تعد المنطقة التاريخية شعبة الغولة بعين السيلان ببلدية الحامة بولاية خنشلة شاهدا على أحداث 1 نوفمبر 1954، و هي المكان الذي انطلقت منه أول رصاصة معلنة بداية الكفاح المسلح بقيادة البطل الرمز عباس لغرور و 40 مجاهدا، و من بينهم المجاهد عبد القادر بورمادة، الذي لا يزال يذكر إلى اليوم تفاصيل تلك الليلة و قد روى بعضا منها للنصر.
كلتوم رابية
النصر تنقلت إلى منزل المجاهد عبد القادر بورمادة ، الشاهد الوحيد الذي لا يزال على قيد الحياة من ضمن 41 مجاهدا حضروا اجتماع الأفواج المفجرة للثورة التحريرية بخنشلة، ومن الفرقة التي أطلقت الرصاصة الأولى في ثورة التحرير 1954.
استقبلنا بحفاوة وحدثنا بكل حماس عن الأحداث و العمليات التي شارك فيها، رغم مرضه و هو الذي تجاوز اليوم 90 من العمر، وأبرز لنا الدور الكبير الذي قام به أبطال الجزائر من أجل التحضير للثورة و شجاعة و بسالة حفنة من الرجال يقدر عددهم بـ 40 مجاهدا، لإطلاق الثورة ضد مستعمر فرنسي عذب و شرد و قتل ومارس أبشع الجرائم ضد شعب أعزل.
يقول المجاهد بورمادة أن التحضير للثورة بدأ بعد مجازر 8 ماي 1945 بعد التأكد بأن لغة الحوار و التفاوض لم تعد تجدي نفعا في مجابهة العدو و أن الحصول على الاستقلال بطريقة سلمية بات غير ممكن، ما استدعى اللجوء إلى لغة السلاح و النار كحل أخير لتحقيق النصر، و بدأت التحضيرات في هدوء و سرية تامة من خلال اللقاءات الأولية ، و جمع السلاح من المناضلين و اخفائه و جمع الاشتراكات، مع تكوين المجاهدين وتدريبهم على استخدام السلاح، و مع اقتراب موعد إعلان بداية الحرب على المستعمر الفرنسي، تمت تأدية القسم على القرآن من أجل الحفاظ على الثورة و سريتها، ثم إعداد خطة محكمة بتقسيم الرجال المشاركين الى مجموعات و المهام الموكلة لكل فوج و المناطق المحددة.
تخطيط محكم و مباراة في كرة القدم للتغطية على الأحداث
وفي شهادته أبرز المجاهد دقة التخطيط حتى من خلال استغلال مباراة اتحاد مدينة خنشلة لكرة القدم بالنادي الرياضي القسنطيني مساء 31 أكتوبر 1954 من أجل التغطية على التحضير للعمليات، خاصة مع غفلة العدو والمستوطنين وسكان المدينة بهذه المباراة وهو ما خطط له بشكل جيد القائد عباس لغرور.
وقد تم تكليف المجاهد ابراهيم عثماني المدعو التيجاني قائد الفوج الأول الذي كان يشتغل في مجال الكهرباء، باقتحام المولد الكهربائي ليلة الأول من نوفمبر لقطع أسلاك الكهرباء لبداية الهجوم، و الإعلان عن بداية الثورة التحريرية.
وأكد المجاهد أن قادة الأفواج الخمسة المفجرين للثورة بخنشلة وهم عباس لغرور وبن عباس الغزالي وكشرود علي وسعدي معمر وعثماني تيجاني، بالإضافة إلى بعض العناصر الأخرى الذين وضعت فيهم ثقة السرية والجدية لتنفيذ العمليات المخطط لها بمهاجمة العديد من مراكز العدو الفرنسي بوسط مدينة خنشلة في تلك الليلة. كما أنه قبل الانطلاق نحو الوجهات المحددة، ألقى عباس لغرور خطابا كان له أثر كبير في زيادة حماس المجاهدين وشجاعتهم، أكد لهم فيها ضرورة نجاح الهجوم على كل نقطة استعمارية يتم استهدافها في تلك الليلة ، حيث قال لهم: «إنني على يقين بأن الشعب الجزائري بأكمله سيتبع مسيرتنا على هذا الدرب، إني أثق بكم وبشجاعتكم وبتصميمكم، انطلقوا واضربوا العدو بقوة و عودوا ظافرين وذلك لأن الله مع المجاهدين ومع القضية العادلة والله أكبر» ، كما أنه أطلع الجميع على كلمة السر وهي «خالد و عقبة».
قمت رفقة 6 مجاهدين يتقدمهم عباس لغرور بمهاجمة دار الحاكم
وأوضح المجاهد عبد القادر بورمادة أنه كان ضمن فوج يتكون من 6 مجاهدين آخرين بقيادة عباس لغرور، منهم المجاهدين بوعطيل إبراهيم ، محمد اللموشي بوعزيز ، سامر محمد ، بورمادة قدور و شامي محمد ، حيث قام هذا الفوج بمهاجمة دار الحاكم ، وكان كل فرد من الفوج مكلف بمهمة معينة، حيث تم تكليفه بحمل قفة بها قارورات للبنزين و مباشرة بعد وصولهم إلى مقر دار الحاكم هاجموا الموجودين فيه وحينها قام عباس لغرور بإطلاق النار على أحد الفرنسيين قبل الدخول في اشتباك مع البقية، وقام بورمادة بإشعال النار بعد سكب البنزين وتم حرق جزء كبير من هذا المقر الاستعماري ، بعدها انسحب الفوج وعاد إلى نقطة الانطلاق على مستوى منطقة شعبة الغولة .أما الأفواج الأخرى، فقد كلف كل منها بمهاجمة هدف معين منها مقر فرقة الدرك المعروفة بالجندرمة والثكنة العسكرية ومقر الشرطة والمحول الكهربائي.
و أكد أستاذ تخصص تاريخ بجامعة عباس لغرور بخنشلة ، الدكتور رامي سيدي محمد في لقائه بالنصر ، أن الثورة الجزائرية التي اندلعت في ليلة الفاتح من نوفمبر 1954، كانت نقطة تحول في الكفاح الجزائري من أجل الاستقلال، خاصة أنه تم التخطيط لها بعناية من قبل قادة الثورة لاستهداف أهم المواقع الاستعمارية في البلاد. تمثلت الأهداف الأساسية في الهجوم على مراكز الشرطة والدرك وبعض المنشآت الإدارية والتقنية للسلطات الاستعمارية، إضافة إلى استهداف مزارع المستوطنين الفرنسيين، حيث بدأت الثورة بقوة في المنطقة الأولى منطقة الأوراس التي قادها الشهيد مصطفى بن بولعيد ، ورغم قلة الإمكانيات المادية والبشرية المتوفرة آنذاك مقارنة بالإمكانات الكبيرة التي كان يمتلكها الجيش الاستعماري الفرنسي، أبدى المجاهدون عزيمة وإصرارا استثنائيين.
وفي ولاية خنشلة، تم اختيار موقع استراتيجي لاجتماع المجاهدين يُعرف بـ»شعبة الغولة»، نظرا لصعوبة وصول القوات الفرنسية إليه ليلا وإمكانية مراقبة تحركات العدو منه باعتبارها منطقة نائية ومعزولة تبعد 4 كلم عن خنشلة المدينة قرب بلدية الحامة، و خصص مكان لعقد اجتماع تنسيقي بين قادة الثورة كونه يتميز بموقعه الجغرافي الذي يصعب الوصول إليه، مما وفر الحماية والسرية اللازمة لقادة الثورة بعيدا عن أعين الجيش الفرنسي ، وكان هذا الاجتماع من أولى الخطوات التنظيمية التي اتخذها قادة الثورة في منطقة الأوراس، بهدف التخطيط للعمليات وتوزيع المهام، خاصة أن منطقة الأوراس كانت من المناطق الرئيسية لانطلاق العمليات الأولى.
استراتيجية لاستهداف المناطق العسكرية و الاقتصادية
و أكد لنا الدكتور ، أن الاجتماع التنسيقي كان بقيادة عباس لغرور، وحضره قادة الأفواج وأربعون من المجاهدين المقرر تنفيذهم لهجمات وسط مدينة خنشلة. كما شهد الاجتماع، الذي لم يكن الهدف الرئيسي منه معلنا لمعظم المجاهدين، تخطيطا دقيقا، حيث أعطى القائد لغرور إشارة البدء بالهجمات مع تزويد المجاهدين بكلمة السر «خالد وعقبة»، مما زاد من حماسهم وروحهم القتالية، وتضمنت العمليات التي قادها الرمز البطل عباس لغرور و رفقاؤه إحراق دار الحاكم، وقطع التيار الكهربائي عن المدينة، مما أصاب العدو بالارتباك وأعطى المجاهدين التفوق ،كما شهدت الليلة الأولى هجوم المجاهدين على محافظة الشرطة المركزية و إلقاء القبض على حراسها وتجريدهم من أسلحتهم، وتحطيم المولد الكهربائي ،وكذلك الهجوم على الثكنة العسكرية .
و أكد الأمين الولائي لمنظمة المجاهدين، المجاهد بوزيد عباسي في لقائه بالنصر ، أن ولاية خنشلة هي النقطة الأولى لاندلاع الثورة التحريرية الحزائرية بشعبة الغولة، ورمز الولاية هو المجاهد عباس لغرور الذي كان لديه أعضاء على مستوى كل جهة من الولاية للتنسيق المحكم، حيث تم إعلام الأعضاء بموعد انطلاق الثورة التحريرية ليلة 1 نوفمبر على الساعة 12 ليلا بالضبط على مستوى كل الجهات ، و قد تم إطلاق أول رصاصة في منطقة عين السيلان ببلدية الحامة التي كانت تجتمع فيها الأفواج.
الهجومات بخنشلة نجحت و تم غنيمة العديد من قطع السلاح
و تكفلت 5 أفواج بالقيام بالمهام الموكلة لها بشجاعة و بسالة على أكمل وجه، حيث قام الفوج الأول بقيادة ابراهيم عثماني باقتحام خزينة المولد الكهربائي و قطع أسلاك الكهرباء و الهاتف ، و كانت هذه العملية الإشارة الأولى لبدء الهجوم ، وتكفل عباس لغرور قائد الفوج الثاني و معاونوه بالهجوم على دار الحاكم ، وتكفل الفوج الثالث بمهاجمة مقر الشرطة تحت قيادة إبن عباس الغزالي بمساعدة المجاهدين ابن كوت عبد الكريم ،الأرقط الهاشمي ، لحميم رشيد ، لغرور شعبان و عقابة حمودي و وقاد لخميسي أين تم تجريد عناصر الشرطة من أسلحتهم، أما الفوج الرابع فقد تم تكليفه بمهاجمة الثكنة العسكرية بقيادة المجاهد سعيد معمر و معاونيه بن زيدان رمضان ، بوهلالة محمد ، حفطاري صالح ، زروالي عبد الحميد ، زايدي سليمان و زايدي عمر ، مساعدة ناصر السوفي ، نواصرية عبد الرحمان، عريف أحسين و عريف فرحات و عجال، و هو الهجوم الذي قتل فيه قائد المناوبة الليلية الملازم دارنو، وذلك عند خروجه مسرعا لسماعه صوت السلاح لأنه لم يكن على دراية بما يحدث فكان أول ضابط قتل في 1 نوفمبر، و تم تكليف الفوج الخامس باقتحام مقر الجندرمة بقيادة الشهيد علي كشرود و معاونيه كل من المجاهد الأعور الربيعي ،حمام المدعو شاكر عمار و حمام عمار و حفطاري علي و مخلوفي كمال و غرياني علي وهي أفواج خمسة كانت قاعدتها الخلفية مدعمة بفوج سادس وهو فوج الإسناد بقيادة المجاهد بوبكر سالم، وكانت العمليات الأولى على مستوى الولاية ناجحة 100 بالمائة ، تم من خلالها استعادة قطع هامة من الذخيرة و الأسلحة.
هجومات أرعبت الجيوش الفرنسية
وحسب الشهادات التي جمعتها مديرية المجاهدين بولاية خنشلة ، فقد انطلقت أفواج أخرى للثورة معلنة عن شرارتها الأولى من الموقع التاريخي الثاني بجبال يابوس ، بقيادة المجاهد عمار معاش ، بفوج أول تمت فيه مباغتة حراس الغابات المعروف ب «الكنتينة» فيما اتجه الفوج الثاني بقيادة المجاهد حسين بولزازن نحو منزل «القايد « بتاغرسيت، أما الفوج الثالث بقيادة المجاهد مدور لمبارك و الذي تم فيه الاستيلاء على أسلحة حراس الغابات، و اتجه الفوج الرابع إلى قطع الطرق و تخريب الجسور بقيادة المجاهد محمد تارقات أين تمت العملية بنجاح في قطع الطريق الرابط بين يابوس و إشمول.
وكان دوار الولجة هو الموقع التاريخي الثالث لانطلاق الأفواج الأولى في غرة نوفمبر 1954، بقيادة الشهيدين سوفي عبد الحفيظ و عبد الوهاب عثماني ، تم من خلالها اقتحام بيت حارس الغابات ببوجراف بقيادة صالح حاجي بن مسعود ، تم من خلاله استعادة قطع من الأسلحة فيما تم تخريب مركز «الماريكانية» المعروف بشركة الغابات أوقرويث بقيادة بوعلي محمد بن بولعراس وقد تم في تلك الليلة قطع الطريق بين ملاقو و أسول بقيادة مساعدي محمد الصغير ، كما استهدفت أفواج أخرى مواقع استعمارية و تكفلت بقطع الطريق بين بوحمامة و لمصارة بقيادة محمد فرحاتي و حرق مكتب القايد بقيادة عبد الوهاب عثماني، وقاد أحمد خالدي فوجا اقتحم فيه دار القايد بالولجة و تم الاستيلاء على الأسلحة فيما استولى المجاهد قاسمي محمد بن التهامي على سلاح المعلمين بمدرسة الولجة.
و أثارت كل هذه الهجومات التي تم شنها في ليلة الأول من نوفمبر 1954 من طرف أبطال شجعان أمنوا بعدالة قضيتهم، رعبا لدى السلطات الاستعمارية وارتباكا كبيرا وقعت فيه الجيوش الفرنسية،استدعت من قوات فرنسا بخنشلة مضاعفة عدد العساكر و تزويد المنطقة بالعدة و العتاد، فاستدعى الأمر جلب قوات إضافية من عين البيضاء و قسنطينة، كما قام وزير الداخلية لفرنسا فرنسوا ميتران بزيارة خاطفة لخنشلة مشددا على حاكمها العسكري بضرورة شد الخناق على من سماهم بالخارجين عن القانون. ك. ر