أكد أستاذ التاريخ المعاصر بجامعة وهران البروفيسور رابح لونيسي، على أهمية توظيف الماضي لخدمة حاضرنا ومستقبلنا و الاهتمام بأفكار الثورة ومبادئها وقيمها، داعيا شباب اليوم للاستلهام من التاريخ الوطني وذكر أن الجزائر، كانت عاملا رئيسيا في تحرير العديد من الشعوب، حيث أصبحت نموذجا في عملية التحرير، لافتا من جهة أخرى، إلى أنه على الدول التي تعرضت للاستعمار، أن تسعى إلى إصدار قرار أممي لتجريم الاستعمار .
أجرى الحوار مراد - ح
النصر: تحيي الجزائر الذكرى ال70 لاندلاع الثورة التحريرية في ظل تحولات وتحديات عديدة على المستوى الداخلي و الخارجي، ماذا تقولون بخصوص ضرورة استلهام العبر من الذكرى ورسالة الشهداء ؟
رابح لونيسي: ما يمكن أن يستلهمه الشباب الجزائري من هذه الثورة ومن اندلاعها هو التضحيات الجسام من أجل إقامة الدولة الوطنية وما نحتاجه اليوم من الجزائري هو العمل و التضحية من أجل بناء جزائر قوية في كل المجالات ، السياسية والاقتصادية والعسكرية والعلمية والثقافية وغيرها، لأن هذه الدولة الوطنية لم تأت من عدم، بل جاءت بتضحيات تجاوزت 6 ملايين شهيد ولهذا يجب علينا بكل ما أوتينا من قوة الحفاظ على هذه الدولة و التي لا يمكن الدفاع عنها إلا بتحقيق حلم الشهداء وحلم المجاهدين وهو إقامة دولة وطنية قوية في كل المجالات .
الشعب الجزائري تمكن من الانتصار على فرنسا بوحدته وتكتله
ومن جانب آخر، فقد تمكن الشعب الجزائري من الانتصار على فرنسا الاستعمارية بوحدته وتكتله في جبهة واحدة هي جبهة التحرير الوطني، فالأمة الجزائرية بكل مناطقها وتوجهاتها الأيديولوجية وانتماءاتها السياسية وكل ألسنتها و تنوعاتها واختلافاتها ، توحدت في جبهة واحدة من أجل طرد الاستعمار الفرنسي.واليوم نحن في مواجهة أمر آخر وهو مواجهة تحديات أمنية خارجية و مواجهة مؤامرات ضد الجزائر وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بنفس الأسلوب وهو تكتل الشعب الجزائري بكل فئاته وأطيافه في جبهة واحدة كما تكتل أبناء الثورة التحريرية وهذا لمواجهة كل التحديات الأمنية والاقتصادية وغيرها .
النصر: كيف كانت التحضيرات لتفجير الثورة واندلاعها وما هي الاستراتيجية التي انتهجتها من أجل الانتصار؟
- نعرف جيدا أن المقاومات الشعبية فشلت في القرن التاسع عشر ويعود فشلها لعدة أسباب ومنها أنها لم تكن مقاومات شاملة ويمكن أن نستثني مقاومة الأمير عبد القادر، فقد كانت تلك المقاومات تخص مناطق دون مناطق أخرى والسبب الثاني للفشل هو أنها كانت مرتبطة بزعيم للمقاومة ومباشرة بعد استشهاد ذلك الزعيم أو القائد تنتهي المقاومة والعامل الثالث، انعدام القواعد الخلفية لتلك المقاومة .وقد درس قادة الثورة التحريرية، جيدا هذه المقاومات ولهذا قالوا لابد أن تكون الثورة شاملة وتعلن في كل مناطق البلاد وثانيا أن لا ترتبط بأي زعيم وأن تكون القيادة جماعية وثالثا ضرورة إيجاد قواعد خلفية عند الجيران وعند مصر ورابعا أن تكون مرتبطة بعمل مسلح وعمل سياسي ودبلوماسي وفني ورياضي وأن تكون الثورة شاملة .
المهاجرون اكتسبوا أساليب جديدة للنضال
ولا يمكن الحديث عن ثورة أول نوفمبر دون الحديث عن نجم شمال إفريقيا الذي أسسه المهاجرون في فرنسا، لأن هؤلاء المهاجرين اكتسبوا أساليب جديدة للنضال وهي الأحزاب والإعلام والمظاهرات والنقابات وغيرها من الأساليب الجديدة، بعدما احتكوا بالأوروبيين، و نعرف أن نجم شمال إفريقيا سيتطور ويصبح يسمى بحزب الشعب الجزائري ثم بعد الحرب العالمية الثانية، سيصبح الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية. هؤلاء هم الذين سيؤسسون المنظمة الخاصة، وهي منظمة شبه عسكرية مهمتها التحضير للعمل المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، خاصة بعدما اقتنعوا أن هذا الاستعمار لا يفهم إلا لغة القوة بعد مجازر 8 ماي 1945، فهؤلاء أعضاء المنظمة الخاصة، هم الذين أنشأوا جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني وأعلنوا العمل المسلح في ليلة أول نوفمبر 1954 ، و طبعا استغلوا الظروف آنذاك، الكفاح المسلح في تونس والمغرب وهزيمة فرنسا في الهند الصينية، حيث عرفوا كيف يقرؤون هذه الظروف وفجروا الثورة وقد التحقت كل التنظيمات الأخرى بالثورة فيما بعد .
النصر : شهدت الثورة العديد من المحطات البارزة، كيف ساهمت مختلف المراحل في رأيكم في دفع مسار الثورة و الوصول إلى تحقيق الاستقلال ؟
- المحطة الأولى هي 20 أوت 1955 ، لأن في تلك الفترة كان الاستعمار الفرنسي يروج بأن الثورة فشلت، خاصة بعد حصار الأوراس، الذي كان المركز الرئيسي للثورة .و قد حاصر الاستعمار منطقة الأوراس التي تعتبر رئة الثورة، كونها معبرا رئيسيا لتمرير الأسلحة الآتية من مصر عبر ليبيا وتونس وعبر الأوراس، ثم تأتي إلى المناطق الأخرى ، وهذا الصمود سمح بمواصلة الثورة .
وقد رفعت هجومات الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955 معنويات الشعب الجزائري، حيث كانت هذه الهجومات في وضح النهار وأكدت أن الثورة لازالت قائمة وكذبت كل ما كان يروجه الاستعمار الفرنسي بأن ما يسميهم بالخارجين عن القانون قد قضت عليهم.والمحطة الأخرى هي التحاق الطلبة وقبلها التحاق التنظيمات الأخرى كجماعة فرحات عباس وجمعية العلماء المسلمين وانضمام كل الشرائح الاجتماعية للثورة .وكان التحاق الطلبة، ضربة قاسمة للاستعمار الفرنسي، لأنه كان يروج أن هؤلاء مجرد غوغاء وخارجين عن القانون ، لكن عندما نجد مثقفين التحقوا بالثورة معناه تكذيب كل ما كان يروجه الاستعمار .
مظاهرات 11 ديسمبر1960 جعلت ديغول يفشل نهائيا
ثم تأتي محطة هامة جدا وهي مؤتمر الصومام الذي أعاد تنظيم الثورة وهيكلتها وأعطى لها مؤسساتها ووضع النواة الأساسية لإقامة الدولة الوطنية فيما بعد ، فنظم الجيش والمناطق ونظم كل شيء يتعلق بالثورة وكان للتنظيم الذي وقع في مؤتمر الصومام أحد العوامل الأساسية لنجاح الثورة، ثم فيما بعد نشأت الحكومة المؤقتة الجمهورية الجزائرية التي أعطت دفعا دبلوماسيا لا يستهان به .
وكانت مظاهرات 11 ديسمبر 1960 الضربة القاسمة النهائية للاستعمار، جعلت ديغول يفشل نهائيا ويعترف بوجود أمة جزائرية من حقها أن تقرر مصيرها و أن تقيم دولتها الوطنية، فبدأت المفاوضات لتنتهي إلى اتفاقية إيفيان 1962 أين تم تحقيق الهدف الاستراتيجي والذي سطر في بيان أول نوفمبر وهو استعادة السيادة الوطنية وأكيد وقعت تنازلات تكتيكية، لكن لم تكن تنازلات استراتيجية وقد نجحت الثورة بسبب وجود خط أحمر لا يسمح لأي كان التنازل عنه وهو هذا الهدف الاستراتيجي وهو استعادة السيادة الوطنية والاعتراف الفرنسي بالسيادة الجزائرية على كل التراب الوطني و بوحدة الأمة الجزائرية وهذا قد تحقق في اتفاقيات إيفيان 1962 .
المفاوض الجزائري كان على مستوى عال من الحنكة الدبلوماسية
النصر : المفاوض الجزائري كان على مستوى عال من الحنكة الدبلوماسية ما ذا تقولون بخصوص أداء الدبلوماسية الجزائرية في تلك الفترة ؟
- المفاوض الجزائري الذي لم يتعلم في الأكاديميات أو الجامعات ، كان عصاميا و يعرف كيف يضغط ومتى يتنازل، وقد برزت هذه الحنكة للدبلوماسية الجزائرية آنذاك وهذه الدبلوماسية حددت مبادئ لا تزال إلى غاية اليوم، أسس لسياستنا الخارجية، والمتعلقة بالسلم العالمي ودعم قضايا التحرر وحق الشعوب في تقرير مصيرها وعدم التدخل في شؤون الدول، كما أن الحياد الإيجابي ساعد الثورة بشكل كبير وذلك بالاستفادة من كل التناقضات العالمية ومن الحرب الباردة لخدمة الجزائر ومصالحها .
فقد عرفت الدبلوماسية، كيف تعرض القضية الجزائرية كقضية إنسانية وقضية تحررية ولهذا كسبت كل العالم آنذاك بالتضحيات و بالخطاب السياسي الذي كان موجها للإنسانية جمعاء وهذا الخطاب ساهم في كسب العديد من الداعمين لها ليس فقط في العالم العربي والإسلامي، بل تعاطف معنا أغلب شعوب العالم و في أمريكا وحتى داخل فرنسا ذاتها تعاطف الكثير مع قضية الشعب الجزائري، لأننا عرفنا كيف نقدمها كقضية تحرر وقضية إنسانية ولم ندخل فيها عوامل أخرى و التي يمكن أن تفقدنا هذا الدعم، خاصة وأننا عرفنا كيف نطبق مبدأ الحياد الإيجابي .
النصر : بيان أول نوفمبر شكل وثيقة تاريخية ومرجعية هامة أسست لمرحلة مفصلية في تاريخ الجزائر، كيف ذلك؟
رابح لونيسي: بيان أول نوفمبر، يعتبر الوثيقة التأسيسية للدولة الوطنية وطبعا البيان أشار إلى ظروف اندلاع الثورة وحدت الوثيقة أهداف الثورة وهي إقامة الدولة الجزائرية، ديمقراطية واجتماعية ، ضمن إطار المبادئ الاسلامية، ولحد اليوم نحن نسير على هذا المبدأ في ظل الإصرار على العدالة الاجتماعية ودولة اجتماعية بأتم معنى الكلم و المبدأ الثاني وهو مبدأ المواطنة واحترام الحريات الأساسية دون أي تمييز عرقي أو ديني، فكل المواطنين لهم نفس الحقوق والواجبات .
اهتمام كبير بالتاريخ الوطني والذاكرة
النصر: ماذا عن أهمية الكتابة التاريخية و مواصلة الحفاظ على الذاكرة الوطنية وإعلاء صوت الجزائر ؟
- اليوم هناك عدد كبير من أقسام التاريخ والمؤرخين والمهتمين بالتاريخ الوطني في كل مراحله وليس فقط بتاريخ الثورة، فهناك اهتمام كبير بهذه الذاكرة، لأنها هي الأساس لأن الدولة الوطنية، بنيت على أساس هذا التاريخ الوطني الذي يجب الحفاظ عليه من جهة، حفاظا على الدولة الوطنية ومن أجل تذكير الأجيال بمدى التضحيات التي قام بها الجزائريون من أجل إقامة هذه الدولة الوطنية .
واليوم لا تكفي فقط الكتابة والأعمال الأكاديمية وغيرها، بل لابد من تبسيط هذه الأمور للمواطن البسيط، كما تقوم به قناة الذاكرة وأيضا الملتقيات وغيرها من أجل إيصال هذا التاريخ و هذه الذاكرة للأجيال والشباب ولكن العامل المهم وهو الفنون وقد بدأ الاهتمام بهذا الأمر وذلك لأن الصورة أقوى من الكتابة و قد أنتجت الجزائر، أفلام عديدة حول رموز وطنية وحول الثورة الجزائرية ومنها فيلم حول مصطفى بن بولعيد و كريم بلقاسم و لطفي والعربي بن مهيدي بدعم من الدولة و اليوم هناك مشروع لإنجاز فيلم عالمي حول الأمير عبد القادر.
توظيف التاريخ وقيم ومبادئ الثورة من خلال الفن
و بإمكان الجزائر أن تتحول إلى قوة ناعمة بتوظيف تاريخنا من خلال الفنون وإيصال حقائقها إلى كل العالم وتوظيف كل الأحداث والوقائع والأفكار وقيم ومبادئ الثورة للتأثير على الآخرين وهذا الدور يقوم به المؤرخ والأديب والفنان والسينمائي والممثل وغيرهم.
واليوم هناك عدة محطات لا يمكن أن نبقى في الماضي، بل يجب أن نوظف هذا الماضي لخدمة حاضرنا ومستقبلنا و لذلك من المهم جدا الاهتمام بأفكار الثورة ومبادئها وقيمها إضافة إلى الاهتمام بتضحيات الشعب .
يجب السعي إلى إصدار قرار أممي لتجريم الاستعمار
النصر : المجازر التي ارتكبها الاستعمار الفرنسي، جرائم دولة ضد الانسانية ولا تسقط بالتقادم، ماذا تقولون في هذا الشأن؟
- الاستعمار في حد ذاته جريمة، و اليوم على الدول التي تعرضت للاستعمار وتعرضت لهذه الجرائم البشعة، أن تسعى إلى إصدار قرار أممي يجرم به الاستعمار ويجرم به كل من يمجد هذا الاستعمار .
و قد ارتكب الاستعمار الفرنسي في الجزائر جرائم لا يمكن تصورها ، جرائم طالت الإنسان والأرض والبيئة، بالإضافة إلى ارتكابه جريمة اقتصادية كبرى .
الجزائر أصبحت نموذجا في عملية التحرير
النصر: ماذا تقولون بخصوص مختلف أبعاد الثورة و قيمها الحضارية وتأثيرها على تحرير الدول الإفريقية؟
- الجزائر كانت عاملا رئيسيا في تحرير العديد من الشعوب في إفريقيا وآسيا وقد أصبحت الجزائر نموذجا في عملية التحرير ، فكل هذه الشعوب كانت تستلهم من الثورة الجزائرية وكان بإمكاننا أن نواصل و نعطي نموذجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا للعالم كله وقد نجحنا نوعا ما وخاصة في السبعينيات أين كان النموذج التنموي للجزائر المنبثق من قيم ومبادئ الثورة ينظر اليه من كل دول العالم الثالث آنذاك.
النصر : كلمة أخيرة بمناسبة الذكرى ال70 لاندلاع الثورة؟
- أنصح شبابنا بالقيام بدراسة الثورة والاستلهام منها ودراسة كل التاريخ الوطني للاستلهام من دروسه وتفادي الأخطاء و التأكيد على الإيجابيات وأن تكون هذه الثورة بقيمها ومبادئها هي مرجعية الشباب في بناء الجزائر وبناء الدولة الوطنية .
وإذا كان أجدادنا وآباؤنا ضحوا بدمائهم من أجل الجزائر، فاليوم سندافع عنها جميعا بجدية وإتقان العمل من أجل أن تكون الجزائر قوية في كل المجالات، كي لا يقترب منها أحد ونردع كل من تسول نفسه ضرب الاستقرار.