الخميس 21 نوفمبر 2024 الموافق لـ 19 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

خواطر على هامش "طوفان الأقصى" في ذكراه الأولى: الحضارة الغربية الحديثة .. "قتل الأب" أم "قتل الإنسان" ؟

بمناسبة مرور سنةٍ على الحرب الصهيونية – الغربية الوحشية على غزة أحبُّ أن أشير إلى أنني نشرتُ – قبل أشهر – كتابا حول القضية خصصته للدفاع عن الحق العربي – الفلسطيني والردِّ على بعض فلاسفة الغرب من الذين انحازوا صراحة إلى السردية الصهيونية تحت يافطة ادِّعاء "الدفاع عن القيم الغربية" و "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضدَّ كل أشكال اللاسامية".

  أحمد دلباني  

لقد تأسفتُ، بطبيعة الحال، كثيراً لذلك. ورأيتُ في سقوط فلاسفة الميديا - من الفرنسيين تحديداً - اندحاراً لقيم العقل والنزعة الإنسانية وهاجس البحث عن العدالة والحق. وقد هالني أن يتحول الفيلسوفُ الغربي – مثل الألماني هابرماس– إلى مدافع عن قايين القاتل أيضا. فمعظم مثقفي الغرب يُمكنُ القول – دون مبالغة - إنهم أسرى الرؤية الأحادية المنحازة للرواية الصهيونية. وهذا راجعٌ، بطبيعة الحال، لاعتبارات تاريخيةٍ وسياقات ثقافية نتفهَّمُها ولكنها لا تُعفيهم من المسؤولية الأخلاقية للاعتراف بالإجرام الصهيوني وعدم الخضوع للتمويه أو الابتزاز بهذا الشأن. لقد أشرتُ في كتابي "خطيئة الدفاع عن قايين" إلى سقوط المثقفين المُروِّع أمام الاختبار الذي وضعتهم حربُ الإبادة والتطهير العرقي في غزة أمامه. فقد طفقوا يخصفون عليهم من ورق الهوية الحضارية في لحظةٍ كانت تتطلبُ موقفا إنسانيا عادلا ينحاز لأصحاب الحق في الأرض. ولكنَّ لذلك، أيضا، سياقا مُعقَّداً جعل المثقف يعتصمُ بقشة الهوية في محيط اللحظة التاريخية الضبابية. فقد لاحظتُ أنَّ الهوية لدى هذه الفئة من "فلاسفة البؤس" يُمكن اعتبارها بيتَ الخائب. وربما أمكننا وصفها بأنها تمثل، اليوم، عودة الصعلوك الضال إلى حضن القبيلة. إنها مؤشرُ أزمةٍ مع الحاضر ومع المستقبل غير الواثق. وهذا، ربما، ما جعل منها خطوطا حمراء وسلاحا صداميا مع المختلف. ولعل أحداث هذه الحرب الأخيرة قد كشفت المستور في مواقف الكثيرين منهم وهم يصطفون لتقديم الولاء غير المشروط لانتماءاتهم الثقافية والحضارية على حساب الانتصار للإنسان المضطهَد وحقه في الحياة والحرية والكرامة؛ وعلى حساب العدالة التي تقتضي - أول ما تقتضي - زوال الاحتلال وحق الشعب الفلسطينيِّ في تقرير مصيره. هكذا تمَّ حجبُ البُعد السياسيِّ عن القضية الفلسطينية بوصفها قضية شعب تحت الاحتلال ويعاني، منذ عقودٍ طويلة، ممارسات القمع والاضطهاد والتهجير القسري وسرقة الأرض والإذلال اليومي والاعتقال التعسفي والحصار والتجويع. فهذه الحربُ ليست حربا حضارية إسلامية ضدَّ الغرب وإنما هي مقاومة فلسطينية من أجل تحرير الأرض المحتلة. أو قل هي مشكلة سياسية بالأساس ولا علاقة لها بأوهام "فلاسفة البؤس" الذين يسكنهم رُهابُ الإسلام بصورةٍ مرَضيَّة. كما أنَّ الصراعَ الدائر اليوم في الأرض المحتلة ليس حربا مبعثها "معاداة السامية" وإنما مقاومة الاحتلال وممارساته الإجرامية وانتهاكاته التي لا تتوقف ضدَّ الشعب الفلسطيني. وهل من الضروريِّ أن نذكِّرَ، هنا، أنَّ حركة المقاومة العربية - الفلسطينية ظهرت بوصفها حركة تحررية من أجل استعادة الأرض والكرامة السليبة ولم تكن أبداً حركة عنصرية ضد اليهود؟ أقول هذا، هنا، كي لا يتمَّ تعمُّدُ الخلط بين المقاومة المشروعة للاحتلال وما يُسمِّيه الغربُ المريضُ بتأنيب الضمير "معاداة السامية" في مُعجمه المُثقل بأصناف الندامة. لقد ظلت مشكلة العرب والفلسطينيين قائمة دوما مع الإيديولوجية الصهيونية الاستعمارية التي رأت النور في الغرب الحديث إبان ظهور الحركات والنزعات القومية المعروفة ولم تكن مع اليهود بوصفهم عرقا أو جنسا. ونحنُ نفهمُ، جيداً، الأسبابَ والدَّواعي التي جعلت الغربَ الغارق في أزمة الضمير - بعد الحرب الكونية الثانية - يفكر في وطن قوميٍّ يجمعُ شتات الناجين من المحرقة بعد فشل حداثة العقل والدولة القومية والمواطنة الحديثة في استيعابهم والإبقاء على خصوصيتهم الثقافية والدينية ضمن الجسم الاجتماعيِّ – الثقافي – السياسي الغربي. نفهمُ عُنفَ العقل الحديث المُضمَر إزاء مسائل الاختلاف والتعدد والنظر إلى الآخر كما تكشفُ عنه أدبيات "المسألة اليهودية" التي ملأت الدنيا وشغلت الناس في الغرب طيلة القرنين الماضيين. ولكنني أردتُ التنبيه فقط إلى أنَّ "معاداة السامية" لم تكن نتاجا عربيا ولم تحبل بها حياتنا بالشكل الرَّهيب المُرعب الذي رأيناه في الغرب الحديث وهو يزيحُ الآلهة من المشهد التاريخيِّ ويستعيضُ عن العلو التقليديِّ المُضمحل بالقبائل القومية الحديثة وعبادة الذات الجماعية حدَّ الهوس الفاشيِّ المعروف.
لقد كانت هذه الحربُ العداونية غير المسبوقة،على المستوى الشخصي، دافعا كبيراً لمراجعة الكثير من الأمور. فهذا التواطؤ المخزي المُعلَن ضدَّ ضحايا التاريخ بين الأنظمة السياسية الداعمة بصفةٍ غير مشروطة للكيان الصهيوني وطائفة المثقفين الذين تمَّ استدراجُهم إلى رحاب اليمين العنصريِّ المُدافع عن صفاء الهوية الغربية وتفوقها الحضاري مثل سقوطا مدويا لهيبة حضور المثقف. فقد كنا في الماضي القريب نعتقدُ، بنوع من السذاجة، أنَّ من واجب المثقفين أن ينحازوا إلى "ضحايا التاريخ" لا إلى "صانعيه" كما كان يُعبِّر ألبير كامو مثلا. ولكننا كنا مخطئين قليلا. إذ كشفت الوقائعُ والأحداثُ أنَّ مثقفي الميديا ندبوا أنفسَهم للدفاع عن القبيلة لا عن الإنسان المُضطهَد على اعتبار أنهم يعيشون عهداً يشهدُ فيه الغربُ تراجعا حضاريا وتفككا لمركزيته التي كرَّستها الحداثة المنتصرة منذ القرن السادس عشر. ولكنني أحب أن أشيرَ إلى أنَّ حكمي هذا لا يشمل كل المُشتغلين في حقول الفكر والإنسانيات وإنما تحديداً الفلاسفة الذين لم يتخلصوا، بعدُ، من أغلال السرديات المُكرِّسة لشرعية الاحتلال انطلاقا من دوافع دينية وحضارية عامة.
****
هذه الحربُ العدوانية الوحشية كشفت، أيضا، عن الجوهر الحضاريِّ المأزوم للغرب التاريخي وعن الوجه القاتم للحداثة التي لم تكن، ربما، إلا محاولة في إبداع كونيةٍ ليست في التحليل الأخير إلا خصوصية مُنتصرة بقوة السلاح. فالغربُ الذي أبدع، لأول مرَّةٍ في التاريخ، حضارة تأسَّست على "قتل الأب" لم يتفطن إلى أنه بذلك إنما كان يقتل الإنسانَ أيضا ويُجرِّده من هواجس العُلوِّ والمعنى الذي يعصمُ الحياة من الغرق في العدمية وتحطم بوصلة المعنى والاتجاه. لقد كتب كامو في بعض تأملاته في مصائر ومآلات الحضارة التي ورث أزماتها قائلا "بعد موت الله، لم يبقَ إلا التاريخ والقوة". لقد كان يُشيرُ، بذلك، إلى ما ستحبل به - لا محالة - هذه الحداثة المعطوبة التي حرَّرت إرادة القوة من هواجس العُلوِّ الأخلاقي، وجعلت الغربَ يواجه نتائج الأنسنة القصوى وغياب المطلق والمرجعيات المعيارية أخلاقيا ودينيا. وها نحن نشهدُ تمادي الاحتلال بدعم ومباركةٍ أمريكية - أطلسية في تجاوز كل الخطوط الحمراء إرهابا وقتلا وتدميراً وتهجيراً ومحواً لكل معالم الحياة في غزة المُحاصَرة الجائعة منذ سنوات طوال. إنها تراجيديا بداية القرن التي ستُذكِّرنا دوما بأنَّ على الإنسانية أن تُعيدَ خلقَ نفسها خارج مدارات الوحشية التي أسَّست لها حضارة "فاوست" و "شايلوك"، وأن تبتكرَ العدالة من حُطام القلبِ المُتعب. وربما لا يختلفُ ما توصل إليه الباحثُ الفرنسيُّ إيمانويل تود في كتابه الأخير "هزيمة الغرب" عمَّا ذكرته الآن على الأقل بخصوص مشكلة العدمية التي تنتصبُ أمام الغرب بامتداداتها الأخلاقية والاجتماعية وحتى السياسية. لقد سمعته – في بعض أحاديثه الصحفية بعد صدور كتابه – يقول إنَّه لا يعلمُ بالضبط أي ثُقبٍ أسود سوف يسقط فيه الغربُ مع انحسار الدين بصفةٍ كلية عن الفضاء الاجتماعي وعن مرتكزات الفكر والأخلاق التي كانت تؤطر السلوك الفردي والعام. ولكنني أراني مُلزما، هنا، بالقول إنَّ ما ذهب إليه هذا الباحث – بخصوص أزمة المعنى وتفكك ما قام عليه الغربُ الحضاريُّ – ليس جديداً كليا وإنما أكادُ أجدُ فيه صدى لبعض حدُوسنيتشه وهو يتحدَّثُ بصورةٍ آسرة، نهاية القرن التاسع عشر، عن طائر الحضارة الغربية الحديثة الذي ابتهج كثيراً بهجرانه الأقفاص جميعها وتحليقه بنشوةٍ غامرة في الفضاءات الوسيعة قبل أن يكتشفَ، مفجوعا، هولَ أن يفقدَ "الأرض" بصورةٍ أبدية!
هذا ما يجعلني أطرحُ سؤالا، أراه ضروريا، على الحداثة الغربية انطلاقا من طبيعة المرحلة والأحداث الدامية التي نشهدها: هل خلاصُ الإنسان يأتي، حقا، من جهةِ الإنسان؟
****
لقد ذيَّلتُ كتابي المذكور بفصل قصير عَنونتُه "إني أتهم" مُستعيداً إميل زولا في طبعةٍ عربية تنتصرُ للمظلومين وترافعُ من أجل الحقيقة التي حاول الكثيرون طمسَها وتغييبَها بدوافع إيديولوجية وعنصرية واستعمارية. لقد حاولتُ أن أمنحَ صوتي لهابيل كي يكونَ للضحية ما تقول في عالم مُتواطئ مع الظلم التاريخيِّ الذي تعرَّض له العربُ والفلسطينيون منذ أكثر من قرن. وغنيٌّ عن القول أنَّ هذه المأساة التي برمجت لتشريد الشعب الفلسطينيِّ ومحو وجُودهِ بقوة السلاح والفتح والفتك لم تتمَّ بمعزل عن سرديات الاستعمار التقليدي القاضية بتأسيس وطن قوميٍّ لليهود بعد رحلة التشرد الكبيرة، لقرون طويلة، في العالم وبعد فظاعات العنصرية والنبذ وصولا إلى المحرقة أثناء الحرب العالمية الثانية. لقد كان الغربُ دائما وكيلا على "المسألة اليهودية" التي تحمَّل، بمعنى ما، أعباءَ حلها ومعالجتها من خلال جعل العرب يدفعون الثمن احتلالا وتهجيراً وإرهابا باسم "الأرض الموعودة" وبقية الأساطير المعروفة حتى يتسنَّى له السيطرة على إحدى أغنى مناطق العالم وأكثرها أهمية من حيث الموقع الجغرافي والاستراتيجي. لقد دفعنا ثمنا باهظا لقاءَ رضا الإله يهوه ولقائه بشعبه "المُختار" بمباركة من الأمبريالية العالمية وأوروبا المريضة بتأنيب الضمير من جرَّاء تكنولوجيا "غُرف الغاز" كما يدَّعُون. وأنا أجدني، هنا، مُلزما بتحية الفيلسوف الفرنسي الكبير جيل دولوز والمفكر الكبير إدغار موران– تمثيلا لا حصراً - على مواقفهما الشجاعة وعدم تورُّطهما في حبائل هذه السردية الاستعمارية المفضوحة التي تُذكِّرُ بمأساة إبادة "الهنود الحُمر" في طبعةٍ جديدة.
****
هناك، على ما أعتقد، ما يجبُ أن نلاحظه في الحرب الأخيرة على غزة الشهيدة رغم فظاعاتها وتكلفتها الإنسانية الفادحة وغير المسبوقة. فقد أعادت المقاومة - منذ فجر السابع من تشرين الأول / أكتوبر 2023 - القضية الفلسطينية إلى مسرح الأحداث الأكثر أهمية سياسيا واستراتيجيا وإنسانيا وأمنيا، ودفعت بها إلى الواجهة بوصفها أمراً يتجاوز محاولات الطمس والتصفية أو مشاريع التطبيع الصهيونية والأمريكية مع دول المنطقة. فهي قضية إنسانية ووطنية ترتبط بإرادة الحياة والكرامة والاستقلال لشعب مُتشبِّثٍ بأرضه التاريخية وحقوقه المشروعة القاضية بزوال الاحتلال وتقرير المصير. كما أنها كشفت عن تقدُّم لافت على مستوى الوعي العالمي بعدالة القضية الفلسطينية ومشروعية المقاومة وهو ما لاحظناه في المسيرات الغاضبة التي انتصرت، في جهات العالم الأربع، للحق الفلسطيني مُندِّدةً بجرائم الاحتلال وبمواقف حكومات أمريكا ودول الغرب الأوروبي التقليدية من المسألة. لقد انتصرت المقاومة، بمعنى ما، أدبيا وسياسيا وأخلاقيا وهي تفضحُ ممارسات الاحتلال الصهيوني الوحشية التي لم يعُد من الممكن التستُّر عليها في زمن تكنولوجيا التواصل السريع. وقد سُررتُ، شخصيا، بعودة الوعي إلى قطاعات كثيرة من الشبان والمواطنين الأمريكان والأوروبيين، وهو ما يعني، بالطبع، بداية ممارسة الضغوط على مواقف الحكومات تجاه هذه القضية الإنسانية التي طال أمدها. والأهمُّ من ذلك كله لقد انكشف للجميع أنَّ إسرائيل لا تحظى بأيِّ دعم شعبيٍّ في العالم. فهي مؤسَّسة وكيلة عن الغرب الاستعماري في منطقتنا العربية لا غير.
****
لقد ظللتُ، في زمن مضى، أكتفي بترديد ما قاله محمود درويش "لا القوَّةُ انتصرتْ / ولا العدل الشَّريدُ". ولكنني الآن أكثرُ ثقةً بأنَّ زمن تشرُّد العدل لم يعُد قدراً محتوما.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com