الثلاثاء 15 أكتوبر 2024 الموافق لـ 11 ربيع الثاني 1446
Accueil Top Pub

مجازر17 أكتوبر 1961: تلـــك صــورتكــــم.. وهــــذه ذاكــــرتـنـــــــا!

تُحيي الجزائر هذا الخميس، الذكرى 63 لأحداث ومظاهرات 17 أكتوبر1961، والتي حدثت فيها مجازر وجرائم ضد المهاجرين الجزائريين في فرنسا، وحتى وإن تقادم بها الزمان فلا يمكن أن تسقط من الذاكرة، رغم المحاولات البائسة التي تتولاها «النيوكولونيالية» وعرابيها سواء من الفرنسيين، أو بعض «المثقفين» من الذين يرتدون القناع الأبيض الذين ازدهرت تجارتهم، هذه الأيام في وسائل الإعلام الفرنسية.فما الّذي يمكن اِستحضاره أو قوله في مجازر غير قابلة للنسيان، وفي إحدى أبشع الجرائم التي اِرتكبتها فرنسا الاِستعمارية في القرن العشرين. ذكرى أحداث ظلت دامية في الذاكرة الشعبية الجزائرية، وبشكلٍ آخر وبنية سياسية مبيتة ظلت مُغيبة في باريس وفي الذاكرة الرسمية الفرنسية.

تعود ذكرى أكتوبر الأسود، ومعها تعود صور الوحشية التي لا يمكن أن تطمسها وسائل وأدوات وآلات المحو والحذف، ومعها القمع المُرعب الّذي مارسته الشرطة الفرنسية ضدّ المهاجرين الجزائريين.  هذا القمع الّذي كان، حسب بعض المؤرخين البريطانيين، (مثل جيم هاوس ونيل ماكماستر)، غاية في الضراوة والوحشية، وقد وصفا ما تعرض له الجزائريون يوم 17 أكتوبر في كتابهما «الجزائريون، الجمهورية ورعب الدولة»، بأنّه «أعنف قمع لمظاهرة في أوروبا الغربية في التاريخ المعاصر». حول هذا الشأن «ذكرى أحداث/ومظاهرات 17 أكتوبر1961». كان ملف هذا العدد من «كراس الثقافة»، مع مجموعة من الأساتذة والدكاترة الباحثين المختصين في التاريخ، الذين استرجعوا هذه الأحداث من سياقات الذاكرة التاريخية، وتحدثوا عنها اِنطلاقا من مرجعياتهم المعرفية التاريخية.

الأستاذ والباحث محمّد بن ساعو
صورة تعكس الوحشيّة والعنصريّة

يُؤكد الدكتور محمّد بن ساعو (أستاذ وباحث أكاديمي في التاريخ)، أنّ مظاهرات 17 أكتوبر 1961 بباريس، شكّلت علامة فارقة في مسيرة النضال الجزائري ضدّ المُستعمر، وأنّ هذا الحدث المُهم لم يأتِ هكذا دون مقدمات، بل كان نتاج عملٍ عميق قامت به جبهة التحرير الوطني التّاريخية، منذ أن فتحت جبهة ثانية في الضفة المُقابلة أو ما يُسمى بالولاية السابعة، وفي ظرف حساس ودقيق من مسيرة الثورة التحريرية 1954-1962 شهد تقدمًا ملحوظاً للمفاوضات بين طرفي الحرب، وفي واحدة من كُبريات العواصم العالمية التي تشهد حضوراً مُهمًا للمهاجرين الجزائريين والشمال إفريقيين، وحضوراً إعلاميًا بارزاً، يمكن أن ينقل صوت الحرية الّذي يتغنى ويُنادي به المُتظاهرون إلى كلّ بقاع الأرض.
وأضاف: «على صفحتها الأولى، كَتَبت صحيفة (باريس–جور) يوم 18 أكتوبر1961: (عشرون ألف جزائري يحتلون الشارع)، مشيرةً إلى الأحداث التي رافقت المُظاهرات في مُختلف الأحياء الباريسية وفي ساحة الجمهورية التي وَفَدَ إليها الجزائريون من المدينة والضواحي، بعد تنسيقٍ دقيق وتنظيمٍ مُحكم من الجبهة في مقاطعات باريس، وبقدر تحقيقها لأصداء إعلامية لافتة كما يُشير (علي هارون)، إلاّ أنّ المظاهرات اِنجر عنها قمعٌ خطير مُوِرس ضدّ الجزائريين، حيثُ كان الخيار الّذي تَبَنَّتْهُ القِوى الأمنية الفرنسية قاسيًا عَكَسَ وحشية الدولة الاِستعمارية، رغم أنّ الخروج للتظاهر يوم 17 أكتوبر 1961 كان خطوة من ضمن إستراتيجية ضبطتها فدرالية جبهة التحرير بفرنسا كرد فِعل على قرار فرض حظر التجول ليلاً على الجزائريين، باِعتباره قرارًا أقل ما يُمكنُ وسمه أنّه عنصري». مُضيفًا في ذات النقطة: «لم يكن نقل المعركة إلى الداخل الفرنسي فكرة جديدة أو مُستحدثة بهذه المناسبة، لكن المظاهرات أبانت عن قوّة الشبكة التي تمكنت الجبهة من حبك خيوطها ورصد معالمها، بِمَا يسمحُ بتجنيد الطاقات الحية التي يكون لها الدور في الحشد والمُواجهة السلمية، لتبليغ صوت الحرية موازاةً مع العمل المُسلح في الداخل الجزائري، والّذي كان بحاجة إلى دعم مُتعدّد الجبهات في الداخل والخارج ليصمد أمام الآلة الاِستعمارية».ومُستدركًا قال: «يُقدم الحدث المُستذكر دروسًا في النضال ومسارات التحرّر وبطولات الشعب الجزائري، لكنّه يُقدم أيضًا دروسًا بليغة في اِرتباط الجزائري أينما حل بوطنه وبقضايا شعبه، حينما يكون الجزائري مغتربًا فإنّه يعتبر نفسه جزائريًا بعيداً عن بلده، صحيح أنّه سريع الاِندماج في البيئة المُستقبلة وفاعل فيها، لكنّه لا يُفرطُ إطلاقًا في اِنتمائه وحبه لوطنه واستعداده للموت من أجله، وما اللوحات النضالية التي صنعتها أحداث 17 أكتوبر إلاّ دليلٌ قاطع على ذلك».
هذا الاِرتباط المتين بين الجزائري ووطنه -حسب رأيه- ظلَ مُستمراً مع أجيال الاِستقلال، ولا غرابة أنّ المولودين بفرنسا اليوم لأبوين مولودين بفرنسا أيضًا مازالوا يُقدمون أنفسهم على أنّهم أيضا جزائريون، يحملون الرايات الوطنية ويُشجعون الفريق الوطني تمامًا مثلما يفعل أولئك المولودون في تيزي وزو أو ورقلة أو سيدي بلعباس أو قسنطينة، يهتمونَ لأخبار الجزائر ويُتابعون تفاصيلها ويتفاعلون مع الأحداث التي تَمُرُ بها. وفي الأخير خلص إلى القول: «الجزائر اليوم بحاجة إلى اِستغلال كامل طاقاتها المغتربة، مثلما كانت بحاجة إليهم بالأمس عندما قاموا بدورهم النضالي على أكمل وجه وضغطوا على المُستعمر في عقر داره، فإنّها اليوم أيضا بحاجة ماسة إلى اِستقطاب الكفاءات العلمية والمالية وحتّى السياسية، بِمَا يُؤهلها لتحقيق النهوض الاِقتصادي والاِنفتاح السياسي، موازاةً مع الحاجة لمفهوم مُستحدث للمواطنة بالنسبة للجزائري مُتجاوزاً الطرح الضيق للوطنية بعيداً عن الاِبتذال، ما يُتيحُ شكلاً من المواطنة المُنفتحة التي من شأنها الاِستفادة من الخبرات الجزائرية في مجالات مُتعدّدة واستقطاب رؤوس الأموال في الاِستثمارات الوطنية».

أستاذ التاريخ والباحث مراد سعودي
مظاهرات كشفت فرنسا أمام العالم

يقول الدكتور مراد سعودي: «مر الكفاح الجزائري بمحطات كثيرة، أثبت فيها مدى شعبيته وتمسكه باِستقلال أرضه، خاصةً زمن الاِستعمار الفرنسي الّذي واجه الكثير من المقاومات الشعبية بزعاماتها الفذّة، مروراً بنخبتها التي حدّدت معالم الحركة الوطنية لتُنظم طاقاتها الشعبية في ثورة الفاتح من نوفمبر1954 التي عدّدت مظاهر النضال الرائع، وقد شكلت مظاهرات 17 أكتوبر1961 بفرنسا إحدى محطاتها على الصعيد الخارجي».
وواصل مُوضحاً بعض تفاصيلها: «ترجع أسباب قيام هذه المظاهرات لتاريخ 5 أكتوبر1961، عندما تمّ اِتخاذ تدابير بمنع حرية تجول المهاجرين الجزائريين، بعد أن طالب مجلس الوزراء الفرنسي من وزير الداخلية إعلانًا للرأي العام جاء فيه: «يمنع على العمال الجزائريين التجول ليلاً بين الساعة الثامنة والنصف ليلاً إلى الخامسة والنصف صباحًا في شوارع باريس والضواحي الباريسية»، وذلك لأنّ كلّ أخبار الثورة والمُفاوضات كانت قريبة من مسامع الجزائريين والذين سيتفاعلون معها داخل إطار مُنظم هيكلته فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا».
وفي ذات السّياق أضاف: «رداً على هذا القرار، حدّدت الجبهة أماكن للتظاهر مثل: ميدان الأوبرا بباريس وشارع شارل ديغول والأحياء الكُبرى مثل الحي اللاتيني ومنطقة سجن الباستيل، وهذا إشارة لتحرير المساجين. حملت هذه المظاهرات شعارات محدّدة منها: (الجزائر المُستقلة-تحيا الجزائر- الحُكم للجبهة)، وإذا تدخلت الشرطة لتفريق المتظاهرين يكون ردهم: (حرروا المساجين-حرروا الجزائر)، كما رُفِعَ العَلم الجزائري الّذي لم تدعُ الجبهة صراحةً لرفعه لكن الحماس الوطني كان أقوى، ومن الذين قاموا برفعه المجاهد (بن عريبي الحبيب) الّذي توفي في اليوم الثاني للمظاهرات. التي رافقها قيام المتظاهرين بأكثر من 56 عملية تخريبية للمنشآت الفرنسية وشن حوالي 224 هجوماً على مصالح فرنسية وتصفية جسدية للخونة، كتصفية الخائن (علي شكال) في الملعب بالمنصة الشرفية للرئيس الفرنسي وقد نفذها المجاهد (محمّد صدوق)».
وأردف قائلاً: «رد الفرنسيون بأن أدموا المتظاهرين جراء الضرب بالعصي على الرؤوس، ناهيك عن جرمهم البارز الّذي شهد عليه (نهر السين) بباريس، أين تمّ رمي مئات الجزائريين وأيديهم وأرجلهم مكبلة. جرمٌ لا يمكن نسيانه بالتقادم، وقد تلوّنَ حينها النهر بدماء الجزائريين، كما شُنِق العديد في غابة (فانسان) واُعتُقل أكثر من 11.538 وساقتهم السلطات الفرنسية إلى مراكز التعذيب والاِستنطاق ليتم تحويلهم إلى المُحتشدات في الجزائر، ناهيك عن المفقودين الذين بلغ عددهم أكثر من: 400، ومحاصرة الطلبة واعتقالهم وإيقاف نشاط جمعياتهم، غير أنّ الصحافة الفرنسية حافظت على اِحترافيّتها في التزوير كـ(الصباح الباريسي) التي أعلنت عن سقوط ضحيتين نتيجة تصفية حسابات بين شمال إفريقيين، ومحاولة من فيدرالية جبهة التحرير بفرنسا لتطويق باريس بهدف عرقلة المُفاوضات الفرنسية الجزائرية».
مُؤكداً أنّ هذه المظاهرات رسّخت أبرز معالم الثورة على أنّها ثورة شعبية وأنّ الوطن مهما كان وضعه يسترجع أبناءه وأنّه مُمتدٌ معهم في أرض المهجر، كما أسهمت في إيصال صدى الثورة للعالم وأنّها قضية شعب يُناضل من أجل نيل حريته، وكشفت الوجه الحقيقي لفرنسا ومدى تأصل الإجرام والعنصرية في تاريخها وتقاليد حُكامها. وهذا ما كان واضحًا من تنصيب «موريس بابون» مُحافظًا للشرطة في باريس. ويُمكننا -كما يُضيف المتحدث- أن نستنتج العديد من أمثلة الهمجية في السياسة الفرنسية الإجرامية ضدّ الجزائريين، وأنّ الهمجية أصلٌ في حُكامها.
مُختتمًا بقوله: «أكدت هذه المظاهرات على اللحمة الشعبية بين من في الوطن ومن في المهجر، فبعد شهر واحد قامت الفيدرالية بإعلان الإضراب عن الطعام من قِبل المعتقلين في السجون في فرنسا. وفي في سجون الجزائر ليدوم 20 يومًا، وقد لقيَ بالفعل صداه في هيئة الأُمم المُتحدة التي طالبت فرنسا بضرورة الاِعتراف بحقوق المعتقلين الجزائريين، وضرورة إيجاد حل سياسي، ما شوش كلّ نشاطات مُمثل فرنسا (أرموند بيرار)، غير أنّ الحكومة المؤقتة قد غطت مجريات الإضراب من خلال وزارة الإعلام التي يمثلها (أمحمد يزيد) بتونس ومُمثل الحكومة في نيويورك (عبد القادر شندرلي) في تدويل القضية الجزائرية وكسب الرهان لصالحها وهذا بصدور لائحة أُممية بتاريخ 15 نوفمبر1961 تُؤكد على تقرير مصير الشعب الجزائري، وبهذا عكست المظاهرات تمجيد بطولات الجالية الجزائرية في المهجر ومدى اِرتباطها بوطنها وبسالتها في الدفاع عنه».

الأستاذ والباحث فؤاد عزوز
عقود من التعتيم لم تطمس الجريمة

يقول الباحث في التاريخ الحديث والمعاصر الأستاذ فؤاد عزوز: «لم ينسَ الجزائريون بعد (63) عامًا أحداث 17 أكتوبر، التي راح ضحيتها المئات من المهاجرين الجزائريين العُزل الذين تظاهروا سلميًا في العاصمة الفرنسية باريس، على يد أجهزة الأمن الفرنسية، ففي تلك المرحلة الحساسة من تاريخ ثورة التحرير الكُبرى دعت جبهة التحرير الوطني آنذاك المهاجرين إلى الخروج في مسيرات سلمية، اِحتجاجًا على قرار حظر التجول، وهو القرار الّذي أصدرته الحكومة الفرنسية ضدّ مسلمي فرنسا والجزائريين بالخصوص».
وفي ذات الشأن، أضاف: «خرج الجزائريون الذين قُدِر عددهم بعشرات الآلاف، وهناك بعض المصادر التاريخية تُشير إلى رقم 65000 ألف جزائري إلى شوارع باريس، واعتبر أنّ رد الفِعل هذا هو تلبية لنداء جبهة التحرير الوطني رغم منع الشرطة الفرنسية في باريس، بحيث تؤكد المصادر أنّ الأخيرة أعطت الأوامر لاِستعمال القوّة في دحر المتظاهرين السلميين، والتي اِستقبلتهم آلة العنف في الشوارع الكُبرى حسب روايات شهود عيان خلال تلك الأمسية، وكان تبرير الشرطة الباريسية أنّ المظاهرات لم تأخذ الموافقة القانونية. وتُشير سجلات الشرطة الفرنسية إلى أنّ (موريس بابون) نفسه دعا الضُباط في إحدى المراكز إلى قمع المظاهرات واستعمال القوّة، بحيث أكد لهم ضمان الحماية من المُلاحقة إذ هُم شاركوا في تلك العمليات القمعية».
ونتيجةً لكلّ ذلك -يواصل المتحدث-، حدثت الإصطدامات الأولى في شارع سانت ميشيل، وشارع سانت سيفرين، وشملت الأحداث بعد ذلك كلّ ضواحي باريس، وكانت الآلة القمعية للشرطة الفرنسية في غاية الوحشية، فما حدث للمتظاهرين الجزائريين جريمة كبيرة بشهادة المؤرخين والباحثين. وبحسب ذات المتحدث، وموازاةً مع تلك الأحداث، قامت الشرطة الفرنسية باِعتقال أكثر من عشرة آلاف جزائري، وتمّ اِحتجازهم في مراكز الشرطة وفي محتشدات أُقيمت خصيصًا لهم وفي قاعات الرياضة، بحيث تعرضوا للاِستجواب الّذي رافقته الإهانة والضرب والتعذيب الّذي وصل إلى الاِغتيال، وفي الأيّام التي تلت ذلك قامت السلطة الفرنسية بترحيل آلاف العمال المهاجرين الجزائريين من باريس نحو الجزائر. وقَدّر المؤرخون الجزائريون -كما يضيف- أنّ عدد ضحايا قمع تلك المظاهرات، يتراوح من 300 إلى 400 قتيل، أمّا المؤرخ الفرنسي، جون كلود إينودي، فيقول في كتابه «معركة باريس» إنّ: «أكثر من 100 إلى 150 جزائريا قتلوا أو اختفوا قسراً في أحداث 17 أكتوبر».
مُشيراً في هذا المعطى، إلى المغالطات الفرنسية بشأن هذه المظاهرات، يقول: «السلطات الفرنسية ذكرت آنذاك من خلال تقاريرها الرسمية أنّ ضحايا الأحداث ثلاثة أشخاص فقط، توفي أحدهم بسكتة قلبية، وبالتالي كانت تلك الأحداث على المستوى الرسمي الفرنسي بباريس بواقع اللاحدث، وحتّى وسائل الإعلام الفرنسية لم تُولها أهمية، وهو ما يُبين لنا تواطؤ الإعلام الفرنسي مع قمع الشرطة في باريس، الأمر الّذي مازال يطرح العديد من التساؤلات».
وخلص إلى القول: «طيلة عقود طويلة بقيت عمليات قمع تلك المظاهرات خاضعة للتعتيم، إذ منعت الحكومة الفرنسية نشر كِتاب يبحث في أحداث المجزرة وكذلك الصور الفوتوغرافية القليلة للأحداث، بيد أنّه في عام 1998 اِعترفت السلطات الفرنسية بالمذبحة، وتحدثت فقط عن 40 قتيلاً. وفي عام 2001 أي بعد مرور أربعين عامًا على تلك المذبحة قام عُمدة مدينة باريس بوضع لوحة لإحياء ذكرى المذبحة في شارع سانت ميشيل، ورغم كلّ هذا مازال العدد الحقيقي لضحايا تلك المظاهرات مُغيبًا عن الوثائق الرسمية والدراسات الأكاديمية».

الباحث وأستاذ التاريخ هشام ذياب
جرائم تحرج الفرنسيين لأنها وقعت على أراضيهم

يقول الدكتور هشام ذياب (أستاذ وباحث أكاديمي في التاريخ) إن: «ما حدث في مثل هذا اليوم من عام 1961 (أي عامًا قبل الاِستقلال) مازال وصمة عار على جبين فرنسا، ليس فقط لهول ما حدث من قتل للجزائريين بعشوائية، لكن لعدم الاِعتراف بالمجازر من طرف السلطات الفرنسية، بل وعملها طيلة هذه السنين على إخفاء ما حدث والتستر عليه في محاولة لمحو آثار الدم الّذي تلوّن به نهر السين في باريس، لكن التاريخ يأبى النسيان والحقائق تنكشف من عامٍ لآخر لتضع المجرمين وجهًا لوجه أمام إجرامهم».
مضيفاً في ذات السّياق: «تُوصف هذه الأحداث بالمجزرة التي اِرتكبتها فرنسا ضدّ متظاهرين جزائريين خرجوا في اِحتجاجات سلمية ضدّ قرار حظر التجول الّذي فُرِضَ عليهم دون غيرهم، أين أصدر مُحافظ الشرطة بباريس (موريس بابون) بتاريخ: 05 أكتوبر1961 أمراً بحظر التجول أمام مسلمي فرنسا، وهو ما اِعتبره المهاجرون الجزائريون قانونًا عنصريًا صارخًا يهدفُ إلى تضييق الخناق على الثورة في ظل فرض فيدرالية جبهة التحرير الوطني ضغطًا كبيراً بنقلها للثورة إلى أرض العدو». كما يُعتبر الحدث -حسب المتحدث- جانبًا من جوانب النضال الوطني والثوري لشريحة من الشعب الجزائري، وهي شريحة المهاجرين الجزائريين بفرنسا التي خرجت يوم الثلاثاء 17 أكتوبر1961 بجميع شرائحها (رجالاً–نساءً وأطفالا)، بأمر من فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا للتظاهر السلمي في شوارع وساحات العاصمة الفرنسية باريس للتعبير عن رفضها للمُعاملة العنصرية وللإجراءات العقابية التي فرضتها الأجهزة الأمنية على المهاجرين الجزائريين مُظهرةً بذلك تضامنها المُطلق مع الثورة وقيادتها.
ذات المُتحدث، واصل مُستطرداً: «ففي مساء 17 أكتوبر1961 وفي تمام الساعة الثامنة مساءً خرج أكثر من 50 ألف جزائري بناءً على الدعوة التي وجهتها فيدرالية (جبهة التحرير الوطني) بفرنسا في مظاهرات سلمية وتجمعوا في الساحات العامة للتنديد بالقرار، ولإبلاغ السلطات الفرنسية بمطالب عبّرت عنها شعاراتهم التي تقول: (فليسقط حظر التجوال.. تفاوضوا مع الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية.. الاِستقلال للجزائر.. تحيا جبهة التحرير). ونظراً لسلمية الدعوة على التظاهر، فقد شارك في تلك المظاهرات الاِحتجاجية عددٌ كبير من الأطفال والنساء إلى جانب الرجال، قَدِموا جميعهم من الضواحي الباريسية وكذا الأحياء الفقيرة في العاصمة الفرنسية».
ثم أردفَ مُوضحاً: «وبناءً على أوامر مُحافظ الشرطة (موريس بابون) قامت الشرطة الفرنسية بإغلاق منافذ محطات المترو وخاصةً في ساحة (الأوبرا) حيثُ كان من المُقرر أن يلتقي المتظاهرون ويواصلون مسيرتهم الاِحتجاجية في شوارع العاصمة باريس، وهاجمت المتظاهرين الجزائريين وقتلت العشرات منهم عمداً في الشوارع ومحطات مترو الأنفاق، وألقت بالعشرات منهم مكبلي الأيدي والأرجل في نهر السين حتّى طفت جثثهم على سطحه في اليوم الموالي في عمليات قمع للمسيرات لا يعرف تحديداً عدد ضحاياها». مُشيراً في ذات المعطى، إلى أنّ هذا العنف غير المُبرر الّذي لجأت إليه الشرطة خَلَفَ مئات القتلى، رغم أنّ العدد الّذي كشفت عنه مصالح الأمن الفرنسية أشار إلى وجود قتيلين فقط، إلاّ أنّ فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا أعطت معلومات مُغايرة لمعلومات الشرطة الفرنسية والتي أكدها بعد ذلك المؤرخين ومن عايشوا تلك الفظائع الذين أكدوا أنّ الاِستخدام المُفرط للقوّة من قِبل الشرطة الفرنسية أدى إلى سقوط أكثر من 300 قتيل وما يزيد عن 1000 جريح، كما تمّ اعتقال حوالي 14000 من الجزائريين.وهنا يتساءل المُتحدث: «هل يمكن لأي عاقل أن يتصوّر أنّ المظاهرات الأولى من نوعها في التاريخ الحديث التي تنقل المُطالبة بالحرية من البلد المُستعمَر إلى البلد المُستعمِر والتي تتسم بالسلمية والتحضر والهدوء والوعي بقضية وطنية، والرافضة لقمع غير مُباشر تَمَثَلَ في فرض حظر التجوال بالعاصمة الفرنسية على فئة من سُكانها، وهو ما يُعد عملاً عنصريًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معانٍ، والتي تحوّلت إلى أبشع مجزرة تعرفها دولة أوروبية حينها، فهل يمكن أن تُنسى لأنّها حُذفت من كُتب التاريخ الفرنسية؟» مُضيفاً: «الأكيد أنّ مئات الجزائريين الذين رمى بهم موريس بابون، رئيس شرطة باريس، في نهر السين أو تمّ شنقهم أو رميهم بالرصاص دون أي ذنب إلاّ لكونهم خرجوا للمطالبة بحقهم في العيش بكرامة ورفض الضغط الّذي مُورِسَ عليهم، لاسيما بعد أن أُلزِموا بحظر للتجوال ليلاً، لا يمكن أن يصبحوا بإرادة فرنسية مجرّد جُثث يبحث البعض عن عدها، فحتّى لو كان عدد الضحايا مُهمًا في كشف بشاعة ما حدث، فإنّه ليس هو الهدف وإنّما هو جزء من الكُل، والكُل هو السياسة الاِستعمارية الفرنسية، التي قامت على قمع لابدّ من فضحه. لأنّه يَشمل مجازر أخرى لا تقل بشاعةً».
والأكيد أنّ ما يُميز مجازر الـ17 أكتوبر -حسب الدكتور ذياب- ويجعلها بالنسبة للفرنسيين أكثر إحراجًا هو كونها وقعت على الأراضي الفرنسية عكس المجازر الأخرى التي تمت داخل الأراضي الجزائرية؛ فالاِدعاء هنا أنّ هناك خطراً ما يُبرر القمع والقتل العشوائي للرجال والنساء وحتّى الأطفال، لا يمكنه أن يقنع أيًا كان.
واختتمَ بقوله: «إنّ فرنسا اليوم أمام خيارٍ لا بديل له هو (الاِعتراف التام) ليس من أجل تحقيق أي مطلب شرعي للضحايا وللجزائريين كافة، لكن لإنقاذ نفسها من متاهة تاريخية دخلتها دون أن تسلك الطريق الصحيح للخروج منها بعناد يُثير الاِستغراب عند البعض والاِشمئزاز عند البعض الآخر، فذلك يُظهر الدولة الفرنسية وكأنّها تعيشُ اِنفصامًا بين مبادئها ومواقفها لا يمكن بأية حال من الأحوال أن يُبيّضَ صورتها».

المؤرخ الحاج صادوق
فرنسا تُدرك جيدا بشاعة جريمتها غير القابلة للنسيان

يقول الباحث والمؤرخ، الدكتور الحاج صادوق، في هذا الشأن: «لقد تمكّن (عشرات الآلاف -أكثر من 50 ألف- من الجزائريين اِنطلقوا من أكثر من 20 ضاحية باريسية) من الوصول إلى ساحة الأوبرا في قلب العاصمة باريس رافعين شعارات مُؤيّدة لجبهة التحرير الوطني واستقلال الجزائر. قِدموا جميعهم من الضواحي الباريسية مثل كليشي لاغارين، نانتير، ارجونتاي، أوبرفيلييه، أنيير، جانفيلييه وكولومب، وكذا الأحياء الفقيرة في العاصمة الفرنسية».
وفي ذات الفحوى، أضاف: «وللتغطية عن فظاعة الجريمة ووحشيتها، لجأ بوليس القمع الفرنسي إلى إلقاء المُهاجرين الجزائريين أحياء في نهر (السين) وأعلنت السلطات الفرنسية آنذاك عن سقوط 200 ضحية، في حين أنّ عدد الضحايا فاق الـ500 بين قتيل ومفقود، وامتدت حصيلة الاِعتقالات لتشمل حوالي 7500 شخص من مختلف الشرائح زُج بالعديد منهم في السجون. وقد وردت شهادات حية أنّ عشرات الجُثث ظلت تطفو فوق نهر السين أيّامًا عديدة بعد تلك الليلة السوداء، وعشرات أخرى اُكتشفت في غابتي بولون وفانسون، بالإضافة إلى عدد غير معروف من الجزائريين تمّ التخلص منهم رمياً من على متن الطائرات ليبتلعهم البحر».
وأردفَ مستدركاً: «تحدثت بعض المصادر عن أنّ عدد القتلى الجزائريين تجاوز 1500 قتيل مع اِختفاء 800 شخص أُلقيَ بهم في قنوات المياه القذرة وفي نهر السين والبحر بعد أن قيدتهم الشرطة وثبتت أرجلهم في كُتل إسمنتية، كما جُرِحَ نحو 7 آلاف متظاهر ما زالوا حتّى اليوم يُعاني الأحياء منهم من مضاعفات. وقد اِستمرت الشرطة الباريسية في التنكيل والقتل لمدة 15 يومًا. ثمّ تمّ ترحيل نحو عشرين ألفَا من الجزائريين إلى الجزائر، حيث وُضِعوا هناك في المُعتقلات».
مضيفاً: «لقد أصدر حوالي 300 مُثقفًا بيانًا يُدينُ بشدة الجرائم البشعة التي اِرتكبتها جمهورية ديغول الخامسة بقيادة موريس بابون، ومن بين الموقعين على هذا البيان الفيلسوف الفرنسي المعروف (جان بول سارتر) و(سيمون دو بوفوار) الّذي صدر بعد المذبحة مُباشرةً وجاء فيه: (عبّر الجزائريون بكلّ كرامة وشجاعة عن مواقفهم من خلال مظاهرة نظموها في17 أكتوبر1961 اِحتجاجًا على أعمال القمع المُتزايد ضدهم والمُسلط عليهم من طرف قِوى الأمن الفرنسية…، ها هم الجزائريون يموتون من جديد لا لشيء إلاّ لأنّهم يريدون أن يعيشوا أحرارا...)».
وعن جريمة إخفاء حقيقة المجازر، قال ذات المُتحدث: «سبق للمؤرخ الفرنسي جون لوك إينودي أن أكدَ أنّ سجلات مصلحة الطب الشرعي لا تُشير إلى وجود قتلى خلال مظاهرات 17 أكتوبر1961 وهو ما أرادته الشرطة الفرنسية، لكنّه أطلق وصف (الجريمة ضدّ الإنسانية) على ما حدث في ذلك اليوم».جون لوك إينودي مؤلف كِتاب «مشاهد حرب الجزائر في فرنسا»، -يُضيف الدكتور صادوق-: تطرق في كتابه إلى موضوع رمي جُثث الجزائريين في نهر السين في العاصمة باريس سواء من الذين تمّ اِعتقالهم في مقرّ الشرطة أو أولئك الذين كانوا يفرون من بطش البوليس الفرنسي خلال محاولتهم تفريق المتظاهرين. كما أكدَ أنّ الشرطة لجأت إلى التعذيب على نطاقٍ واسع في حق المتظاهرين الجزائريين.
مشيراً في ذات السّياق، إلى أنّ القمع كان غاية في الضراوة والوحشية، حسب المؤرخين البريطانيين، جيم هاوس ونيل ماكماستر، اللذين وصفا ما تعرض له الجزائريون يوم 17 أكتوبر في كتابهما «الجزائريون، الجمهورية ورعب الدولة»، بأنّه «أعنف قمع لمظاهرة في أوروبا الغربية في التاريخ المعاصر».
واختتم قائلاً: «مظاهرات 17 أكتوبر1961 اِنتهت بقمعها بوحشية، وفرنسا تعي جيداً مسؤوليتها تجاه ما اِقترفته من جرائم ومجازر، وإن تقادم بها الزمان (أي المجازر والجرائم) فلا يمكن أن تسقط من الذاكرة، ولا أن تنساها ذاكرة الشعوب».

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com