الشاعر يكتبُ سيرته التي هي في آن واحد سيرة مجتمعه وعصره
يقول الشاعر والكاتب الدكتور أزراج عمر، أنّ الشاعر يكتبُ سيرته الذاتية والتي هي في آن واحد سيرة ذاتية لمجتمعه ولعصره. كما يعتقد من جهة أخرى أنّه على الشاعر أن يقدم لنا كيفية للقبض على موضوع غير ذي شكل ويعطي له الرّوح وليس المفهوم، وأن يعمل بقوّة المخيلة في الفضاءات التي لا يستطيع أن يحدها العقل البشري، أو أن يأسرها في أحكام ومقولات.
حوار: نوّارة لحرش
مضيفاً في ذات السّياق أنّ الشِّعر لا يعني لهُ شيئًا مُحدداً، بل يعني له الحياة التي لا يمكن أن يحدها أو يحدّدها أحد ما. أزراج المعروف بتنوع كتاباته، قال بأن هذا التعدّد قد يعود إلى انغماسه، منذ مغادرته للجزائر، في محاجات فكرية مُتعدّدة الحقول تتكامل فيها الفلسفة، والتحليل النفسي، ونظرية الثّقافة، والفكر السياسي، والآداب.
كما تطرق في حواره مع النصر لمسألة التراث، وهي إشكالية تُثير في كلّ مرّة الكثير من الجدل، فالتُّراث في رأيه هو هذا المجتمع في مواقفه، وسلوكه، وردود فعله، ونفسيته، وأساليبه في الحياة الاِجتماعيّة والسّياسيّة. بمعنى إنّ التُّراث –كما يقول- هو داخل الإنسان وغالبًا ما يكون غير واع به.
للتذكير أزراج عمر شاعر ومفكر وكاتب جزائري يكتب باللغتين العربية والإنجليزية، (من مواليد العام 1952)، عمل في التعليم والصحافة، ويقيم في لندن منذ العام 1986. أصدر عدة مجموعات شعرية، من بينها: «وحرسني الظل» من منشورات الشركة الوطنية للنشر والتوزيع بالجزائر عام 1975، «الجميلة تقتل الوحش»، عن نفس الشركة عام 1978، «العودة إلى تيزي راشد» عن مطبعة لافوميك بالجزائر عام 1984، «الحضور» كتاب مقالات عام 1977، «أحاديث في الفكر والأدب» الصادر عن دار النشر الأمل العام 2007، وهو كتاب ضخم يقع في ثماني صفحات بعد الأربعمائة، وضم عدداً من الأحاديث في الفكر والأدب والسّياسة والتُّراث المشغولة والمهمومة بالأسئلة الفكريّة والأدبيّة التي تحتل حيزاً كبيراً لدى الشاعر أزراج، «منازل من خزف» عبارة عن دراسات في السياسات الثقافية الجزائرية عن منشورات رياض الريس ببريطانيا عام1995، تُعالج قضايا البنية الثّقافيّة للمجتمع الجزائري المُعاصر، «الطريق إلى أثمليكش وقصائد أخرى» عن دار بيسان ببيروت عام 2005.
ترجمت نصوصه إلى عدة لغات منها الفرنسية، الإسبانية، الروسية، والفارسية، والإنجليزية، كما نال عدة جوائز منها جائزة «اللوتس» الأفرو آسيوية للأدب عام 1994 التي يمنحها اتحاد كُتَّاب آسيا وأفريقيا.
على الشاعر أن يعمل بقوّة المخيلة في الفضاءات التي لا يستطيع أن يحدها العقل البشري
كأنّ القصيدة عندك تحمل سيرة الذات وما ينعكس على مرآتها؟ فهل يمكن القول أنّ كلّ قصيدة هي سيرة ذاتية؟
- أزراج عمر: أعتقد أنّ استنتاجك في محله. فالشاعرُ، ربّما، يكتبُ سيرته الذاتية والتي هي في آن واحد هي سيرة ذاتية لمجتمعه ولعصره. ولكن أنا لا أسرد إنّما أحاول أن أجد معادلات موضوعية من خلالها أرى الوجود من خلال ذاتي وأرى ذاتي مبعثرة في برزخ الوجود.
وماذا عن ذاتك وتجربتك في بريطانيا؟
- في تجربتي البريطانية تعلمتُ بأنّني لا أملك اللّغة، بل أنا مملوكٌ لها، كما فهمتُ بأنّ الوطن ليس سوى فكرة نُحاول أن نختزلها في النّاس والجغرافيا وأجراس الطفولة. فالّذي يزداد لديّ اِتساعاً هو اكتشاف براءة جهلي بالحياة. في إحدى قصائده الرائعة قال الشاعر الإيرلندي بطلرييتس بأنّ الحياة لا يمكن أن تفهم إلاّ كمأساة. أستطيع هنا أن أُضيف بأنّ الشِّعر هو محاولة منّا نحن البشر لكي نفهم أنّ جوهر المعرفة هو الاِكتشاف المُدهش والدائم لجهلنا حتّى لذواتنا التي نعتقد جازمين بأنّها من صنعنا، في حين أنها ليست كذلك بالمرّة. إنّ حقائق التحليل النفسي تُؤكد لنا بأننا لا نقدر أن نجد مفهوما ضابطاً «للواقعي» The reel لأنه يوجد خارج البنية، كما يرى المحلل النفسي والفيلسوف الفرنسي جاك لاكان بحق، أو لنقل خارج بنية مبدأ الواقع بِمَّا في ذلك السجل الرمزي.
لقد أُعجبت كثيراً باعتراف إمانويل كانط عندما قال بأنّ «جمال الطبيعة يتعلق بشكل الموضوع، الّذي يقوم في التحديد، وفي مقابل ذلك، فإنّ السامي يمكن أن يوجد أيضًا في موضوع غير ذي شكل» ثم يوضح أكثر بقوله «وهكذا يبدو أنّ الجميل يناسب عرض مفهوم غير محدّد للذهن، بينما يناسب السامي عرض مفهوم غير محدّد للعقل». أعتقد أنه على الشاعر أن يقدم لنا كيفية للقبض على موضوع غير ذي شكل ويعطي له الرّوح وليس المفهوم، وأن يعمل بقوّة المخيلة في الفضاءات التي لا يستطيع أن يحدها العقل البشري، أو أن يأسرها في أحكام ومقولات.
هل يُرادف الشِّعر الحياة في بعض مراحلها أو سياقاتها؟
- ليس الشِّعر عندي ترفيهاً أو تأملات عابرة. أنا أكتبُ الشِّعر، ربّما، لأعوض به عن الفقدان، ولأنني أخاف من الوحشة الرّوحيّة أن تغزوني دفعةً واحدة، وإلى الأبد. نعم، فالشِّعر لا يعني لي شيئًا مُحدداً، بل يعني لي الحياة التي لا يمكن أن يحدها أو يحدّدها أحد ما، أو شيء ما. فأنا أكتبُ الشِّعر حيناً، وأتوقف عنه سنوات، ثم نعود إلى بعضنا، وثمّ نبدأ في التعرف على ألم الفراق الطويل. مرّة سألني صديق إنكليزي هذا السؤال: هل ستتخلى عن الشِّعر لو حقَّق لك أحد ما كلّ ما تريده في هذه الحياة فأجبته بـ”لا”، ثم قلت له بصوت يشتعل رهافة: إنني أريد معنى الحياة ذاتها، وليس ما يوجد في هذه الحياة!...
الشاعر يجرب كلّ شيء له علاقة بالاكتشاف المعرفي
تكتب الشِّعر، وتكتب مقالات وزوايا وأعمدة في الفكر والسياسة. هل على الشاعر فيك أن ينخرط في السياسة أيضًا ولو من باب الكتابة؟
- صحيح بأنني أكتب الشِّعر، وأكتب في الفِكر، وفي السّياسة. أفعلُ ذلك، ربّما، لأنني أريد كلّ شيء دفعة واحدة قبل أن يعتقلني الموت إلى الأبد خاصّةً وأنا بدأت أكبر في السن. وقد يعود هذا التعدّد إلى انغماسي، منذ مغادرتي للجزائر، في محاجات فكرية مُتعدّدة الحقول تتكامل فيها الفلسفة، والتحليل النفسي، ونظرية الثّقافة، والفكر السياسي، والآداب.
لم يبق لي إلاّ الكتابة لعلها تُساعدني أن أرغب في الاِستمرار في الحياة مع النّاس، وربّما هذا ما يُفسر هذا التعدّد في المداخل والمنظورات. أعتقد أنّ الشاعر يجرب كلّ شيء له علاقة بالاكتشاف المعرفي، وهذا حق له. فالسّياسة عندي هي فلسفة ومعرفة وهندسة للإنسان الجديد.
الشاعر يُدرك بالحُلم وبالرؤيا ويخفق كثيراً في الإدراك باليقظة الميكانيكية
برأيك ما هي أو كيف هي علاقة المعرفة بالشِّعر؟
- الشاعر يُقدم ما هو مُعتقد فيه كما تفعل الأسطورة، ولا يقدم اليقين. فالشِّعر تمثيلات باِعتبارها مُحاكاة للواقع حيناً، ولكن سرعان ما يتم تجريدها من أجل الدخول إلى غابات الرموز التي تُشير إلى معنى، وليس إلى واقع مثلما قال أحد المفكرين.
لا أعتقد بأنّ في شِعري -مثلاً- معرفة بِمَّا هي معلومات، أو أفكار مُحدّدة، أو نظريات تُفسر ظواهر الطبيعة، أو تجربة الحب، أو القلق مثلاً. لو أنّه لديّ معرفة نهائية بأي شيء، أو بأية ظاهرة أثناء مُمارسة الوجد الشِّعري لتوقفت عن كتابة الشِّعر، ولأصبحت مطمئنًا أو يائساً بشكل نهائي. فالقصيدة دهشّة، أو سُؤال، أو إعلان عن إخفاق الحواس على تعقل تضاريس الوجود والعدم، وعواصف الحياة. إنّها «أي القصيدة» إفشاء لضُعف معرفة الإنسان رغم كلّ الإنجازات التي يعتبر نفسه بأنّه أفلح فيها لترويضها، وتسخيرها لشؤونه، ولنزواته. ففي الحقيقة، فإنّ الشاعر يُدرك بالحُلم وبالرؤيا، ويخفق كثيراً في الإدراك باليقظة الميكانيكية.
لهذا أقول لكِ إنّ علاقة المعرفة بالشِّعر علاقة تضاد في أغلب الأحيان على أساس أنّ الشاعر يُحاول دائماً أن يكتشف ما لا تعرفه معرفة العصور بِما في ذلك عصره. وبمعنىً آخر فالشاعر أشبه بالعرافين الذين يقدمون إشارات، وليس نظريات في فيزياء الطبيعة، وفي كيمياء الحب.
أعتقد بأنّ تجربتي ببريطانيا قد غيرتني رأسًا على عقب. مرّة قال الفيلسوف جاك دريدا بأنّ الديمقراطية توجد دائماً في المستقبل، وأعتقد بأنّه يقصد بأنّ كلّ أشكال الثّقافة، والحضارة، والحكم التي عرفناها حتى الآن لم تحل معضلة العدالة والحرية سواء بين الأفراد، أو بين الدول. فالعدالة، كحلم، وربّما كقصيدة، توجد في المستقبل أيضا. نحن نظن بأننا قد قبضنا على المعرفة وأشكالها ومضامينها، ولكن الأجيال التي تولد وستعيش بعد قرون من رحيلنا ستلتفت إلى الماضي، أي إلينا «نحن» كماضٍ وتسخر من أحكامنا ووصفاتنا المعرفية التي جهزناها لها مسبقا.
لاشك بأنّ الّذي أقصده في إحدى قصائدي التي تبدأ هكذا: «هل سنأتي يومًا من أقاصي المعرفة؟» هو أنّنا سندركُ، وينبغي أن ندرك بأننا سوف نعرف بأننا بشر فانون، وأنّ اللذة التي نعتصم بها لإثبات ذاتيتنا في الدنيا هي ظل من ظلال الموت.
«الكائنات التُّراثيّة» خاضعة تماماً وبدون مُساءلة لسلطة التُّراث ومقاييسه
إلى أي حد نحن كائنات تُراثية، وهل الكائنات التّراثية هي خارج التطوّر والعصر أو الحداثة؟
- التُّراث هو جزء من الذات العمياء التي لا ترى نفسها كثيراً. فالتُّراث قَيْدٌ حين يكونُ الموتى هم الذين يشرّعون لنا، ويفصّلون الملابس لحياتنا. كما أنّه حرية عندما يكون طاقة إبداع ونقد تُساعد الحاضر على التخلص من عبء التخلف والنكوص، والتحجر. لا أعتقد بأنّ التُّراث هو الكل المادي والرمزي الموجود هناك خارج الإنسان في أي مجتمع بِمّا في ذلك مجتمعنا الجزائري. فالتُّراث في رأيي هو هذا المجتمع في مواقفه، وسلوكه، وردود فعله، ونفسيته، وأساليبه في الحياة الاِجتماعيّة والسّياسيّة. بمعنى إنّ التُّراث هو داخل الإنسان وغالبًا ما يكون غير واع به. ولذلك فإنّ المقصود بمصطلح “الكائنات التراثية” الّذي استخدمته، واستخدمه غيري أيضًا هو أنّ الّذي يحركنا هو ما ترسب في “طبقات وعينا غير النقدي”، وفي مخزون “لاوعي” هذه “الكائنات التُّراثيّة” البشريّة. عندما يكون الوضع هكذا فإنه يمكن القول بأنّ هذه “الكائنات” لا تعيش تراثها لأنّ العيش يقوم على أساس اختيار أُفق وأسلوب ومعنى المعيشة.
إنّ “الكائنات التُّراثيّة” خاضعة تماماً وبدون مُساءلة لسلطة التُّراث ومقاييسه. وفي هذا الوضع بالذات تكمنُ الديكتاتورية، وتطمس الفاعلية. هذا على المستوى النظري، أمّا على المستوى العملي فإنّ المطلوب هو تفكيك العلاقة القائمة بين ما هو قيود وتسلط في التُّراث، وبين المُمارسات التي تُعيد إنتاج ذلك التسلط على مستوى الأفراد والجماعات، والمؤسسات، وأجهزة الدولة الإيديولوجية مع تشريح المبررات، ونقد الآليات الدفاعية التي تكرس استمرار وباء التخلف في مجتمعنا وهو نموذج صالح للدراسة.