يسرد المجاهد، بوثلج محمد، من أبناء ميلة من الرعيل الأول الذين التحقوا بالثورة التحريرية وعمره لا يتجاوز 14 سنة، بعض الشهادات عن أيام الكفاح وكيفية انضمامه لجيش التحرير الوطني، ورغم تقدمه في السن، إلا أنه روى بحماس فصولا عن عملياته العسكرية شمال ميلة، و كيف كتب له أن يعيش استقلال الجزائر وهو الذي نجا من الموت، بعد أن أصيب بطلقات رصاص في معركتين مختلفتين بآراس وترعي باينان، يتحدث للنصر، عن سيرته الثورية البطولية، بمناسبة الذكرى 70 لاندلاع الثورة التحريرية المجيدة سنة 1954.
مكي بوغابة
يروي المجاهد المولود بتاريخ 1941، في مشتة تافلكوت ببلدية أعميرة آراس والتي كانت معقلا للثوار بفضل غطائها الغابي الكثيف واحتوائها على أودية وشعاب، فضلا عن المسالك الجبلية الوعرة، أين ترعرع وسط أسرة ثورية لطالما آمنت بالثورة واستعادة الحرية من المستعمر الغاشم وهي التي كانت سنده في تعلم الكتابة وتعلم نصف القرآن الكريم، رغم الظروف القاسية التي عاشها بالقرية تحت الحصار الفرنسي الذي عاث فيها فسادا، ناهيك عن وفاة والديه وهو في سن السادسة من عمره .
اندلاع الثورة حدث عالمي ...
مازال، عمي محمد بوثلج، رغم تقدمه في السن، يتذكر جيدا العديد من الوقائع والمعارك التي وقعت بميلة إبان الثورة التحريرية المجيدة وهو الذي يستعد كلما حلت ذكرى اندلاع الثورة أو مناسبة من المناسبات الغالية على الجزائريين، ليحيي هذه التظاهرة بكل فخر واعتزاز، مستذكرا مناقب الشهداء الذين كان برفقتهم ومن كان لهم الدور الكبير في حمل السلاح والدفاع عن العرض والأرض أمام المستعمر الفرنسي .
وسافر بنا المجاهد في برهة من الزمن إلى ما عايشه من ظلم واستبداد الاستعمار الفرنسي بالجزائر وكيف آمن الشعب بثورة أول نوفمبر 1954، قائلا بأنها لم تكن مجرد فعل عسكري بسيط لطرد محتلين اغتصبوا أرضا بقوة السلاح، بل كانت حدثا تاريخيا كبيرا وبوصلة وضعت لتغير جذري ورسم معالم مرحلة جديدة، من أجل استعادة الحرية وبناء وطن قوي برجاله ونسائه ومؤسساته، مضيفا أن تاريخ اندلاع الثورة كان حدثا عالميا له من الأبعاد ما يتجاوز الحدود الجغرافية للوطن، ليضيء طريق المضطهدين في العالم بأسره .
حفظت 30 حزبا من القرآن قبل التحاقي بالثورة وسني لا يتجاوز 14
يسترجع المجاهد، محمد بوثلج، كيفية تعلمه القراءة وحفظه لنصف كتاب الله بالدشرة، قائلا أن القائمين على شؤون قريته في ذلك الوقت، كانوا يأتون بالحافظين لكتاب الله من أجل تعليم أبناء المشتة قراءة القرآن الكريم وحفظه، فضلا عن إقامة الصلاة، أين تعلم، يقول، القراءة والكتابة وحفظ 30 حزبا من القرآن، تحت يد معلم المشتة المدعو، خرباش صالح، لينتقل بعدها إلى المدرسة المتواجدة بمنطقة اعميرة أراس التابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، المسماة آنذاك مدرسة التربية والتعليم، قائلا بأن أول من قام بافتتاح المدرسة، الأستاذ، المرحوم، بلقاسم بلمزهود، الذي كان له دور كبير في إنارة عقول أبناء المنطقة آنذاك، مضيفا أنه درس حوالي 3 سنوات قبل اندلاع الثورة، إلى غاية وصول المستعمر الذي قام بفرض حصار على المدارس وهدمها لتجهيل الساكنة وفي سنة 1955، حاول مواصلة الدراسة فتوجه إلى ولاية قسنطينة من أجل التسجيل بمعهد ابن باديس لإتمام التعليم، لكن وقتها الاستعمار الفرنسي فرض حصارا كبيرا على كل المدارس ونقاط التعليم، فاضطر للعودة إلى الدشرة وتم تعيينه نائبا مسؤولا عن الدشرة وفي نفس الوقت، مكلف ابالحراسة الشعبية وسنه لا يتجاوز 14 سنة، قائلا أنه بعد مؤتمر الصومام سنة 1956، تقرر إقامة انتخاب المجلس الشعبي للدوار، حيث قدم كل من المجاهد صالح دهيلي و أحمد لشهب إلى دوار أراس وتم تنصيب المتحدث وتقسيم دوار أراس إلى منطقتين شمالية وجنوبية في ذلك الوقت.
تقلدت عدة مناصب خلال الثورة
وواصل المكلف بالتنظيم بالأمانة الوطنية لمنظمة المجاهدين، سرد شهادته، قائلا بأنه تقلد العديد من المناصب في الجيش إلى غاية تعيينه مسؤولا سياسيا في القسم الثالث وذكر محدثنا أنه ومن بين المناصب التي تقلدها مساعد مكلف اللجنة الاقتصادية بالثورة بالمنطقة والتي كان يرأسها آنذاك المجاهد بيرش مختار بن فكراش ابن منطقة أولاد بوحامة، هاته اللجنة، يقول، تعمل على تموين المجاهدين في الجبل بكل ما يحتاجونه من أغطية، ألبسة، أكل، جمع أموال الزكاة التي كانت تفرض على الفلاحين، حيث قال بأنهم كانوا يقومون بالعملية وجمع كل ما يخص المجاهدين في الجبل، قائلا أن الفلاحين في ذلك الوقت، لعبوا دورا كبيرا في مساعدة الثورة، سواء من الناحية المادية أو المعنوية .
نجوت من الموت عدة مرات وفقدت أحد أضلعي ...
يقول المجاهد، بوثلج محمد، أن القدر كتب له العيش من جديد بعد تعرضه لإصابات بليغة إثر تلقيه وابلا من الرصاص على مستوى الظهر والقفص الصدري، جعلته يفقد أحد أضلعه وذلك خلال معركة في شهر فيفري 1960، بمنطقة تيراوت باراس، قائلا بأنها إحدى أكبر المعارك التي شهدها خلال مساره الثوري وذلك من خلال عدد العساكر الفرنسيين المدججين بأعتى الأسلحة، فضلا عن الطائرات وإنزال المروحيات، مؤكدا أنه تمت إصابة حوالي 54 عسكريا فرنسيا بين قتيل وجريح، بينما أصيب حوالي 20 من المجاهدين .
ويضيف عمي محمد بوثلج، بأنه وعقب إصابته البليغة في المعركة التي وقعت قبيل غروب الشمس، لم يتمكن من السير وفقد الكثير من دمه إلى غاية وصول مجاهدين زملاء له وقاموا بنقله رفقة المصابين الآخرين إلى أحد المنازل المهيأة لمعالجة الجرحى إبان الثورة، بمنطقة بوداود في بلدية تسالة لمطاعي، قرب الحدود مع ولاية جيجل والتي تعتبر أحد النقاط التي يتم نقل المجاهدين المصابين إليها، مؤكدا أنه لم يمكث طويلا بالمكان بسبب علم القوات الفرنسية بوجود مجاهدين في المنطقة التي كان يحرصها المدعو الزواوي، حيث هاجم العسكر الفرنسي المكان، ما استدعى مغادرته قبل التعافي من جرحه البليغ في ظهره الذي فقد على إثره أحد أضلعه بالقفص الصدري.
وفي أفريل 1961، يقول المجاهد تعرضت رفقة مجاهدين اثنين لكمين نصب لهم بمنطقة ترعي باينان، تعرض خلالها لإصابات على مستوى الرجل واليد اليمنى بالإضافة إلى ضربة في الرأس، بينما رفيقاه استشهدا وذكر محدثنا وهو يعود بذاكرته إلى الوراء لتلك الظروف القاسية التي مر بها أنهم كانوا بمهمة في ضواحي باينان وبينما هم يجتازون أحد الأودية وإذ بالعسكر ينتظرونهم دون أن ينتبهوا وأطلقوا عليهم وابلا من الرصاص، فاستشهد رفيقه بالمكان والآخر تعرض لطلقات في أماكن حساسة، تم نقله برفقته إلى مركز ترعي باينان والدم ينزف بقوة، أين توفي هناك، أما عمي محمد فقد تعرض إلى التعذيب وهو بتلك الحالة، ثم تم تحويله لمعتقل التعذيب بميلة لمواصلة التحقيق معه وتعذيبه بمختلف الأنواع من ضرب بالعصي وصعق الجسم بالكهرباء وبعد تعريضه لأبشع أنواع التعذيب دون النطق بكلمة واحدة، تم تحويله يضيف محدثنا إلى المستشفى العسكري الفرنسي لمعالجته برجاص وادي النجاء حاليا، أين مكث هنالك يقول حوالي 15 يوما رفقة أحد المجاهدين إلى أن تم تحويله إلى السجن الأحمر بفرجيوة.
السجن الأحمر شاهد على فرنسا الاستعمارية ...
وذكر المجاهد بوثلج محمد، أن المستعمر الفرنسي استعمل أبشع أنواع التعذيب في السجون والمعتقلات، على غرار السجن الأحمر، بعد أن مكث فيه أزيد من 3 أشهر وتعرض لأبشع أنواع التعذيب، قائلا بأنه كان يدرك أنه لن يخرج حيا من هذا السجن الذي ذاع صيته إبان الثورة التحريرية، حيث كان من يدخل هذا السجن بمثابة تحويله إلى قبره، مضيفا أن السجن الأحمر من بين المراكز التي استعملها ضباط وجنود الاحتلال الفرنسي لإذاقة المجاهدين وأبناء الشعب أبشع أنواع التعذيب إبان الثورة، حيث كان يسمع على غرار بقية المجاهدين ما يحدث داخل السجن من عمليات تعذيب شنيعة وقاسية، الشيء الذي جعله يتوقع بعد اعتقاله أنه لن ينجو مما سيلقاه، ليتقرر بعدها تحويله إلى أحد السجون بولاية تيزي وزو يسمى آنذاك «الكان ديماريشال» وهو أحد السجون المخصصة للمجاهدين الصغار الذين لم يصلوا سن البلوغ.
وتابع عمي محمد بالقول أنه وبعد تعنته في عدم قول الجزائر فرنسية، كانوا يحملونه كل يوم إلى إجراء تحقيق، فضلا عن تعذيبه بمختلف الأنواع من ضرب بالعصي واستعمال الكهرباء وبقيت الأمور على تلك الحال يضيف المتحدث إلى غاية بلوغه سن 18، أين تقرر توجيهه إلى الخدمة العسكرية في منطقة فرجيوة، حيث تم نقله بواسطة القطار إلى قسنطينة، أين استطاع الفرار بفضل نوم الدركي المكلف بحراسته، وتوجه حينها إلى الجبل مرة أخرى بالمنطقة الشمالية بميلة، أين شارك في عدة معارك، ويوم الإعلان عن وقف إطلاق النار 19 مارس 1962 كان متواجدا بمشتة المنازل بإقليم ولاية جيجل، كما كلف بعدها بشرح اتفاقية إيفيان للمجاهدين في الجبل بالمنطقة الشمالية بميلة على غرار اعميرة اراس وترعي باينان وزغاية ورجاص.
كما أكد المكلف بالتنظيم بالأمانة الوطنية لمنظمة المجاهدين، أن المنطقة الشمالية بولاية ميلة على غرار اعميرة اراس، تسالة لمطاعي مينار زارزة وغيرهم، احتضنت العديد من المعارك الدامية على غرار معركة بوداود التي راح ضحيتها مئات المجاهدين من الرجال والنساء الذين كان لهم الدور الكبير في مواصلة الثورة إلى غاية طرد المحتل الفرنسي، قائلا أن فرحة الاستقلال لا تقدر بثمن، داعيا الأجيال الجديدة إلى المحافظة على البلاد والحفاظ على الذاكرة الوطنية، لأن الاستقلال لم يأت هباء، بل نتيجة لتضحيات كبيرة لشعب عانى الويلات وتعرض لأبشع أنواع التعذيب.
جمعية العلماء المسلمين شاركت في الدفاع عن الوطن ...
كما تطرق المجاهد محمد بوثلج، إلى الدور الكبير الذي قدمه أبناء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إبان الثورة التحريرية والحفاظ على مقومات الهوية الوطنية التي حاول المستعمر طمسها بشتى الطرق والأساليب، من خلال سياسة التخلف والتجهيل التي انتهجها، مؤكدا أنه ما كان يشاع آنذاك حول إيمان قادة الجمعية بالثورة وعدم مشاركتهم منذ بدايتها، كذب وإفتراء، قائلا بأن أبناء الحركة الوطنية كانوا على خطأ في ما يخص أبناء الجمعية لأنهم قدموا للثورة النفس والنفيس من أجل تحرير الوطن، مواصلا حديثه بالقول صحيح أن الجمعية كمؤسسة منذ البداية لم تعلن انضمامها إلى الثورة، لكن الدارسين وأبناء الجمعية كان لهم دور كبير في حمل السلاح أمام المستعمر، على غرار أبناء منطقة ميلة على سبيل المثال، الذين كانوا يدرسون بمعهد ابن باديس والتحقوا بالثورة ومنهم المجاهد عمار بوحناش وهو على قيد الحياة حاليا، المجاهد المقهول بالإضافة إلى لعريبي البشير وغيرهم.
م.ب