامعية في صناعة النُخب؟ أم أنّ دورها في هذا الشأن تراجع بشكلٍ ما؟ وأنّها مطالبة اليوم بالعمل على اِسترجاع دورها الريادي في صناعة النُّخب الحقيقيّة.
حول هذا الموضوع "الجامعة وصناعة النخب"، كان ملف عدد اليوم من «كراس الثّقافة»، مع مجموعة من الدكاترة والباحثين الأكاديميين من مختلف الجامعات الجزائرية.
* أستاذ عِلم الاِجتماع السياسي عبد السلام فيلالي
إنتاج النخب من صميم عمل الجامعة
يقول أستاذ عِلم الاِجتماع السياسي، بجامعة عنابة، الدكتور عبد السلام فيلالي إن: "إنتاج النُخب هو من صميم عمل الجامعة، لأنّها المؤسسة الوحيدة التي تضطلع بالتكوين والتدريب في مختلف المجالات والتخصّصات. فنحنُ نعرف أنّ التحديث قد بدأ من خلال تكفل الجامعة بهذا الدور في تخصّصات محدودة مثل: الآداب والعلوم الإنسانيّة والطب في مجتمعاتنا في بداية القرن العشرين. وقد تطوّر هذا على حساب المؤسسات الأهلية التقليدية التي كانت تضطلع به، الزوايا والكتاتيب ثم الجوامع العريقة".
وفي ذات السّياق أضاف: "يمكنُ معاينة هذا التطوّر من خلال أدوار أولى الجامعات في الجزائر وفي مصر على سبيل المثال. وقد تناول هذه المسألة الدكتور طه حسين في مؤلفه (مستقبل الثّقافة في مصر) الّذي صَدَرَ سنة 1937، فيما يتعلق بضرورة مسايرة مؤسسة الأزهر متطلبات التحديث من حيثُ تبني نُظم التعليم الحديثة وتطوير محتوى البرامج".
وعليه، -كما يُؤكد- فعملية إنتاج النُخب مرتبطة بالجامعة أو مؤسسات التكوين (معترفٌ بها من قِبل وزارة التعليم العالي) تضمُ أساتذة ومكونين مكرسين لهذا العمل يحصلون على رواتب قارة نظير ذلك. ثم يأتي المستوى الثاني من التقييم، وهو يخص مدى بلوغ المُتحصلين على شهادات عُليا بأن يدرجوا ضمن فئة النُخب. إجمالاً الجواب نعم، ولكن يدخل معيار الاِقتدار الّذي يُميزهم بعضهم عن بعض، فليس كلّ حاصل على شهادة في العلوم السّياسيّة يملك القدرة على التحليل السياسي، وكذلك في مجال الإعلام والاِتصال وهلم جرا".
ثم هناك معيارٌ ثالث -يُضيف الدكتور فيلالي- ويخص اِنخراط هذا الجامعي/الأكاديمي وخوضه في قضايا مجتمعه وهمومه. فنصل من ثم إلى اِستخدام المفهوم الشائع وهو "المُثقف": الّذي يملك وعياً وقدرات ومستويات ثقافيّة كبيرة، فنحن نعرف أنّ المستوى الثّقافي واللغوي لنسبة معتبرة من المتحصلين على الشهادة العُليا هو محدود.
واختتم بقوله: "من هنا نعود إلى أصل الإشكال، بأنّ مفهوم النخبة مرتبط بشرط التضلع في مجال التخصّص والاِهتمام، من خلال عملية التطوير الذاتي من حيث اِكتساب ومُسايرة المعارف المُستجدة والاِبتكارات. فيمكن بالتّالي تمييز الاِقتدار بين الحاصلين على نفس الشّهادة الجامعيّة أو التكوينيّة. وقد صار هذا التعريف أهم معيار في هذا التمييز، فلم يعد يكفي نيل شهادة لكي تصير أهلاً لأن تُعتبر من النخبة بل ما يجب بلوغه من مستويات عالية في الثّقافة والتدريب".
* الباحث لطفي دهينة
النخب باتت منزوية والجامعة مطالبة باستعادة دورها
يتساءل الأستاذ والباحث في العلوم السّياسيّة الدكتور لطفي دهينة، من جامعة قسنطينة3: هل نملك فعلاً نخبة بالمعنى الأنطولوجي أو الابستيمولوجي للمصطلح؟ تلك النخبة التي تمتلك الرصيد الفكري والمعرفي الّذي يمكنها من المساهمة في تطوير ورقي المُجتمعات، النخبة التي تمتلك مُميزات وقُدرات خاصّة تتشكلُ من بناءٍ معرفي وتراكم خبراتي ورؤية ثاقبة للمشهد المجتمعي، تُمكنها من تقوية نفوذها والتأثير القوي والفعّال في المجتمع وقيادته".
مُضيفًا: "إنّ نجاح النُّخب في عملية التأثير يقترن أساساً بمستوى الوعي والتكوين العلمي السليم لديها، والخلفيات الفكرية التي تمتلكها، فالأفكار هي حجر الأساس في بناء المعارف واستشراف مستقبل المجتمعات، والفكرة العلمية السليمة أداة لتصحيح الأخطاء والاِختلالات الموجودة في المجتمعات، وبناء مسار صحيح للاِرتقاء بها وتطويرها".
ومن هذا المُنطلق -حسب المُتحدث- يظهر الدور المُهم الّذي يقع على عاتق الجامعة، في تكوين النُّخب وصقل مهاراتها ومعارفها بشكلٍ سليم، تجعلها تحتل المكانة التي تُؤهلها لقيادة المجتمع، على اِعتبار أنّ الجامعة هي المكان الطبيعي لتدارس العلوم وخلق المعرفة، وهي المكان الّذي تلتقي فيه النّخبة العلمية للمجتمع من أساتذة وباحثين وطلابًا، وهي المحضن الطبيعي لتدارس مختلف الإشكاليّات التي تُواجه المُجتمع والعمل على إيجاد وإنضاج الحلول اللازمة لها.
والسؤال دائمًا -كما يُضيف- هل الجامعة اليوم فعلاً تقوم بهذا الدور؟ وهل هذا الدور يرتبطُ بها حصراً دونَ غيرها من الفضاءات؟ والجواب -كما يقول-: "لا جرم أنّ هذا الدور لا يرتبطُ بالجامعة حصراً، بل تُشاركها فيه عِدة فضاءات على غرار عديد المُؤسسات الرسميّة وغير الرسميّة، المجتمع المدني والأحزاب السّياسيّة ومراكز الاِستشراف والمُنتديات وغيرها، ولكن يبقى دور الجامعة أصيلاً وبالغ الأهمية على اِعتبار الفئات التي تحتضنها من جهة، والتنوع الفكري والعلمي والمعرفي الّذي تتمتع به، ما يجعلها فضاءً أوّسع وأرحب بكثير من غيرها".
لكن المُلاحظ -حسب اِعتقاده- أنّ هذا الدور يعرف تراجعاً نسبيًا كون النُّخب المُشتغلة بالثّقافة والعِلم والحاملة للمشاريع الفكريّة والمعرفيّة أصبحت قليلة، والكثير منها أصبح يحس بمقاومة لأفكاره وأطروحاته مِمَّا يدفعه إلى التراجع أو الاِنزواء، خاصّةً وأنّ الأفكار التي تدفع إلى التغيير عادةً ما تُواجِه المُقاومة وتتطلب جهداً كبيراً من أصحابها في المضي قُدُمًا. لأنّ النّخب -كما يقول- تعتمدُ في نشاطها على نشر الأفكار وشرحها والنضال في سبيل نشر الوعي والثّقافة السّياسيّة بين النّاس، لذلك فهي تندرجُ في إطار الحركات الاِجتماعيّة والجماعات الضاغطة كما يرى عالم الاِجتماع "جي روشي"، وهو الأمر الّذي يمنحها القدرة على التأثير في المجتمع. وفي الأخير خلص إلى القول: "إنّ الجامعة مطالبة اليوم بالعمل على اِسترجاع دورها الريادي في صناعة النُّخب الحقيقيّة التي تقود المُجتمع، والمُساهمة في تكوين نخبة تكون صمّام الأمان والدرع الواقي من كلّ ما يمكن أن يُهدّد اِستقرار فِكر وقِيم المواطن، في ثقافته وأخلاقه وعقيدته وتقاليده وتربيته وسلوكه وتصرفاته ومعاملاته، نخبٌ تتحلى بالمسؤولية وتتوّفر على القدرة اللازمة، وتمتلك روح المُبادرة، وقادرة على التأثير في المجتمع وبناء الثّقة بين مُختلف أطراف المنظومة المجتمعية.
* الباحث والأكاديمي محمّد بن ساعو
النخب الجامعية نخب تنظيرية تطل على الواقع من شرفة
يقول الدكتور محمّد بن ساعو، أستاذ وباحث في التاريخ، من جامعة سطيف2 إن إثارة هذه الإشكالية تدفعنا"إلى اِستعادة الجامعة إلى قلب التساؤل، بوصفها الفضاء المرجعي –وليس الوحيد- لصناعة النّخبة، بوصفها الشريحة القياديّة التي تصنع التوجهات وتوجّه الرأي العام وتُساهم في التّنميّة الاِجتماعيّة والاِقتصاديّة والثّقافيّة أيضاً؛ غير أنّ الواقع الّذي يمكن رصده اِنطلاقًا من مسحٍ بسيط لموقع النُخب الجامعيّة في الجزائر يُحيل إلى اِنكفاءها على ذاتها واعتزالها في غالب الأحيان تحت وقع الظروف المُختلفة".
إلاّ أنّ هذا الموقع -كما يُضيف- لا ينبغي أن يحجب علينا مسألة في غاية الأهمية، وهي متعلقة بالسّياقات التّاريخيّة التي نشأت فيها النخبة الجزائريّة ومعالم التحوّل العميق الّذي حدث في تركيبتها وبنيتها وفي تأثيرها أيضاً. ثم أردفَ مُوضحاً وجهة نظره: "لا شك أنّ مفهمة (النخبة) قد أثارت الكثير من النقاش، وهو ما دفع إلى التمييز في مستوياتها وطبيعتها، لكن الشيء المُتفق عليه في نظرنا هو أنّ النّخبويّة صناعة تعليمية باِمتياز، بمعنى أنّ التعليم هو الّذي يُنتج النُخب، قد نختلف في طبيعته ومخرجاته، لكنه يبقى الرافد الرئيس، وبذلك فإنّه لا يمكن بأي حال فصل التعليم الجامعي عمَّا قبله، وهُنا مشكلة أخرى تجعل من العسير تحديد المسؤوليات، خاصّةً إذا أدركنا أنّ النخبة الجامعية في الحقيقة لا تصنع حتّى البرامج التعليميّة ولا تتدخل في توجيه السّياسة التربويّة إلاّ جزئيا!".
وبنوعٍ من الاِستدراك، أضاف: "لا يعكسُ كلامي عجز النخب، بقدر ما يُشير إلى أنّ الجامعة وإن كانت صانعة للنُّخبة؛ فإنّها عاجزة -لأسباب مختلفة منها ما هو مرتبط بها وأغلبها خارج عن إرادتها- عن موقَعَةِ النخبة في فضائها الحقيقي الّذي يجعل منها مبدعة وقياديّة، وهكذا يكون موقع النخبة في سُلم التراتب هو المُحدّد الحقيقي لجدارتها. والحقيقة أنّ النُخب هي التي تصنع اللحظات التّاريخيّة التي تُمثلُ منعطفات حقيقيّة، بينما أغلب النُخب الجامعية هي نخبٌ تنظيريّة تُطلُ على الواقع من شرفة لا هي مرتفعة وسامقة فتسمح لها بإدراك الوضع بكلّ تفاصيله ومن مختلف زواياه وتُتيحُ مسافة النقد والتبصّر، ولا هي منخفضة فتتماهى تصوراتها وإشكاليّاتها العلميّة مع اليومي الّذي تتناسلُ منه الاِنشغالات والهموم. ومع ذلك فإنّ كلّ موقع من المواقع المُتاحة إلاّ ولهُ ضريبة قاسية على النخبوي أن يدفعها مثلما على المحيط أن يتحمل عواقبها وانعكاساتها".
ذات المتحدث، واصل قائلاً: "إنّ ما يُثيرُ الاِنتباه والتعجب الشّديد هو اِختفاء التقاليد النخبويّة التي كانت مُكرسة في الجامعة، أقصد بالضبط التنوع الفكري والإيديولوجي الّذي يُعَدُ سمة تُحدّد القناعات والتوجهات لدى الطلبة والأساتذة ومختلف الفاعلين في الحقل الجامعي، إنّ هذا المُؤشر الخطير الّذي يعكسُ اِختلالاً عميقاً في التّأسيس للرُؤى والتصورات التي تُؤطر مشروع المجتمع يقفز على تراكم تاريخي شهدته الجامعة الجزائرية في سنوات ماضية، لكنّها ولّت فيما يبدو". لقد أصبحت الجامعة -حسب رأيه- مجرّد مؤسسة عمومية لا تختلف عن بقية المؤسسات يُمارس فيها (السوسيال)، فاستغرقت (النخبة) مع المشكلات الاِجتماعيّة والقضايا اليومية التي يُعانيها المواطن العادي وهي ذاتها التي يتقاسمها معه النخبوي الجامعي.
* الباحث محمّد لخضر حرز الله
على الجامعة أن تتحوّل إلى مركز لاِستقطاب الكفاءات
حول ذات الشأن، يقول الباحث وأستاذ العلوم السّياسيّة بجامعة بسكرة، الدكتور محمّد لخضر حرز الله: "لقد اِرتبطت نشأة الجامعات منذُ القِدم بمهمة تكوين طُلاّب العِلم في شتّى العلوم لتخريج العُلماء والأساتذة والمُفكرين الذين يسهمون في تطوير مجتمعاتهم، وقد اِرتبط تاريخ المسلمين بالعديد من المعاهد والجامعات التي تَخَرَجَ منها القادة والعُلماء الذين تَسنَّموا الريادة الدّينيّة والسّياسيّة والعسكريّة في أوطانهم".
مُضيفًا في ذات السياق: "لقد ساهمت الكثير من المراكز العلميّة مثل ("بيت الحكمة" في عهد الخليفة هارون الرشيد، والتي كانت بمثابة أكاديمية علمية متكاملة، و"جامعة القرويين")، دون أن ننسى الدور الريادي لجامع الزيتونة وجامع الأزهر، في تطوير مناهج البحث العلمي وتخريج العباقرة والمفكرين الذين أَثْرَوا بعلومهم الحضارة العالمية. واليومَ يثورُ التساؤل حول مدى فاعلية جامعاتنا -على كثرتها وغِناها التخصّصي- في صناعة النُّخب الفاعلة التي تُسْهِمُ في ترسيخ الوعي ودفع عجلة التّنميّة في مجتمعاتها؟".
وهنا أردف قائلاً: "بادئٍ ذي بدء يجبُ القول أنّ فاعلية المنظومة الجامعية في صناعة النُخب لا تتوقف على الإرادة السّياسيّة فحسب رغم مشروطيّتها، وإنّما تتطلبُ وجود رؤية علمية اِستشرافية للنهوض بالتعليم والبحث العلمي والاِستثمار في الكفاءات وتوطينها وتمكينها، حتّى يتوقف نزيف رأسمالنا البشري، الّذي يُثبتُ نجاحه في مُختلف المؤسسات الأجنبية. فالجامعة الجزائرية نجحت على مدار سنين الاِستقلال في تخريج النخب العلمية، لكن في المُقابل تُطرح بإلحاح إشكالية الاِستثمار في المورد البشري، واستنزاف الرصيد المعرفي والمهاري للكفاءات، وهذه صورة لعدم الفاعلية والجدوى".
فالنُخب العلميّة -كما يُضيف- لا يمكنُ أن تُثمر في تربة تفتقرُ للحرية الأكاديمية والمُشاركة في التخطيط وصناعة القرار، كما لا يمكنها أن تتألق في بيئة اِجتماعيّة يسودها منطق العشيرة والإقصاء والتعصب، وغياب ثقافة التعايش والاِحترام والتمكين الاِجتماعي لأصحاب الفكر والعِلم، ناهيك عن ضُعف الإمكانات التعليميّة والبحثيّة، وغياب أي دور لمراكز البحث والتفكير التي تُمثل العمود الفقري لرسم السياسات والاِستشراف في البلدان المُتقدمة، إضافةً إلى ضحالة المشهد الثّقافي وانكماش حركة النقد والأدب وجودة التأليف والترجمة، وعدم تشجيع المسابقات الفكريّة وتثمين المُؤلفات والبحوث المُتميزة.
وبالحديث عن دور الجامعة في صناعة النُخب، تُطرح -حسب المُتحدث- مسألة تمويل مشاريع البحث العلمي ومخابر البحث. أين تجدر الإشارة إلى أنّه في الدول المُتقدمة يضطلع القطاع الخاص بالعبء الأكبر في تمويل ورعاية المراكز البحثية والمشاريع الاِبتكارية، في حين تكاد تنعدم هذه الثّقافة عندنا، أين يقتصر تمويل القطاع الخاص على الفِرق الرياضيّة والمهرجانات الثّقافيّة.
مُشيراً في هذا المعطى، إلى أنّ معادلة الجامعة وصناعة النُخب تقتضي أن تتحوّل الجامعة إلى مركز لاِستقطاب الكفاءات عبر نظامها الخاص بإدارة الموارد البشرية، أين ينبغي اِعتبار الجودة العلمية معياراً مرجعياً للمُفاضلة في الاِنتقاء والتوظيف، والتحفيز والتكوين وتثمين المسارات العلمية والمهنية للباحثين، بعيداً عن الاِعتبارات غير الموضوعية التي في الغالب ستجني على مبدأ الاِستحقاق والجدارة.
وفي المُقابل، -حسب ما خلص إليه- أدت سياسة تخريج أعداد هائلة من حملة الشهادات العُليا بطريقة غير متوازنة مع متطلبات سوق الشغل والاِقتصاد كمًا ونوعاً، إلى اِستنزاف الرصيد الفكري والبشري وتمييع القيمة العلمية لمفهوم النُخبة والشهادة العُليا، الأمر الّذي من شأنه -في حال عدم اِستدراكه- أن يُؤثر على نوعية التكوين العالي، ويحرم الوطن من عوائد الاِستثمار في رأس ماله البشري.
* الأكاديمي إبراهيم بولمكاحل
توجه الجامعة نحو محيطها يحمل الكثير من الآمال
يقول الباحث والأكاديمي الدكتور إبراهيم بولمكاحل: "كثيراً ما تُطرح مسألة علاقة الجامعة بمحيطها من زاوية المكانة والدور في دفع مجتمعاتها والمُساهمة في رقيها وازدهارها، من هذا المنطلق يتم النظر للجامعة كمصنع لكفاءات ونخب وإطارات مؤهلين لقيادة المجتمع بشكل نوعي ومستجيب لمتطلباته ورقيه. باِعتبارها قائدة الرأي العام والمُؤثرة في تشكيل اِتجاهاته، بل أكثر من ذلك يُعتبر وجود نخب فاعلة أحد أهم مؤشرات الاِستقرار بالنسبة للدُّول والمجتمعات، من خلال دورها في نشر الوعي الّذي يُساهم في الحفاظ على التماسك الاِجتماعي والتقدم الاِقتصادي وتوفير الأمن بمختلف مستوياته".
مضيفاً: "يُستخدم عادةً مصطلح النُخبة باِعتبارها مجموعة من الأشخاص ذوي خبرات وكفاءات معينة، عادةً ما يمتلكون مكانة اِجتماعيّة أو علميّة أو ثقافيّة، والتي تقع عليها مسؤوليّة اِجتماعيّة وأخلاقيّة لقيادة التغيير، وصنع تاريخ مجتمعها، فتشرح المشكلات وتُقدم الحلول، وتبني الاِستراتيجيات والخُطط الكفيلة بمساعدة مجتمعاتها والعمل على اِزدهارها".
من هذا المنطلق تكمن أهمية الموضوع، -حسب الدكتور بولمكاحل- حيثُ أنّ دراسة علاقة الجامعة وتأثيرها على النُخب ذات أهمية كبيرة تُساهم في رصد التحديّات التي تُواجه الجامعات في دورها في تشكيل النُخب. إلى جانب فهم دور الجامعات في إثراء المجتمع وتشجيع المشاركة في تطوير القيادات النّخبويّة في المجتمع بشكلٍ شامل.
مُوضِحاً في هذا السّياق، مشددا على ضرورة الكشف عن حدود دور الجامعات كمنظمات ومؤسسات اِجتماعيّة في إنتاج النخب. والتي تُحفزها السرديات الجديدة القائمة على الأداء والتي تهدف إلى جذب أصحاب المصلحة مثل الحكومات وأصحاب العمل والأكاديميين والطُلاب.
مُشيراً في هذه النقطة، إلى أنّ الجامعات تُوفر عدداً من الوسائل والأساليب التي تُساهم في تكوين وصُنع النُخب. وذكر منها مجموعة من المحاور والمحتويات. من بينها "محتوى التعليم الأكاديمي وجودته"، إذ تُقدم الجامعات -حسب رأيه- مجموعة برامج دراسيّة مُتقدمة في مُختلف التخصّصات، مِمَّا يمنح الطلبة فرصاً لاِكتساب المهارات ليصبحوا خُبراء في مجالاتهم، كإداريين أو مسؤولين سامين في الدولة، أو قادة أحزاب ومنظمات مجتمعية وغيرها.
كما ذكر المُتحدث، أسلوب التّأثير الاِجتماعي والاِقتصادي. والّذي من خلاله، يعمل أساتذة الجامعات والباحثون على اِستكشاف وتطوير المعرفة في مجموعة واسعة من المجالات التطبيقية منها والسّياسيّة والسوسيو-اِقتصادية.
وكلّ هذا -حسبَ قوله- يُساعد على تدريب جيل جديد من المُتخصّصين والخُبراء القادرين على المساهمة في حل مشاكل المجتمع وتحسين جودة الحياة. وأيضاً في تحفيز التنمية الاِقتصادية وتطوير أساليب تسيير تستجيب لمختلف المشكلات التي تواجهها المجتمعات. بالإضافة إلى المعرفة الأكاديمية، تُساهم الجامعات في تنمية مهارات القيادة، والاِتصال، والتفكير النقدي لدى الطُلاب ومُختلف الشُركاء. هذا يمكن أن يجعلهم قادرين على تحمل المسؤوليات وتولي الأدوار الرياديّة في المستقبل. وبالرجوع إلى تجارب من الواقع، -حسب ما أكده ذات المتحدث- يمكننا الوقوف على عدد من التجارب بجامعات عريقة، لعبت أدوارا حاسمة في خلق وتشكيل نخب نوعية.
المُتحدّث، أشار إلى أنّ الجزائر، تبنت أيضًا مؤخراً سياسة تشجع اِندماج الجامعة في محيطها الاِجتماعي والاِقتصادي، من خلال دعم روح المُقاولاتية وتحفيز الطلبة لخلق مؤسساتهم الخاصّة في إطار قرار 1275، وتمَّ إنشاء حاضنات أعمال ومراكز مُتخصّصة في هذا المجال، وبالرغم من بعض المشكلات القاعدية التي تُواجهها العملية من حيث اِرتباط المشاريع بتقديم حلول عملية تتناسب وحاجيات المجتمع وسوق العمل. غيرَ أنّها تحمل -حسب رأيه- أمالاً كبيرة قد تُساهم في إخراج وإقحام الجامعة في محيطها ولعب أدوار ريادية في تقديم الحلول وتطوير المجتمع خاصّةً وأنّها تستهدف مجالات وتخصّصات متنوعة تتراوح بين العلميّة التقنيّة وأيضاً المرتبطة بالعلوم الإنسانيّة والاِجتماعيّة.
غيرَ أنَّ مُمارسة الجامعة كمؤسسة اِجتماعيّة لوظائفها في خلق النُخب والكفاءات -حسب قوله- يبقى مرهوناً بتوفر عدد من العناصر والمُحددات، أهمها: شكل ومضمون المناهج والمقررات.
إذ ضروري جداً -حسب رأي المتحدث- أن تنتقل الجامعات من نظام التلقين الجامد بسلبياته خاصةً كبح روح المبادرة والنقد وحصر التعلم في اِكتساب المعارف معزولة عن سياقها السوسيو- ثقافي، إلى مناهج التكوين المتكامل والنقدي الّذي يستند لجعل الطالب شريكاً في عملية التكوين، وتحرير عقله وتحفيز روح الإبداع والاِبتكار لديه.
كما خلص في الأخير، إلى ضرورة أن ترتبط الجامعة وظيفيًا بمخططات السّياسة العامة، وتكون جزءاً من منظومة صنع القرار، باِعتبارها خزانات للفكر، ومراكز لصنع النُخب والقادة في مختلف المجالات، هذا الوزن هو الّذي سيؤهلها للعب أدوار مركزية في تخريج طلبة يُشكلون نُخباً قياديّة.