* الدراسات الثّقافيّة تتعامل مع الثقافة باِعتبارها مفهومًا سياسيًا وليس أنتربولوجيًا * من المجازفة المعرفية اِعتبار الدّراسات الثّقافيّة «دراسات أدبيّة»
يرى الباحث الأكاديمي والناقد الأدبي الدكتور طارق بوحالة، أنّ الدّراسات الثّقافيّة تملكُ القدرة على الاِلتفاف على معارف كثيرة، لكن الأمر الجوهري الّذي يغيبُ كثيراً عن المُهتمين بهذا الحقل هو أنّ الدّراسات الثّقافيّة تتعامل مع الثقافة باِعتبارها مفهومًا سياسيًا وليس أنتربولوجيًا.
* حوار: نوّارة لـحـرش
مؤكداً من جهةٍ أخرى، أنّ أهم ما يُواجه الدّراسات الثّقافيّة من عراقيل خاصة في -سياقنا العربي- هي الكثرة المُفرطة من المفاهيم والأسماء والقضايا.
وفي المقابل يُوضح، أنّ هناك اِشتراك بين الدّراسات الثّقافيّة والنقد الثقافي من حيث المجال المعرفي المدروس، فهما -حسب رأيه- يهتمان بالثقافة وأنماطها، بيدَ أنّهما يختلفان في التعامل مع نوعية الخطاب الثّقافي، حيثُ تبحث الدّراسات الثّقافيّة في الثقافة من منظور كلي، بينما يتعامل النَّقد الثّقافي مع الأدب باِعتباره خطاباً جماليًا يتضمن أنساقًا وتمثيلات ثقافيّة.
كما يُقر بأنّ هناك جهودا جيدة في هذا السّياق، ومن الإجحاف الحكم على النَّقد العربي بأنّه يُعاني «قصوراً معرفيًا» في تلقي النَّقد الثَّقافيّ، وتطبيقه على النُّصوص الأدبيَّة المُختلفة.
للتذكير، الدكتور طارق بوحالة (باحث وناقد، وأستاذ النقد الثّقافي بالمركز الجامعي عبد الحفيظ بوالصوف ميلة). يشتغل في مجال النَّقد الثّقافي والدّراسات الثّقافيّة، له العديد من الدّراسات والإسهامات النّقديّة في مجلات جزائرية ودوريات عربية. كما أصدر مجموعة من الكُتُب الصادرة عن دور نشر مختلفة، من بينها: «نظرية النَّقد الثّقافي عند عبد الله الغذامي»، «أُسس النَّقد الثَّقافي في النَّقد العربي المعاصر»، «محاضرات في النقد الثَّقافي»، «نظرية النقد الثَّقافي في الخطاب العربي المُعاصر: الأُسس والتطبيقات»، و»هوامش نقدية».
من المعروف أنّ الدّراسات الثّقافيّة تختلف عن التخصّصات الأخرى كالأنثروبولوجيا الثّقافيّة -مثلاً-، لكنّها تحيط بهذا المجال وتُساهم فيه بشكلٍ لافت. ما رأيك؟
- طارق بوحالة: أوّلاً يجب التعامل مع الدراسات الثّقافيّة باِعتبارها حقلاً معرفيّا عبر تخصص، نشأ خارج أقسام الأدب، يهتم بالثقافة كونها مُمارسة دالة، كما لا تعقد الدراسات الثّقافيّة تفاضلاً بين الأنماط الثّقافيّة؛ بل يمكن للقارئ أن يعثر في مجلة أو كِتاب في الدراسات الثّقافيّة على موضوعات عديدة نذكر منها مثلاً: الصناعة الثّقافيّة، والهويّة والجندر والإثنية وثقافة الاِستهلاك، والموضة والموسيقى، الثقافة الرقميّة والبصريّة، والنجوميّة والعولمة وما بعد الحداثة وما بعد الاِستعمار وغيرها... لهذا فإنّ الدراسات الثّقافيّة تملكُ القدرة على الاِلتفاف على معارف كثيرة -وهي أحد عيوبها التي سُجِلَت ضدّها- لكن الأمر الجوهري الّذي يغيبُ كثيراً عن المُهتمين بهذا الحقل هو أنّ الدراسات الثّقافيّة تتعامل مع الثقافة باِعتبارها مفهومًا سياسيًا وليس أنتربولوجيًا، فالثقافة عندها موطن يتحقّق داخله صراع بين نمطين من الثقافة نمطٌ رسمي وآخر هامشي.
هل يمكن القول أنّ الدّراسات الثّقافيّة تُمارس حقاً التحليل النقدي الكافي للمشهد الثّقافي كما يجب؟
- فعلاً لقد حاولت الدّراسات الثّقافيّة أن تُمارس التحليل النقدي للظاهرة الثّقافيّة السائدة في المجتمع الغربي، خاصّةً في بريطانيا والولايات المُتحدة الأمريكية، حيثُ نعثر على دراسات كثيرة تُسائِل الأشكال الثّقافيّة من هويّة وخطاب وإيديولوجيا وتحيّز، وتُرَكِزُ كثيراً على نقد أساليب التمثيل الخطابي التي تعتمدُ عليها المؤسسات في ترسيخ قِيم خاصة. ويمكن أن أستحضرَ هُنَا كِتاب سايمون ديورينغ: «الدّراسات الثّقافيّة: مُقدمة نقدية»، حيثُ اِشتغلَ على مباحث ثقافيّة عديدة منها العولمة وعلاقتها بالإقليمي والقومي والمحلي ووسائل الإعلام والفضاء العمومي والموسيقى الشعبيّة والثّقافّة التّقنيّة وجدل الهويّة والتعدّديّة الثّقافيّة والعِرق والجنسانية وغيرها... أينَ قَدَمَ تصوّره النقدي حول هذه القضايا وعلاقتها بمؤسسات عديدة تتحكم فيها وتُحركها وِفْقَ إيديولوجيّتها الخاصّة...
التعامل مع هذا الحقل بعيداً عن السّياق المعرفي الّذي أنتجه يضعنا في أزمة مَعرفية وخلل منهجي
الرهان داخل الدّراسات الثّقافيّة يفتحُ أيضًا الكثير من الأسئلةِ الهامة والمُربكة في هذا الحقل. كيف تقرأ إشكالات الإرث النظري للدّراسات الثّقافيّة؟
- يجبُ أوّلاً الاِتفاق على أنّ الحاضنة النظرية التي أنتجت الدّراسات الثّقافيّة هي حاضنة ماركسية، أو ما يُعرف بالماركسية الجديدة، خاصةً إذا اِستحضرنا روّادها في بريطانيا: ريموند ويليامز وستوارت هال وريتشارد هوغارت وغيرهم، فالتعامل مع هذا الحقل بعيداً عن السّياق المعرفي الّذي أنتجه يضعنا في أزمة مَعرفية وخلل منهجي، خاصةً إذا أردنا اِستنبات دراسات ثقافيّة جزائرية -مثلاً- في تربة غير التي ظهرت فيها.
كما إنّ الدّراسات الثّقافيّة ليست واحدة في مُختلف أنحاء العالم، حيثُ إنّها تتلون بلون القضايا الثّقافيّة لكلّ أمة أو بلد تحل فيه، فالدّراسات الثّقافيّة في كندا مثلاً ركزت على القضايا الثّقافيّة التي تخصُ هذا البلد مثل التعدّديّة الثّقافيّة، بل إنّها سلكت مَسلكاً نسويًا بات معروفًا عند المُتخصِّصين. وأيضا هناك دراسات ثقافيّة هندية ركزت على مفاهيم عديدة خاصة مفهوم التاريخ المحلي وضرورة أن يتكلم التابع بعيداً عن السيد الّذي لم يَعُد موجوداً...
هناك مجموعة من الإشكالات التي تُواجه الدّراسات الثّقافيّة في سياقنا العربي
ما هو واقع وحال الدّراسات الثّقافيّة في العالم العربي، وهل أصبحنا على -مستوى الجامعات العربيّة مثلاً- نعي أهمية هذا الحقل؟
- هناك مجموعة من الإشكالات التي تُواجه الدّراسات الثّقافيّة في سياقنا العربي، أهمها الخلط بين هذا المجال والنقد الثقافي مثلاً، أو مُساواته مع الجهود العربية حول الظاهرة الثّقافيّة حتّى قبل أن نستورد الدّراسات الثّقافيّة الغربية في نسختها البريطانية، فما كتبه «مالك بن نبي» في كُتبه العديدة، و»طه حسين» في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر»، و»محمّد عابد الجابري» في كتابه «المثقفون في الحضارة العربية»، و»برهان غليون» في كتابه «اِغتيال العقل»، و»سمير أمين» في كتابه «نحو نظرية للثقافة» وغيرهم يمكن تصنيفه ضمن نقد الثقافة العربية أو النقد الحضاري كما جاء على لسان «هشام شرابي». حيثُ لا يُمكننا أن نقول إنّ هذه الجهود العربية وغيرها هي دراسات ثقافيّة تُقابل التعبير الإنجليزي (Cultural Studies). وهذا لا يعني أن ننكر أهمية اِستقبالها عربيًا بقدر ما يجب علينا توطينها وِفْقَ ما نحتاجه. فدائمًا ما أُرَوِّج لمقولة: هل نحن بحاجة إلى نقد ثقافي، أو دراسات ثقافية أو...؟
ما هي أهم العراقيل التي تُواجه حقل الدّراسات الثّقافيّة؟
- لعل أهم ما يُواجه الدّراسات الثّقافيّة من عراقيل خاصةً في -سياقنا العربي- هي الكثرة المُفرطة من المفاهيم والأسماء والقضايا التي تُثقل كاهل الباحث أو القارئ، كما إنّ الدّراسات الثّقافيّة قد غرقت في النّصيّة ولم تُغادرها، إضافةً إلى الطابع الشمولي، فكما يرى «كريس باركر» يبقى الوقوف على حدود واضحة المعالم للدّراسات الثّقافيّة باِعتبارها حقلاً مُتماسكاً أمراً صعبًا.
النُقاد اِستثمروا مقولات الدّراسات الثّقافيّة من أجل قراءة الأدب بعيداً عن الرؤية الجماليّة
ما هي القواسم المُشتركة بين النقد الثّقافي والدّراسات الثّقافيّة؟ وهل النقد الّذي تُمارسه الدّراسات الثّقافيّة هو نوعٌ من النقد الثّقافي؟
- هناك اِشتراك بين الدّراسات الثّقافيّة والنقد الثقافي من حيث المجال المعرفي المدروس، فهما يهتمان بالثقافة وأنماطها، بيدَ أنّهما يختلفان في التعامل مع نوعية الخطاب الثقافي، حيثُ تبحث الدّراسات الثّقافيّة كما قلنا سابقًا في الثقافة من منظور كلي، بينما يتعامل النقد الثقافي مع الأدب باِعتباره خطاباً جماليًا يتضمن أنساقًا وتمثيلات ثقافيّة.
وقد ظهرت الدّراسات الثّقافيّة خارج أقسام الأدب، وما دراستها للأدب إلاّ لكونه وجهًا من أوجه الثقافة، ومن المجازفة المعرفية اِعتبار الدّراسات الثّقافيّة «دراسات أدبيّة»، بل إنّها تكاد تلتهمها. من جهة أخرى وجد النقد الأدبي في مقولة «البينية» محطة أخرى للخروج من أزمته خاصةً بعد شيوع التنويعات النقدية التي أشاعها النسق المعرفي البنيوي. وعليه فقد اِستثمر النُقاد مقولات الدّراسات الثّقافيّة من أجل قراءة الأدب بعيداً عن الرؤية الجماليّة... ويظهر لي أنّ هذا التزاوج المعرفي بين المجالين هو الّذي أفرز ما نُسميه بالنقد الثقافي كونه اِمتداد للنقد الأدبي وليس مُعارضًا له.
من الخطأ المعرفيّ أن نَتَقَبَّل حُكم إغفال النَّقد الثَّقافيّ للنُّصوص الرَّسميَّة الّتي تُنْتِجُهَا النُّخبة
هل وظيفة النَّقد الثَّقافي، هي، اِستنطاق النُّصوص المقموعة والمُهمَّشة. –مثلاً-؟
- رفع النقد الثّقافي شِعاراَ يتمثل في ضرورة التَّركيز على النُّصوص الأدبيَّة الّتي غَفَلَ عنها المُعتمد الأدبي (CANON)، وأخرجها من دائرة الأدب الرَّسميّ، لهذا فإنّه أعاد الاِعتبار للنُّصوص الهامشيَّة الّتي نشأت خارج هذه الحدود، نصوص اليوميّ والسُّوقيّ وما تكتبه الطَّبقات المُهمّشة، من جهةٍ أخرى من الخطأ المعرفيّ أن نَتَقَبَّل حُكم إغفال النَّقد الثَّقافيّ للنُّصوص الرَّسميَّة الّتي تُنْتِجُهَا النُّخبة بل إنّه تعامل معها كونها نصوصا تضمر أنساق ثقافيّة تُحيلُ على دلالات مختلفة.
من الإجحاف الحكم على النَّقد العربي بأنّه يُعاني «قصوراً معرفيًا»
هل النَّص الإبداعي العربي -لا زال- بعيداً عن التَّناول النَّقديّ من منظور النَّقد الثَّقافيّ؟ أم أنّ النَّقد الثَّقافيّ لم يَتَشَكَّل ولم يَتَأَسَّس بِمَا يَكْفِي في مخيال النَّاقد العربي؟ وهل لم يحن بعد الوقت للحديث عن نقد ثقافي في الجزائر وفي العالم العربي؟
- من الإجحاف الحكم على النَّقد العربي بأنّه يُعاني «قصوراً معرفيًا» في تلقي النَّقد الثَّقافيّ، وتطبيقه على النُّصوص الأدبيَّة المُختلفة، فهناك جهودٌ جيدة في هذا السّياق، غير إنّ الإشكال الّذي بات يُواجه الباحث في هذا الحقل المعرفي يكمنُ في الكثرة المُفرطة من الكِتابات والبحوث والرسائل الأكاديميّة التي أنتجت رُكامًا يحتاجُ إلى تمحيص منهجي وفحص نقدي لقيمته ووجاهته. فقد أصبح الاِشتغال في حقل النَّقد الثَّقافيّ «موضة» أو تقليعة أخرى من تقليعات النَّقد المُعاصر.
هذا لا يعني عدم وجود جهود نقدية ذات وجاهة معرفيّة وفهمٍ عميق للسؤال النَّقدي الثَّقافي، فهناك تجارب مُهمة في العالم العربي يمكن أن أذكر منها التجربة الرائدة للناقد السعودي «عبد الله الغذامي» وما يكتبه الناقد العراقي «سمير الخليل» وتجربة الجماليات الثّقافيّة عند المرحوم الناقد الأردني «يوسف عليمات» وصديقه المُقرب الناقد «أحمد جمال المرازيق»، وكذا «محمّد الشحات» و»هشام زغلول» في مصر و»نادر كاظم» في البحرين...
أمّا في نقدنا الجزائري فالإشكالات المطروحة تُعتبر من نوع آخر وقد ذكرتُ بعضها في مقال سابق، غيرَ إنّنا يجب أن نُقر بأنّ المُنجز الجزائري في النَّقد الثَّقافيّ منجزٌ ثريٌّ ومتنوع تنوع الثّقافة الجزائريّة، حيثُ نعثر على دراسات نقدية مُمتازة حول النُّصوص الروائيّة والشِّعريّة الجزائرية وكذا الاِهتمام بالثّقافة الشعبية والتَّركيز على المحلي منها. بالإضافة إلى دراسات ذات طابع تنظيري يسعى أصحابها إلى خلق سجال نقدي حول النَّقد الثَّقافيّ، وفتح نقاشات مُثمرة عن الأسئلة الّتي تخصُّ الثَّقَافة الوطنية، نذكر ما يكتبه محمّد شوقي الزين واليامين بن تومي ووحيد بن بوعزيز وآمنة بلعلى ولونيس بن علي وقلولي بن ساعد، وشراف شناف، وفيصل الأحمر وعلي خفيف ومصطفى كيحل ووليد بوعديلة وغيرهم...
ن.ل