أعدت الملف: نوّارة لـحـرش
هل كلّ ما يُسوَّق الآن من روايات له قيمة فنّية وأدبيّة وجماليّة ما. بمعنى آخر: هل ما يصدر ويُسوَّق من روايات (أو من نصوص تحت مسمى رواية)، يتمتعُ أو يحتوي على جودة وقيمة ما (أدبية، فنّية، جمالية). أم أنّ السوق يعجُ بنصوص خالية من القيمة ومن الإبداع؟، وإذا كان الأمر كذلك، كيف يمكن أن ينجو القارئ من الوقوع في قراءة نصوص لا ترقى لأن تُقرأ. أو كيف تنجو ذائقته القرائية من وهم سوق الرواية العشوائي؟ «كراس الثقافة»، في عدده لهذا الأسبوع، يفتح هذا الملف، «الرواية الجزائرية، بين السوق والقيمة»، مع مجموعة من النُقاد والمترجمين، الذين لهم مساهمات ومجموعة كُتب نقدية في جنس الرواية، ومنها الرواية الجزائرية على وجه الخصوص، وهنا آراء ومقاربات مُتباينة تناولت هذه الإشكالية، أو هذا السؤال الّذي فتحه/وطرحه «كراس الثقافة».
rالناقد عبد القادر فيدوح
الجودة والنزاهة شرطان لحماية الذائقة
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور عبد القادر فيدوح: «يُعدُّ السوق بأشكاله –بِما فيه سوق العمل الفني- مكانًا حيويًا يتفاعل فيه العرض والطلب، ويُعتبر مصدرًا لتلبية اِحتياجات المُقبلين من حيث القيمة والجودة، عبر توفير مجموعة متنوعة من المنتجات الفنيّة. وتعدُّ الجودة هنا عنصرًا أساسيًا، حيثُ يسعى الفنانون والكُتّاب إلى تقديم إنجازات تُلبي توقعات القُرّاء من قيمة وجودة، فضلاً عن ذلك، تُعتبر النزاهة عنصرًا حاسمًا في نجاح سوق العرض والطلب، وقدرته على تلبية لزوم المطلوب».
ثم أردفَ: «وبالنظر إلى علاقة الرواية بالذوق المرغوب بالمُجابهة والاِرتطام من أجل تحقيق أهداف مغرضة؛ فإنّ ذلك من شأنه أن يُوهِن قيمة العمل الفني، سواء كانت هذه القيمة فكرية، أو ثقافية، أو اجتماعية، وبِما أنّ الروايات –يُتوقَّع منها أن- تقدم أفكارًا جديدة، ورُؤى مختلفة حول قضايا مُتعدّدة، فإنّها بالمُقابل مُطالبة بأن تُسهِم في توسيع آفاق القُرّاء، من خلال شخصيات وأحداث، تتناول مواضيع مثل الهوية، والبناء، والعاطفة، الصراع، والعدالة؛ لأنّ الرواية تعكس الثقافة والتقاليد الخاصة بالمجتمعات التي تنتمي إليها».
مُؤكدًا هنا، أنه «ومن خلال الرؤية السردية يمكنُ للقُرّاء التعرف إلى عادات وتقاليد جديدة، مِمَّا يُعزّز من الفهم المُتبادل بين الثقافات؛ لأنّ العديد من الروايات تحتوي على دروس حياتية، وقيم أخلاقية، مِمَا يجعلها أدوات تعليمية فعّالة، وذات أهمية في إعادة تشكيل الفكر والثقافة والمجتمع، عبر تقديم رُؤى جديدة، وتجارب إنسانية، تُساهم بها الروايات في إثراء الحياة الثّقافيّة والفكريّة للقُرّاء».أمّا كيفية نَجاة الذائقة القرائية من وَهْمِ سوق الروايات العشوائية، فمن الضروري -حسب قوله- نَجاة الذائقة القرائية من وَهْم سوق الروايات العشوائية، ومن الضروري أن تستعيد هذه الذائقة مكانتها القرائية النوعية. وهذا الأمر يتطلب أيضا التفكير الناقد، المُطالَب باستراتيجية التساؤل الناجع، حتّى يكون هناك توازن بين حرية التعبير والمسؤولية الاِجتماعية، لضمان أن يظل الفن وسيلة لتعزيز القيم الإيجابية في المجتمع.
والأجدى -كما يضيف- أن تلعب أخلاقيات الكتابة الأدبية دورًا مُهمًا في تشكيل الأدب وتأثيره على المجتمع، بِمَا يتوافر -في المُمارسة الإبداعية- من أمانة في تقديم الحقائق والمعلومات، مع تجنب التلاعب بصحة الوقائع، أو تقديم معلومات مُضلِّلة، وهو ما يُجزع من مصداقية الكاتب ووَهَنه في بناء الثقة مع القُرّاء. ولعلّ الكاتب النزيه هو من يتحمل مسؤوليته تجاه المجتمع؛ لذا يفترض أن يكون الكُتّاب والمبدعون واعيا بتأثير كتاباتهم، وأن يسعوا إلى تعزيز القيم المُجدية.
وفي سياق مُتصل، يقول: «وبالنظر إلى أنّ ثقافتنا مُتَوَعِّكة، وسقيمة، فإنّ هناك دوافع تجعل من الروائي أن يخرج عن المألوف؛ بالسعي إلى تحدي القيم الاِجتماعية السائدة، من خلال تناول مواضيع تُعتبر مُرتبكة، ومُحرجة، وهو ما من شأنه أن يُثير نقاشات حول قضايا حساسة، ويُشجع القُرّاء على التفكير النقدي المُفترس؛ إذ غالبًا ما يكون عمل الروائي وسيلة لاِستفزاز مشاعر القُرّاء، مِمّا يجعلهم يتفاعلون بالمواجهة، والصدامية الشرسة، مع النص، أو مع صاحبه. ويمكنُ لهذا النوع من الاِستفزاز أن يخلق تجربة قراءة شائنة، ومُخجلة، ويترك أثرًا مُعيبًا، ووضيعًا، خاصّةً مع بعض الروائيين الذين يرون أن تناول المواضيع المستهجَنة من شأنه أن يعكس واقعًا معينًا في المجتمع».-ذات المُتحدّث أضاف-: «صحيح، أنّ تناول مواضيع غير تقليدية قد يُساهم في توسيع آفاق الرؤية السردية، وصحيح أيضا أنّ المواضيع المُثيرة للجدل تُعد وسيلة لجذب الاِنتباه، وزيادة في مبيعات الرواية؛ لكن اِستفزاز بعض الروائيين القُرّاءَ بمواضيع هجينة فنيًا كوسيلة للتحدي، من شأنه أن يُعرِّي تذلُّلَ الروائي ووضاعته أمام التاريخ؛ لذا على الروائي أن يكون واعيًا بتأثير كتاباته على المجتمع، خصوصًا إذا كان يتناول قضايا حساسة مثل العِرق، الدين، الجنس، التشهير، أو التحريض على الكراهية، أو مُناكَدَة القضايا الإنسانية». وخلص إلى القول: «وتبعًا لذلك، على الكاتب أن يحرص على عدم اِستغلال كتاباته لأغراض إيديولوجية بحتة، أو لتحقيق مكاسب لجهة ما؛ يتقصَّدها ضمنيًا، على حساب جودة العمل الأدبي وقيمته الفكرية؛ لأنّ أخلاقيات الكتابة الفنية من شأنها أن تُؤسس لبيئة إبداعية مجدية، وصحية، ويمكن من خلالها التفاعل بحرية واحترام، مِمّا يُعزّز جودة الأدب، وتأثيره الإيجابي في المجتمع».
rالكاتب والناقد محمّد الأمين لعلاونة
السّاحة الأدبيّة تعج بأعمال دخيلة على
الأدب والفن
يعتبر الكاتب والناقد محمّد الأمين لعلاونة «مسألة القيمة في الأدب اليوم أمرًا مُهمًّا؛ خاصّةً ونحنُ نعيش الرأسمالية المُتوحشة بكلّ تجليّاتها، بيد أنَّ ما هو قيمي في أدبنا العربي عامة والجزائري على وجه الخصوص قد اِختفى نظرًا لعِدّة أسباب، لعلَّ أبرزها؛ تغوّل دور النشر، التي أصبحت تهتم بالمادي على حساب الجمالي، مع غياب قانون واضح يُحدّد ما للمؤلف وما عليه، وهو ما جعل نصوصنا الروائية –مع وجود اِستثناءات طبعًا- أشبه بالمتاهات المُظلمة التي يضيعُ فيها المُتلقي».
مُضيفًا: «فالرواية اليوم لم تعد ذلك الجنس الأدبي القيمي الّذي يمنح القارئ رسالة تربوية أو جمالية يستطيع من خلالها رؤية العالم -بمفهوم لوسيان غولدمان- والاِستفادة من التجارب الحياتية والفلسفية للكُتَّاب على اِختلاف مشاربهم وهو ما جعل الفن كقيمة حياتية لا غنى عنها مُشيَّئًا –من التشيؤُ- يخضعُ لقانون العرض والطلب، فصفة الروائي التي كانت تُكتَسب بالتجربة والإبداع أصبحت اليوم مطروحة في الطريق؛ إذ يكفيك مبلغ مالي معين لتُصبح روائيًا وتعرض ما أَنْتَجْتَ في معرض الكِتّاب الدولي، فعملية الطبع في الجزائر لا تخضع للجان قراءةٍ ولا لأيّة جهة رقابية سواء كانت خاصّة أو حكومية، وهو ما جعل الدكتورة آمنة بلعلى تُشَبِّهُ الساحة الروائية العربية بالسوق الّذي لا ضابط له».
فلو سألنا أنفسنا مثلاً، -يُضيف المُتحدّث- عن أنماط الرواية الجزائرية التي تُكتب اليوم لوجدنا أنفسنا أمام إشكالية عظيمة، فهل ما يُكتب اليوم يُصنفُ في مصاف الأدب الواقعي أم البوليسي أم الاِجتماعي أم هو أدب ما بعد حداثي لا يخضع لأي تصنيف؟
ثم أردفَ: «لذلك؛ فإنَّ القارئ الجزائري اليوم مُلزمٌ بقراءة النصوص الروائية الجزائرية التي كُتِبَت فترة السبعينات وصولاً إلى بداية الألفية الثالثة حتى يُؤسس لمسافة جمالية يستطيع من خلالها تمييز جيّد الأدب من رديئه وينتقي لنفسه الأعمال الجديرة بالقراءة بعيدًا عن التفاهة المُنتشرة في الساحة الروائية الجزائرية التي أصبحت تعجُ بعديد الأعمال الدخيلة على الأدب والفن». وهذا راجع –حسب الدكتور لعلاونة- وكما أسلف الذِكر إلى دور النشر من جهة وانزواء النُقاد بعيدًا عن الساحة الأدبية واكتفائهم بالشجب والتنديد على مواقع التواصل الاِجتماعي أو عزوفهم عن مواكبة ما يصدر –لكثرته-. لتنقسم الرواية الجزائرية اليوم -حسب قوله- إلى ثلاثة أقسام رئيسية؛ قسم على قلته يكتب أدبًا قيميًّا مُلتزمًا وقسم يكتب اِبتغاء الحصول على جائزة أدبية معينة، وقسمٌ ثالث لا جنس له ولا اِنتماء يكتب من أجل اِلتقاط الصور في معرض الكِتاب الدولي وضمان طاولة يُكتب عليها: البيع بالتوقيع.
rالناقد محمّد الأمين بحري
الرواية ضحيّة راكبي أمواج وتُجار جملة!
يقول الناقد والأكاديمي الدكتور محمّد الأمين بحري: «أوّلاً من المستحيل الحكم على المادة المطبوعة والمُسوقة من المؤلفات الروائية، بأنّ لها قيمة ما، أو أنّها عديمة القيمة، لسببٍ بسيط يكمنُ في ذلك التفاوت الكبير بين تكوينيّة هذه المنجزات، في سلسلة إنتاجها، بدايةً من عملية تأليفها ونهايةً عند وجودها بين يدي القارئ».
وأضاف: «وإن أردنا أن نبدأ برأس هذه السلسلة وهو الكاتب، فنجد بأنّ الكُتّاب في حد ذاتهم مختلفون في مستوياتهم، فهناك من يمتلك الأدوات التعبيرية اللغوية، والأدوات الفنية الأسلوبية، والأدوات البنائية للفن الّذي يُمارسه، ونقصد هنا بالأخص أولئك الكُتَّاب ذوي الاطلاع القرائي الواسع والموسوعي حول فن الرواية تاريخاً وأنواعاً وجغرافياً...وقصص أعلامه وعلاقاتهم الوجودية والفكرية بالإبداع، وسيرهم الاِجتماعية، وتطور هذه المنظومة ككلّ، ثم تجد هذا النوع يمتلك مشروعاً مسطراً لا تحكمه المناسبات ولا المعارض ولا الجوائز، ولا العلاقات الشخصية، وإنّما تحكمه صنعة التأليف الروائي السائرة وفق مشروع يُزاوج بين الاِطلاع حول هذا الجنس وتحيين منجزاته الحالية في العالم، وبين مشروع هذه الفئة من الروائيين العضويين، العارفين بالميدان عالمياً وإقليمياً ومحلياً، ومتموضعين بداخله، بمشروع يعي ما أُنْجِز قبله ومن حوله، وعي مكامن الإضافة التي يمكن أن يُقدمها للسرد المحلي والقطري والعالمي».
ويعي -كما يضيف- تعاريج المسار الّذي يتدرج فيه بعيداً عن تلك المهاترات والشطحات الغوغائية العابرة التي تهز الوسط الثقافي من حين إلى آخر (عبر المواقع) فيهتزُ لها كلّ راكب للأمواج، ما عدا هذه الفئة الرصينة والعارفة بالشأن الثقافي والأدبي والفني.
والتي -حسب رأيه- «تمتلك مشروعاً، ورؤية لا تندفع ولا تهتز باِندفاعات الجموع الهائجة والموجات الرائجة، وشطحات الدخلاء وراكبي الأمواج، المندفعين في كلّ اِتجاه والمؤلفين في كلّ تخصص ومجال بلغهم ذيوع صيته بين المواقع، دون فهم ولا معرفة ولا تخصص ولا حياء ثقافي. وتراهم يملؤون المواقع والمعارض والمناسبات بثرثرات مُوجهة للتسويق دون أي أثر أو قيمة فنية أو معنوية لِمَا يسوقون».
وفي هذا السّياق، أردف قائلاً: «هذه هي الفئة المُعاكسة للفئة الأولى، تموج فيها أقلامٌ تُشبه مضامين تلك المؤلفات الاِستعراضية التي يعتمد تصميمها ومشروعها على إبراز والتسويق لصورة صاحبها بكلّ الفيلترات والتصاميم الحديثة، وحين تفتح الكِتاب المطبوع لا تجد أية هوية أدبية أو فنية أو مشروع من أي نوع، ولا حتى دراية بأصول ونوع الفن الّذي تُمارسه، نظراً لضُعف أو اِنعدام مقروئية هذه الفئة، وبالتالي ثقافتها السّرديّة، لهذا لا تسوق سوى صورة صاحبها التي تحتل الواجهة والمحتوى. الخالي من القيمة والمعنى. عدا صورة المعني الذي لا يملك في جعبته ما يُقدمه سواها. ولو اِمتلك لقدم للقارئ شيئاً آخر غير البهرجة».
ومع ذلك -يُضيف ذات المُتحدث- «نجد هذه الفئة تطبع أي شيء حين تظهر في الأُفق مناسبة ثقافية أو أدبية، أو معرضا أو جائزة، دون أن تمتلك الأدوات الفنية للفن الّذي لا تعرفه من الأساس ولا تقرأه، ولا تُفرق بين جنس وجنس، فتكتب أي شيء تحت عنوان الرواية فقط لركوب موجة جنس رائج، بل وفي أحيان كثيرة لا تمتلك هذه الفئات (من راكبي الأمواج العابرة بلا متاع) حتى اللّغة التي تُعبِر بها. ومع ذلك تجدها حاضرة في كلّ مناسبة وتحت الطلب في كلّ حين، وحين يفتح القارئ أعمالها، يجد أنّ العمل غير مُراجع ولا منظور إليه بتدقيق لغوي أو فني، لا من طرف صاحبه ولا من طرف ناشره».
وهُنا -بحسب الدكتور بحري- سنجد في وسط السلسلة، ناشرون يشبهون النوعين السابقين من المؤلفين، ناشرون طارئون على السوق، ينشرون أي كلام تحت أي مسمى، دون تدقيق ولا قراءة ولا أهمية عدا تحصيل أكبر عدد من المطبوعات لدخول المناسبات الثقافية برزمة كمية وغاية ربحية، بذهنية تُجار الجملة (les grossistesculturels )، وحوانيت النشرـ دون تقييم لا للكاتب ولا للكِتاب ، ولا للقارئ الّذي يبيعونه سلعتهم. المُغلَّفة مجهولة المحتوى.
بينما هناك ناشرون -يُضيف المُتحدّث- يُعدون على أصابع اليد الواحدة، من يُمحصون ويصرفون ميزانيات كُبرى على فِرق من المُدققين المُختصين في كلّ مجال علمي أو أدبي أو فني ينشرون فيه، وتمتلك فرقاً من المُدققين اللغويين، وتُراسل مُتعامليها من الكُتّاب، بنتائج التدقيق، وتُعيد لهم تقارير الخُبراء، وتنصحهم في مواطن الخلل والضُعف، وتوجههم نحو المُحررين في مواطن العجز أو الزلل، وتختار أعمالها برؤى اِستشرافية، وفق القيم الفنية المنظورة ووفق إستراتيجيتها، وقد تخسر في كلّ عمل ما يفوق قيمته الآنية أثناء النشر، لكن منظورها البعيد لمستقبل هذا العمل الإبداعي أو الفني، يجعلها تنخرط في إنجاحه بكلّ أنواع الدعم، وفق رؤية إستراتيجية للخُبراء والفنيين الذين تتعامل معهم، لذلك تصنع دور النشر قيمة لكُتَّابها، ومُنجزاتها، وفي النهاية قيمتها هي في سوق الثقافة، بتاريخها في نشر الأعمال المؤثرة في الساحة الثقافية والأدبية على كلّ المستويات المحلية وحتى العالمية.
صاحب «الأسطوري: التأسيس والتجنيس والنقد»، اِختتم قائلاً: «وإذ نصل إلى القارئ وهو آخر حلقات هذه السلسلة، فإنّه، رغم الغش والاِحتيال والتزييف الّذي يعيشه، وكلّ مظاهر التردي التي تعتريه، من طرف أصحاب فئة تُجار الجملة، من حوانيت النشر، وفئة الكُتّاب من (راكبي الأمواج)، إلاّ أنّه بعد تجربة قراءة طويلة يكون قد دفع فيها ثمناً باهظاً من المال والوقت المهدورين، سيصل أخيراً إلى ذلك النبع النقي والكنز المستهدف الّذي يُناسب غايته من القراءة، فيزيح الغثاء ليعثر على غذاء عقله وذائقته الفنية، ليندمج –بعد رحلة تيه في سوق الكِتاب- ضمن تلك الفئة الأصيلة والصفوة القليلة من الكُتّاب ذوي المشروع الفني الراسخ، والناشرين ذوي المشروع الثقافي الناجح، لأنّه هو أيضاً قارئ مُثقف، صاحب مشروع، تتحدّد قيمته بقيمة ما يقرأ. وما يضحي به من وقت ومال وجهد».
rالناقد عبد الحميد ختالة
فن الرواية يواجه استسهالا في الكتابة وعشوائية في النّشر
يُؤكد الناقد والأكاديمي الدكتور عبد الحميد ختالة، أنّ الدرس النقدي يتّفق على أنّ جنس الرواية قد هيمنَ في السنوات الأخيرة بشكلٍ بارز على دوائر شاسعة جدًا من مساحات الإبداع، وهذا أمر طبيعي كون أنّ الكثير من الوافدين على هذا الجنس لم يتكلفوا الكثير من المؤهلات الإبداعية في مؤلفيه، بل وطّنوا في أذهانهم أنّ النص الروائي لا يكلّف كاتبَه بنياتٍ نمطية لا يستقيم شكل الرواية إلاّ بها مثل غيره من الأجناس الأدبية.
مُضيفًا: «ومن أجل ما سبق وغيره أجد أنّ الكثافة الإبداعية في جنس الرواية بالذات هي وضع ثقافي مضطرب جدير بالقراءة، سيّما وقد تحكّمت فيه جُملة من العوامل المُنتجة للحكي تتموضعُ خارج العملية الإبداعية».
وفي ذات السّياق، يقول: «إنّ الجدير بالمعرفة هو أنّ الرواية هي الحياة، وإنّ الحياة التي يتعتقُ بها سحر الحكي الروائي أكبر من أن تُترجمه حالة نفسيّة عابرة أو تجربة غراميّة خاطرة، إنّ الرواية أكبر من أن تسرد حالة تصرّمٍ يعيشها العُشّاق في ليلة تهامس إلكتروني، الرواية التي هي الحياة هي في الحقيقة أوسع وأعمق من كل هذا».
الدكتور ختالة، واصل قائلاً: «الحق أنّ حالة من الاِستسهال أمست تُعانيها الكتابة الروائية في الجزائر، وقد دخل عالم التأليف الروائي جيلٌ من الشباب ألهتهم غواية الحكي وأغرتهم أضواء الشهرة عن تطوير أدوات الكتابة لديهم، فأنتجوا لنا نصوصًا أقرب إلى حكايا الخواطر وقصص الصبيان منها إلى فن الرواية، وقد أسهمت جُملة من العوامل في اِستفحال هذه الظاهرة، منها ما يتعلق بدور النشر التي شجعت الجميع على الكتابة والنشر بلا تدقيق لغوي ولا اِستشارة فنية، ومنها ما يتعلق بالمُجاملات النقدية التي كرستها وسائط التواصل الاِجتماعي فنفخت كُتّابَ نصوص بلا هوية أدبيّة حتى راحوا يُطاولون صولة الأدباء الكِبار».
-ذات المُتحدّث-، يجد أنّ هناك عوامل أخرى كثيرة أسهمت في اِستسهال القوم فن الرواية، وانتشار سوقها العشوائي، منها تلك السقطات المدويّة التي سقطها من كان يحسبهم الدرس النقدي أدباء مكرَّسين. وأنّ الوضع البائس جدًا الّذي تهاوت إليه بعض النصوص الروائية لأدباء كنا نحسبهم كبارًا أثّرت سلبًا على قداسة الحكي الروائي. وكأنّ بالدرس النقدي ضليع بل ويحمل المسؤولية الكاملة في سقوط تاج الحكي من الرواية الجزائرية.
وخلص إلى القول: «إنّ عوالم الحكي الروائي في الجزائر ليست على ما يُرام، والحال هذه وجب تفعيل خاصيّة الاِنتقاء الدقيق لِما نقرؤه من روايات، وهنا أشدّد على دُور النشر، التي أحسب أنّ لها دَورًا عظيمًا في رسم ملامح الرواية في الجزائر، أن تتحمل مسؤوليتها الثّقافيّة فيما تُقْدِم على نشره، وأن تُقلص من شغفها المادي أمام مسؤوليتها التّاريخية في صناعة المشهد الثقافي في الجزائر».
rالأكاديمي والمُترجم محمّد داود
يجب إعادة النظر في العملية الأدبية بمختلف مراحلها
يرى الأكاديمي والمترجم، الدكتور محمّد داود أنه: «عندما نتحدث عن سوق الكِتاب الأدبي على وجه الخصوص لا بدّ من الإشارة قبل كلّ شيء إلى أنّ العملية الأدبية تمر بثلاث مراحل، وهي أوّلاً: مرحلة الإنتاج التي يُشارك فيها المُؤلف والناشر بمختلف أنشطته، ثم ثانيًا: التسويق والترويج وهي من مهام المكتبي والإعلامي، ثم ثالثًا وأخيرًا: مرحلة الاِستهلاك، وهذه المرحلة تخص القارئ بالدرجة الأولى، وهذا النوع من القُرّاء هو المُستهدف في كلّ المراحل، إلاّ أنّ القُرّاء أنواع وأشكال. ويمكن تصنيف القُرّاء إلى قارئ (ساذج) وهامشي، يُقْبِل على اِقتناء الكِتاب الأدبي وهو لا يملك إلاّ الرغبة في اِكتشاف شيئًا ما، يحدوه في ذلك الفضول المعرفي أو البحث عن الترويح عن النفس».
وهو قارئ -حسب رأيه- لا يُعوَّل عليه لكونه قد يقع على نصوص جيّدة وعلى نصوص لا تملك كلّ الخصائص الفنية.
ومواصلاً في ذات المعطى، يُضيف: «وقارئ فطن، يملك ثقافة مُعتبرة عن الحقل الأدبي باِحتكاكه بالوسط الثقافي ومُتابعته لِمَا يُنشر من نصوص روائية وشِعرية، وهو القارئ الّذي يُعوّل عليه، لأنّه جزء لا يتجزأ من الديناميكية الثّقافيّة، يُقْبِلُ على اِقتناء الكِتاب الأدبي بوعي كبير، يُميزُ بين النص الجيّد والنص الرديء».
ثم يأتي في المرتبة الثالثة، القارئ المُتخصّص. وهو -بحسب قوله- «في غالب الأحيان من المُتابعين الجادين لتحوّلات الحقل الأدبي، يملكُ رؤية نقدية صارمة ومنهجية دقيقة حول النصوص التي تُنشر في كلّ مرحلة من المراحل التّاريخيّة. وقد ينتمي هذا النوع من القُرّاء المُتخصِّصين، إلى حقل الإعلام الثقافي أو إلى الحقل الأكاديمي. ويلعبُ القارئ المُتخصّص دورًا حاسمًا في توجيه القُرّاء نحو النصوص الجيدة وإنارة دربهم في اِقتناء الكُتُب».
وهُنا يستدركُ مُوضحاً: «وعندما نُعاين الساحة الثّقافية، نجد أنّ الحلقة الأضعف فيها تكمنُ في حلقة الترويج والتسويق، لأنّها تُمثل بوصلة القارئ بمختلف أنواعه وأشكاله، تُوجهُهُ وتُساعدهُ على خوض غمار القراءة بعزمٍ وثقةٍ كبيرة».
والسؤال الّذي يطرح نفسه بإلحاح في هذا المجال، -حسب الدكتور داود-، هو: «لماذا هذا الضُعف وهذه النقائص في حقلنا الثّقافيّ؟
هُنا أردف: «لعلّ نظرة بسيطة إلى مسائل الثّقافة في بلادنا يجعلنا نُثير مسألة أساسيّة تتمثلُ في غيابٍ شبه تام للمنابر التي تهتمُ وترعى الأدب من مجلات وجمعيات ثقافيّة. مع التراجع الكبير لمهنة المكتبي، إذ أنّ الكثير من المكتبات تمَّ إغلاقها أو تحويلها إلى نشاطات اِستهلاكية أخرى، هذا بالإضافة إلى غياب النص الأدبي الجزائري في المؤسسة التربوية وعدم تحفيز الناشئة على الإقبال على المطالعة لتكوين حاسة نقدية وجمالية لديهم...».
مُضيفاً في الأخير: «كلّ هذه النقائص التي أشرنا إليها يُضاف إليها طغيان الشبكات الاِجتماعية والرقميّة، جعلت المجتمع بمختلف فئاته لا يُقْبِل على المُطالعة إلاّ قليلاً، ومن يسعى إلى ذلك قد يقع على نصوص أدبية لا تملك كلّ المواصفات الجمالية والموضوعاتية، ما يعني أنّنا بحاجة إلى إعادة النظر بشكلٍ شامل في العملية الأدبية بمختلف مراحلها وبخاصة في المرحلة الثّانية منها وهي مرحلة الترويج والتسويق للكِتاب حتّى نضمن توجيهًا جيِّدًا للقارئ (الساذج) منه والفطن والمُتخصّص».
rالناقد والمترجم محمّد تحريشي
شيوع الروايات التجارية يؤثّر على الروايات ذات القيمة
يقول الناقد والمُترجم الدكتور محمّد تحريشي، من جهته، إن موضوع الرواية بين القيمة الفنية الجمالية وسوق القراءة مهم ومثير للعناية والاهتمام، وتتضافر فيه عِدة جوانب كالقيمة الأدبيّة للرواية من بناء درامي وتطوّر الشخصيات ونموها والأسلوب والبناء اللغوي والبُعد الفكري والقدرة على إثارة التساؤلات من جهة، ومن جهة أخرى يتعلق بمدى اِنتشار الرواية وذيوعها عند القُرّاء وإقبالهم على اِقتنائها؛ مِمّا يُحرك الجانب التسويقي لها في المعارض والمكتبات».
مُضيفاً في ذات المحور: «مع العِلم قد توجد روايات ذات بُعد فني وفكري وجمالي ومع ذلك لا تُحقّق وجودًا تجاريًا، وفي الوقت ذاته قد تُحقّق بعض الروايات مبيعات مُهمّة في السوق على الرغم من ضحالتها الفكرية والفنية؛ لا لشيء إلاّ أنّ الترويج لها كان لأسباب غير فنية كالشللية والميل العاطفي والإيديولوجي، أو من باب تكريس الرداءة والتفاهة لتغيير الذوق الجمالي العام وإفساده».
لعلّ المرغوب فيه -حسب رأيه- هو الوصول إلى توازن بين القيمة الأدبية والاِنتشار التجاري بالوصول إلى المحتوى الجيد الّذي ينجذب إليه القُراء، مثلما حققه غارسيا ماركيز ذلك بروايته «مئة عام من العزلة». مشددا على دور النقّاد في تحقيق هذا التوازن.
ذات المتحدّث، واصل قائلاً: «لا نُجانب الصواب إن قُلنا إن ليس كلّ ما يُسوَّق من روايات يتمتعُ بقيمة فنّية أو جمالية عالية. بل هناك تفاوتٌ كبير بين الروايات من حيثُ الجودة الأدبية والقيمة الجمالية، وبعض الروايات التي تُحقّق نجاحًا تجاريًا قد تفتقر إلى العُمق الفني أو الاِبتكار الأدبي، بينما قد تجد روايات ذات قيمة فنيّة عالية لا تُحظى بشهرة كبيرة أو اِنتشارٍ واسع. من ذلك أنّ بعض الروايات حقّقت حضورًا قويًا سنة طبعها ثم اِنصرف عنها القُرّاء، وهناك روايات كُتِبت ونُشِرت واحتاجت لبعض السنوات ليلتفت إليها القُرّاء بعد ذلك، وينصفونها وينصفون كاتبها».
وبعض الكُتّاب أيضا -كما يضيف- حقَّقوا حضورًا باهرًا من خلال روايتهم الأولى ثم جفّ عنهم روح الإبداع؛ من ذلك مارغريت ميتشل، مؤلفة رواية «ذهب مع الريح» (Gone with the Wind)، لم تكتب أي رواية أخرى بعد ذلك. وكاتب ياسين في روايته «نجمة» والّذي تحوّل إلى الكتابة المسرحية.
و-حسب رأيه دائماً- «لعلّ شيوع الروايات التجارية التي تركز على مُتطلبات بعض القُرّاء كالبساطة في الطرح وإثارة العواطف والاِبتعاد عن الاِبتكار وقوّة التسويق والدعاية، يُؤثر سلبًا على اِنتشار الروايات ذات القيمة الفنية العالية والطرح الفكري العميق والمُعقد».
ومُستدركًا أضاف: «ولكي يتجنب القارئ الوقوع في قراءة نصوص لا ترقى إلى مستوى القراءة الجادة أو المفيدة؛ عليه بالتعرف على الكُتّاب الجيّدين بكثرة القراءة والمُطالعة ومُتابعة حركة الكتابة الإبداعية والنقدية متابعة عن قُرب، والاِبتعاد عن الميل العاطفي والاِنجذاب الأيديولوجي والاِنحياز الجغرافي، والاِعتماد على المراجع الموثوقة. وأن يتقبل أنّ من حقه التوقف عن قراءة كِتاب إذا شَعَرَ أنّه لا يُقدم ما يستحق وقته واهتمامه. ويجب أن يشعر القارئ بالحرية في التوقف إذا لم يجد قيمة فيما يقرأ».
واختتم بقوله: «إنّ نجاة الذائقة القرائية من وهم سوق الرواية العشوائية يتطلب وعيًا مُستمرًا لدى القارئ للتمييز بين الروايات القيمة والجيدة وغيرها من الروايات التي تتصف بالسطحية والعشوائية التي تُفسد الذوق والطباع والجمال. ولن يتأتى ذلك إلاّ بكثرة الاِطلاع والقراءة المُوجهة للنصوص الراقية المُتفق على جودتها، والاِنغماس في نقاشات مع المبدعين والنُقاد حول موضوع الإبداع».