- يُحاول الروائي المُثقف أن يرتبط بالتاريخ اِرتباطاً فوقياً يعتمدُ على التعالي
- النص الروائي لا يتـأسس من منظور التصادم التراجيدي بين الواقع والتخييل فقط
يرى، الناقد والأكاديمي الدكتور عبد القادر رابحي، أنّ الروائي يعتقد اِعتقاداً جازمًا أنّه الأجدر بتولّي دور المُثقف في المجتمع، لأنّه الأجدر بتولّي تصحيح ما يصيب التاريخ من توعّكات. كما يرى في ذات السّياق، أنّ دور المُثقف في الواقع لا يختلف عن دور المُثقف في الرواية، ذلك أنّ أوّل الأقنعة التي يجب أن يتقنّع بها الروائي –حسب قوله- هو اِستعمال الفضاء السردي من أجل تقديم الرؤية الأيديولوجية عن طريق البطل المُثقف. فمِن الناحية المبدئية، -يُؤكد- لا يختلف دور المُثقف وهو يُمارس دوره على مستوى الواقع عن دور المُثقف وهو يُمارس الدور نفسه على مستوى السرد.
حوار: نوارة لحرش
كما يرى من جهةٍ أخرى، أنّ الروائي لا يستعير الحادثة التاريخية من أجل أن يُشفي غليلَهُ من عقدة تغييبه عنها أو تغيُّبِهِ عنها، وإنما يستولي على الحادثة التاريخية من أجل أن يُعيد صياغتها من وجهة نظَره هُوَ، نظراً لاِعتقادهِ أنّه الوحيد القادر على إعادة صياغتها صياغةً مُمتعة، وذلك بإعادة تشكيلها تشكيلاً أدبيًا. لأنّه يعرف جيداً -حسب قوله- أنّه من غير المُمكن أن تُصاغَ الحادثة التاريخية بصورة مُمتعة كالتي تُقدّمُها بها وجهةُ النظر الأدبية.
للإشارة، عبد القادر رابحي، شاعر وأكاديمي وناقد جزائري، صدرت له مجموعة من الكُتُب في الشّعر والدراسات النقدية. ومن بين ما صدر له في الشِّعر: «الصعود إلى قمة الونشريس»، «حنين السنبلة»، «على حساب الوقت»، «السفينة والجدار»، «حالات الاِستثناء القصوى»، «أرى شجراً يسير»، «مثلما كنتُ صبيّا»، «مقصّات الأنهار»، «ديوان تيهرت المفقود -مقاربات في الأدب والحرية»، «رجل التبن يحرس الحقول الصفراء»
. أمّا في مجال الدراسات النقدية، فصدر له :»النص والتقعيد، إيديولوجية النص الشِّعري»، «النص والتقعيد، إسنادية النص الشِّعري»، «المقولة والعراف. دراسات في الشِّعر الجزائري المعاصر». «إيديولوجية الرواية والكسر التاريخي.. مقاربة سجالية للروائي مُتقنعًا ببطله». «في التأثيث لفراغ القصيدة، مقاربات في التشكيل الشِّعري». «عن الهوية والتاريخ والحداثة»، «شعرية التحوّلات.. مقالات في القصيدة الجزائرية الجديدة»...
النص الروائي إعادةُ كتابة للتاريخ من وجهة نظر المؤلف
قاربتَ الكثير من الروايات من زوايا نقدية مُتعدّدة ومُختلفة في مستويات التناول والمُقاربة. فهل ترى أنّ النص الروائي، يتأسس من منظور التصادم بين الواقع والتخييل فقط؟
عبد القادر رابحي: لا يتـأسس النص الروائي، فـي حتمية منطقه السردي، من منظور التصادم التراجيدي بين الواقع والتخييل فقط. كما أنّه لا يتأسس من منظور المُفارقة الإبداعية التي تُعيد إنتاج تشظّيات الحادثة التّاريخية إنتاجاً مُتأدّبًا. إنّ النص الروائي إعادةُ كتابة للتاريخ من وجهة نظر المُؤلف.
ولذلك، فإنّه ليس إعادة قراءة لهذا التاريخ من وجهة نظر المُؤلف فحسب، وإنّما هو إعادة تشكيلٍ للحادثة التّاريخية وفق ما يقتضيه الوضع الهشّ الّذي يتمتع به المُؤلف الّذي يُحاول أن يحصر التاريخ فـي الـمسافة الفاصلة بين هشاشة وضعه وهو يُعايش الـحادثة التاريخية أو يستعيدها، وبيـن هشاشة وضعه وهو يُعيد صياغة هذه الحادثة مُحاوِلاً حصرها فيما يملك من أداة هي الوحيدة الكفيلة بتحقيق حُلم بقائه في التاريخ، وهي اللّغة.
إنّ اِمتـلاك سلاح اللّغة هو الّذي يجعل الروائي يميلُ إلى أحد خيارين هو الأقرب لهذا السلاح: إمّا أن يكون بطلاً حقيقيًا (وهذا أمر مستحيل لأنّه مُناقض لدور المُؤلف المتخفي وراء الكتابة)، أو أن يكون صانعَ أبطالٍ يعتقد أنهم حقيقيون لكثرة إيمانه بهم، في حين أنهم ليسوا كذلك أصلاً، ولن يكونوا كذلك إطلاقًا.
ما الّذي يجعل الروائي رجلاً «كذّابا» باِمتياز؟ هل هي هذه الهشاشة نفسها التي يعيش من أجلها لمجرّد اِقتناعه بأنّ الكثير من القُرّاء قد بدءوا يتعاملون فعلاً مع بطل روايته (وفيما بعد: مع أبطال رواياته) وكأنّه بطل حقيقيّ (أو كأنهم أبطالٌ حقيقيون)؟. وكيف يستطيع الروائي أن يتوهم أنّ التاريخ، وهو يُؤسس لخطوات التغيير الضرورية في أي مجتمع، إنّما يجب أن يستعير من الرواية الحلقات التي يبدو أنّ الواقع قد ألّح (أوْ يلّح) على إفسادها إفساداً مُتعمّداً، حتى تكتمل الصورة التي يجب أن تُقدَّم عن التاريخ، والتي لا تتم إلاّ بموافقة الروائي؟
الروائي لا يستعير الحادثة التاريخية وإنما يستولي عليها من أجل أن يُعيد صياغتها من وجهة نظَره
هل يعني هذا أنّ النص الروائي إعادةُ كتابة للتاريخ من وجهة نظر المُؤلف -دائمًا-؟ وأنّ الروائي يستعيد التاريخ أو الحادثة التاريخية من أجل أحلامه/أو أوهامه، أو من أجل صياغتها وفق أهواء التخييل؟
عبد القادر رابحي: لا يستعير الروائي الحادثة التاريخية من أجل أن يُشفي غليلَهُ من عقدة تغييبه عنها أو تغيُّبِهِ عنها، وإنما يستولي على الحادثة التاريخية من أجل أن يُعيد صياغتها من وجهة نظَره هُوَ، نظراً لاِعتقادهِ أنّه الوحيد القادر على إعادة صياغتها صياغةً مُمتعة، وذلك بإعادة تشكيلها تشكيلاً أدبيًا، لأنّه يعرف جيداً أنّه من غير المُمكن أن تُصاغَ الحادثة التاريخية بصورة مُمتعة كالتي تُقدّمُها بها وجهةُ النظر الأدبية. ولذلك كذلك، كان دور الروائي هو تقديم توعّكات الحادثة التاريخية بصورة مُمتعة وفي قالب مقبول، أي بلَبوسٍ أدبيٍّ يُحاول أن يغطّي بأبآت التاريخ (Beguilements de l’histoire) وتشنّجاته ومراراته، وأحداثه المُتسارعة التي لم يعد في وسع المُجتمع أن يستوعبها بالطُرق المفروضة عليه فرضاً، على الرغم من مشاركته المُباشرة أو غير المُباشرة في صنعها.
وربّما لهذا السبب كان الروائي يلجأ إلى اِختصار الأمة في جماعة واحدة، والمجتمع في شخص واحد، والشعب في بطل الواحد، والتاريخ كلّه في رواية واحدة، لأنه قادر على تحويل كلّ ما هو جماهيري إلى نخبوي، وتذكير النّاس بالشمولي من خلال الاِستحضار الأيقوني للأزمنة المُتعاقبة، حتى وإن بدا لمن يعارضون موقفه هذا، بأنّ مآل الجماهيرية الحتمي هو الشعبوية، وأنّ النخبوية بإمكانها أن تنتهي إلى فردانية تيوقراطية تؤدي بالبطل الثوري (وكلّ بطل هو ثوريّ..) عمومًا إلى نهايةٍ يُغيِّبُ فيها الحضور الجماعي، ويَقطَعُ دابرَ المعارضة الإبداعية، لاِعتقاده المُطلق بأنّ كلّ الروايات يجب أن يكتبها روائي واحد، وأنّه من المستحيل أن يكتب كلُّ الروائيـين رواية واحدة بوجهاتِ نظرٍ مختلفة.
الروائي يعتقد اِعتقاداً جازمًا أنّه الأجدر بتولّي تصحيح ما يصيب التاريخ من توعّكات
لهذا يعتقد ربّما الكثير من الروائيين أنّهم الأجدر بتولّي دور المُثقف في المجتمع؟
عبد القادر رابحي: تمامًا. -ربّما- ولهذا السبب كذلك، يعتقد الروائي اِعتقاداً جازمًا أنّه الأجدر بتولّي دور المُثقف في المجتمع، لأنّه الأجدر بتولّي تصحيح ما يصيب التاريخ من توعّكات بمباركة من تسببوا في هذه التوعّكات، أو من أخفوها، أو من سكتوا عنها، حتى يزداد المجتمع إيمانًا وثقةً أنّ ثمّة من يستطيع أن يقرأ التّاريخ قراءة غير التي لم يُؤمن بها على الإطلاق، أو لم يعد يُؤمن بها نهائيًّا.
يقول الأعرج واسيني، وهو يتحدث عن تجربة الطاهر وطار، بخصوص هذا الدور الّذي يجب أن يقوم به المُثقف عمومًا: «فمن خلال إبداعاته الروائية عمومًا، نستنتج، أنّه في المرحلة الوطنية الديمقراطية، مرحلة التحوّلات نحو الاِشتراكية لا يجب خلق المقدمات المادية والاْجتماعية فحسب، وإنّما يجب كذلك خلق المقدمات الإيديولوجية، ويحدّد ذلك، أهمية الوظيفة الإيديولوجية لدولة الاِتجاه الاِشتراكي الموجهة إلى رفع الوعي السياسي للجماهير العريضة وإلى تثقيف وتربية الشعب بروح الاِشتراكية والمُساواة القومية والديمقراطية وصداقة الشعوب. ذلك هو السلاح المتين والدائم، بل الأبدي لضرب مصالح الإقطاع المُتمثل في (بولرواح) في رواية (الزلزال) وتحطيم القِوى التي يعتمد عليها (ابن القاضي) في (ريح الجنوب)، وإفشال لعبة (الإرهاب الديني عند كلّ من (رضوان) و(مصطفى) وغيرهما في (العشق والموت في الزمن الحراشي)».
إنّ دور المُثقف، كما يُقدم له أحد رواد الجيل السبعيني في الرواية الجزائرية وهو يتحدث عن أهم مُمثل لجيل الستينيات من الروائيين الجزائريين، إنّما يجب أن يكون في مستوى المُعلّم الأكبر الّذي من المفروض أن يُلقّن الدروس لهذا الشعب الأميّ، ويُربّيهِ تربيةً إيديولوجية هي الوحيدة القادرة على إخراجه من براثن التخلف والجهل اللذين يتخبط فيهما.
وهو، لهذا السبب يرى نفسه الوريث الشرعيِّ والمُكلف الرّسمي لتمرير الرؤية الأيديولوجية إلى العقول البسيطة التي بإمكانها أن تتحرك في أية لحظة لصناعة حادثة تاريخية جديدة، فلا تجد من يُنير لها الطريق غير رؤية المُثقف الجديرة بأن يُستنار بها في كلّ الأزمنة.
لا يختلف الدور الّذي يُمارسه المُثقف على مستوى الواقع عن الدور الّذي يُمارسه على مستوى السرد
برأيك، هل يختلف دور المُثقف في الواقع والحياة عن دور المُثقف في الرواية والأدب عموماً؟
عبد القادر رابحي: لا يختلف دور المُثقف في الواقع عن دور المُثقف في الرواية، ذلك أنّ أوّل الأقنعة التي يجب أن يتقنّع بها الروائي هو اِستعمال الفضاء السردي من أجل تقديم الرؤية الأيديولوجية عن طريق البطل المُثقف. فمِن الناحية المبدئية، لا يختلف دور المُثقف وهو يُمارس دوره على مستوى الواقع عن دور المُثقف وهو يُمارس الدور نفسه على مستوى السرد. وربّما كان الدور الثاني أكثر أهمية بالنسبة للروائي، لأنّه يضمن له تحقيق كلّ الأحلام التي لم يستطع تحقيقها على مستوى الواقع، بما فيها الخيبات السّياسيّة والمكبوتات الأيديولوجية المُتعلقة أساسًا بحرية الجهر بالمواقف والدفاع عنها. ولأنّ هذا الدور كذلك يكفل للروائي تمرير الرؤية الأيديولوجية تمريراً سلسا يضمن عنصر الصراع والمُواجهة والبوح بالمكبوتات الأيديولوجية التي يقوم بها البطل المُثقف على مستوى السرد، بينما يتخفّى الروائي (السارد) في طابق التموقع الفوقي بالمفهوم الغرامشي. ويتخذ الروائي من حالات البطل المثقف، وهو يعْبرُ الأزمنة المعاصرة للدولة الوطنية المفجوعة بصدامية الحادثة التاريخية وتشنجاتها، مركبةَ عبورٍ دائمةً يتلبّس فيها الأقنعة المناسبة لهذه المراحل على مستوى السرد، ويجعل من تمظهراته الوجودية طاقيّة إخفاءٍ لتجليّاته المستقبلية على الرغم من تغيّر الأزمنة وتعاقبها. ومن هنا، يُحاول الروائي المُثقف أن يرتبط بالتاريخ اِرتباطاً فوقياً يعتمدُ على التعالي الإيديولوجي الناجم عن تعالي المُثقف وهو ينظر إلى حركة المجتمع في تقدمها نحو المجهول.
وبناءً عليه، يعتقدُ الروائي بأنّه الأجدر بالبقاء عندما ينسحبُ السياسي والمُؤرخ من الوعي الجمعي للأمة، ويُستبدَلُون بسياسيٍّ ومُؤرِّخ آخَرَينْ سيلعبان الدورَ نفسَه الّذي لعبه من سبقهما. وسيقوم الروائي الحريص على البقاء مرّةً ثانية بتقديم توعّكات الحادثة التاريخية إلى المجتمع بصورة مُمتعة وفي قالب مقبول، أي بلَبوسٍ أدبيٍّ يُحاول أن يُغطّي بأبآت التاريخ مرّةً أخرى بغطاء الأدبية من خلال «خلق المقدمات الإيديولوجية».
ولعلّه لهذا السبب، ولأسباب أخرى كذلك يبدو الروائي، وكأنّه أطول عمراً من الجميع: من السيـاسـي ومن الـمُؤرخ ومن الأيديولوجـيّ ومن الأنظمة ومن الثورات ومن الحروب ومن الانهزامات ومن الانكسارات ومن الانتصارات. وأطول عمراً كذلك من أبطاله، لأنّه قادر على تغيير أسـمائهم وأعمارهم وأفكارهم وعصورهم، بل هو قادر على قتلهم في رواية وإعادة بعثهم في روايات أخرى وفقًا لمتطلبات المراحل التي يضع فيها الروائي حيواتهم، ويُسطّر مساراتهم، ويُحدّد أدوارهم ومهمّاتهم.
ومن هنا، يبدو أنّ مُشكلة الروائي الكُبرى هي فـي مُـجايلتـه لجميع الثورات والأنظمة والحُكام والأيديولوجيات. وهي مجايلةٌ تتعدى الطابعين الزمني والمكاني، ويذهبُ فيها الروائي بعيداً لسبر أغوار التاريخ واستعمال الأحداث القديمة وفق آليات إبداعية مُعاصرةٍ، بل سابقة لأوانها. كما يذهبُ بعيداً في خلط الواقع بالمُتخيل، ومزج الحقيقي بالوهميّ، تماماً كما فعل هوميروس وهو يحاول أن يفوز بالبقاء (ولو على المستوى الأسطوري) من خلال التلاعب بتاريخ طراودة.
ن.ل