يؤكد الباحث في الدراسات الكولونيالية بجامعة الجزائر الدكتور وحيد بن بوعزيز، بأن ملف الذاكرة يتطلب جيشا من الباحثين من كل الحقول الإنسانية وبعض المجالات العلمية، وذلك لأن القضية تحفها تحديات كثيرة تتعدى المعطيات الداخلية، إلى ظروف جيوسياسية، كما أن لها أبعادا أعمق لم يتم التطرق إليها بعد، تمس الجوانب النفسية والطبية وحتى البيئية، موضحا بأن الثقل الذي يسير به الملف، مرده أيضا إلى ضغوطات الإمبريالية الجديدة أو العولمة، التي تلعب دوار في تأخير معالجة القضية، بسبب عودة نوستالجيريا لوبيات الأقدام السوداء والصهيونية.
حاورته: نور الهدى طابي
الاعتراف يستوجب تخلي فرنسا عن النزعة العنصرية
النصر: عبرت اللجنة الجزائرية الفرنسية للتاريخ والذاكرة خلال لقائها الخامس عن أملها في أن تترجم حقيقة إعلان الجزائر في أوت 2022 بإجراءات ملموسة تعكس الإرادة لمعالجة كل أبعاد المرحلة الاستعمارية، ما الذي تحقق .. ولماذا يسير الملف بخطى متثاقلة؟
وحيد بن بوعزيز: لم يتحقق الكثير ولن ننتظر الأكثر إذا لم تتوفر الأرضية الحقيقية لهذا التوجه الجديد الذي نسميه حرب الذاكرة.
إن الإنجازات المترتبة عن هذا الملف تمشي بخطى ثقيلة جدا لعدة اعتبارات، منها ما هو بنيوي يتعلق بالظروف الداخلية ومنها ما هو جغرافي سياسي، ومنها ما هو تاريخي صرف إن التحدي الكبير الموجود أمام اللجنة هو المساحة التاريخية التي يكتنفها التعقيد والتشعبات، ولا أعتقد أن مجموعة أشخاص من تخصص واحد يمكنهم احتواؤها، أنا لا أشكك في كفاءتهم ولا في قدراتهم ولكن موضوع اهتمامنا (الذاكرة الاستعمارية) يقتضي جيشا من الباحثين من كل الحقول الإنسانية وبعض المجالات العلمية لأنه موضوع عبر تخصصي، فزيادة على المؤرخين وعلماء الاجتماع الذين نحتاجهم في تحديد طبيعة العدالة الاجتماعية (الصراع الطبقي مثلا) في المستعمرات وعلماء النفس لقياس مدى تراجع أو تزايد «التروما الاستعماري»، ونقاد الأدب لمعرفة الطريقة والقوالب المسبقة التي صور بها المعمرون الأهالي، لابد أن نستعين بأطباء لفتح مجال غير مطروق عندنا وهو مجال الطب الإمبريالي ونستعين بعلماء البيئة لدراسة آثار التجارب النووية مثلا.
يخطئ من يظن بأن الذاكرة مسألة تاريخية فقط، إن التجربة الاستعمارية طالت جميع النواحي الإنسانية لهذا لابد من فتحها على تحاقلات مختلفة لكي نمسك بتلابيبها.
من جهة أخرى يعود التثاقل إلى ظروف جغرافية سياسية (جيوبوليتيك)، إلى حد الآن لم تستطع الدول المائية (كما يقولون في الجيوبولوتيك) تجاوز الجوع الاستعماري، إن الاستعمار حينما انهزم راح يغير من جلدته لكي يصبح استعمارا جديدا، يفرض، وفق تحالف خلقته ظروف الحرب العالمية الثانية، منطق التبعية (الاقتصادية والأيديولوجية) على البلدان المستقلة، أي تلك البلدان الفتية التي بدأت تختار نمط الدولة الوطنية، ولهذا أتساءل: ما الذي يمكن أن نجنيه من اعتراف أو مصالحة مع دولة غيرت مسارها الاستعماري في الدرجة فقط وليس في الجوهر؟ ذلك لأننا نعيش مثل كل الدول النامية استقلالا ننعم به، ولكن على المستوى الاقتصادي مازلنا للأسف نعيش تحت وطأة الإمبريالية المتوحشة.
مفاوضات التعويض أكثر ما يخيف فرنسا في ملف الذاكرة
تتمسك الجزائر بمطلب الاعتراف كمبدأ غير قابل للتنازل، ما الذي يمكن أن يترتب على الصعيدين الوطني والدولي عن اعتراف مستعمر الأمس بجرائمه في الجزائر ؟
إلى حد الآن لم نصل بعد إلى مرحلة الاعتراف بيننا وبين الطرف الفرنسي، إن الاعتراف نتيجة لوضع ما وليس سببا في تحصيله، لقد اعترفت بعض البلدان الإمبريالية (خاصة بريطانيا) بكينونة مستعمراتها القديمة وأقامت معها علاقة تبدو سطحية للغاية، أنا أفكر في الكومنولث وفي ما تدعمه في الشرق الأوسط لوجيستيا وعسكريا، إن غلوب باشا، كان يدعي أنه صديق العرب ولكنه كان يسير مصالح بلاده لكي تبقى فلسطين والأردن تابعة لبريطانيا.
إننا سنصل إلى مرحلة الاعتراف La reconnaissance حينما يتوفر شرطان، شرط الندية الذي يتطلب منا أن نكون في مستوى التبادلية الاعترافية، وشرط التخلي عن النظرة الفوقية عند الطرف الآخر الذي صنعتها له حداثة عنصرية بيضاء بربرية حاولت أن تبرر همجيتها بخرافة الرسالة التحضيرية.
اعتقد أن عملا ضخما سيكون أمامنا لكي نصل إلى مرحلة الاعتراف الحقيقي وليس الاعتراف السطحي الذي نراه لا يتجاوز مستوى الرمزية، ونقصد بالاعتراف العميق ذلك الاعتراف الذي ينطلق من عملية حوصلة شاملة لكل ما هو مادي ورمزي يقتضي الدخول مباشرة في مفاوضات التعويض التي يخاف منها كثيرا الاستعمار.
ما هي الالتزامات التي تتهرب منها فرنسا تحديدا؟ وما الذي يمكن أن تقدمه كخطوة أولى للتأكيد على حسن النية بعد سبعين سنة كاملة من اندلاع الثورة؟
تتهرب فرنسا من جرائمها لأنها تتناقض مع خطابها الحضاري، فهي تدعي بأنها جاءت إلى الجزائر لكي تقوم بواجب الرسالة الحضارية ولكنها اقترفت أبشع الجرائم التي لا تتوافق مع منطلقاتها، كيف ستواجه فرنسا جريمة العوفية في الحراش، ووحشيتها في قتل المدنيين العزل في الونشريس وبلاد القبائل والصحراء والهضاب في 8 ماي، كيف ستواجه فرنسا السياسية جريمة التعذيب التي على الرغم من أن الكثير من الباحثين كتبوا عنها، ولكن لا نجد لها صدى في الأروقة السياسية الرسمية.
كيف ستعوض فرنسا الأضرار المادية والمعنوية التي كانت سببا في حدوثها، اعتقد أن مسألة الصفح والاعتذار يحين وقتهما حينما نتجاوز هذا الوجع الذي لم يتوقف، بسبب مماطلة الطرف الفرنسي وبسبب انخراط العالم الأبيض في أشكال جديدة من الاستعمار، لا أريد أن أكون متشائما ولكن أخشى، كما قال الفيلسوف الفرنسي يانكليفيتش:»لقد مات الصفح في معسكرات الموت».
اليمين المتطرف و الكريف وراء تغير المواقف الرسمية الفرنسية
تشهد فرنسا صعودا لليمين المتطرف، وتضخم النزعة الاستعمارية الجديدة، كيف تقرؤون مستقبل الملف في ظل هذه المعطيات؟
ليست فرنسا فقط من تعرف ظاهرة صعود اليمين المتطرف، معظم أوروبا تعيش هذه الظاهرة، فمن منظور الجغرافية السياسية بزغ اليمين المتطرف كردة فعل ضد القطبية الواحدة (العولمة الأمريكية)، وهذا يجعلنا نعتقد كذلك أن الإمبريالية الجديدة أو كما يحلو للبعض تسميتها العولمة هي التي زادت من تأخير معالجة ملف الذاكرة الاستعمارية، فعودة ما يسمى النوستالجيريا (الحنين إلى الجزائر) مع لوبيات الأقدام السوداء والصهيونية هي عملية استيهام تعوض الانهزامية التي تعيشها فرنسا أمام المد الأمريكي في المنطقة الفرانكوفونية.
تعتقد فرنسا اليمين المتطرف، أن استرجاع نقاء العرق الغالي La race gauloise أمام الأعراق العربية والأمازيغية والإفريقية والصينية والهندية، هي عودة إلى «فرنسا المجيدة فرنسا المجد»، ونحن نعرف أن العولمة هي التي كانت وراء خلط الأعراق في العالم بسبب الحروب والتغييرات المناخية والشركات العابرة للقارات، وهي من كانت وراء تفقير الدول الأوروبية وجعلها تابعة.
وكان الأجدر باليمين المتطرف محاربة المد القطبي الأحادي وليس استهداف الطبقات الهشة والمهمشة في المجتمع الفرنسي، وللأسف لاحظنا مؤخرا، تغييرا في المواقف الرسمية الفرنسية بخصوص مسألة الذاكرة بسبب ضغط اليمين المتطرف الذي تحالف مع اللوبي الصهيوني (مثال مجموعة الكريف) لتجميد ملف الذاكرة، فالأول يعد احتياطا انتخابيا والثاني ورقة عبور نحو الفردوس المالي المعولم. بسبب اليمين المتطرف اعتذر الرئيس الفرنسي للحركى وبسبب الصهيونية، وتزامنا مع ما يحدث في غزة من همجية، نلحظ مؤخرا تركيزا في فرنسا على ما يسمى تراث ومدى الحضور اليهودي في الجزائر، فلا نتعجب أن يحتفى بكتاب يحمل عنوانا مضللا «الجزائر اليهودية» ولا نتعجب من أن الصهاينة في أشدود، يفكرون في إقامة مهرجان حول ميراث اليهود في الجزائر هذه الأيام بالذات.
موضوع الذاكرة تقلص إلى مقولات سياسية فارغة في فرنسا
يشكل تخاذل الطرف الفرنسي وتصريحاته المتضاربة حاجزا أمام قيام « علاقة ودية « حقيقية بين البلدين، إلى متى قد يطول هذا التردد في تبني موقف واحد في رأيك؟
حاول ماكرون أن يفتح ملف الذاكرة لكي يعالج مسألة التروما (الصدمة) الاستعمارية مرة وإلى الأبد، وقد حضر في سنة 2000 ملتقى أداره الفيلسوف الفرنسي بول ريكور حول الذاكرة والتاريخ، وقال فيه إن جروح الذاكرة يمكن أن تعالج بواسطة عمل الذاكرة الذي يشبه كثيرا عمل الحداد، فمواجهة الذاكرة هي التي ستخرجنا من حالة الماضي الذاتي والمجروح والموشوم إلى حالة الموضوعي المستقبلي التصالحي.
للأسف في ملفات خطيرة مثل هذه يكون الفلاسفة بعيدين كثيرا عن الواقع، حينما نقرأ ما كتبه ريكور نكتشف أن الجانب النظري عنده كان طاغيا واعترف أن الجرح لا يندمل خطابيا، لقد اقترح هذا الفيلسوف مبدأ الحب لكي يتم بواسطته تجاوز كل الجروح القديمة، ولكن نسي بأن تعريفه للحب بالمعنى المسيحي لا يمكن أن ينطبق في مجتمعات أصبحت لادينية مثل فرنسا، وفي مجتمعات لها نظرة أخرى للحب مثل العالم الإسلامي.
أعتقد أن ماكرون فهم بأن موضوع الذاكرة الذي درسه عند ريكور، لم يستطع الصمود أمام التحديات السياسية الدولية، فصعود اليمين المتطرف وبروز ما يسميه ألكسندر دوغين التعددية القطبية والتغول الصهيوني المتحالف مع الإمبراطورية الأمريكية التي تعيش تراجعا، والتغيرات الحاصلة في معادلات العلاقات السياسية الدولية، كل هذا جعل فرنسا تبدو غارقة في وحل جغرافي سياسي جديد لم تتمكن الوقوف فيه والرجوع إلى قوتها المعهودة.
إن فرنسا الآن ضعيفة ولهذا يحاول ماكرون التشبث بقشة اليمين المتطرف رغم أن الانتخابات التشريعية الأخيرة بينت أن تحالفه مع فرنسا الأبية كان استراتيجيا مرحليا فقط.
لقد غاص موضوع الذاكرة في هذه المعمعة، وفرنسا تعيش مرحلة تفقد فيها إفريقيا بسبب التواجد الأمريكي والروسي والصيني، كل هذه العناصر قلصت موضوع الذاكرة في فرنسا إلى مقولات سياسية فارغة بسبب العماء الاستراتيجي.
التماطل والتلاعب بالذاكرة أثرا كثيرا على الأجيال
كيف يؤثر الملف على الأجيال المتعاقبة من أبناء الشعبين في ظل غياب « مصالحة مطلقة» بين الطرفين؟
rrحينما نعود إلى الواقع أعتقد أن التماطل في معالجة المصالحة والتلاعب بملف الذاكرة أثرا كثيرا على الأجيال المتعاقبة، فأبناء المهاجرين من المستعمرات الذين يعيشون في «المتروبول» يعرفون جيدا العنصرية ورفض الاندماج، لقد حاول الجيل الثاني من المهاجرين الاندماج في الثقافة الفرنسية وتقبل مبادئ الجمهورية التي تدعو إلى المساواة والعدالة والحرية، ولكنه اصطدم بعنصرية سببها الُآثار الاستعمارية التي بقيت حية لأن العقد الاجتماعي لم يكلف نفسه عناء التجديد والتغيير.
لا يعبأ الجيل الثالث بمبادئ الجمهورية حينما يعرف نفسه بهوية أجداده، فهو يتمرد على روح الأنوار الفرنسية بسبب المعاناة التي عاشها أسلافه، لقد اخطأ الكثير من المستشرقين الفرنسيين الجدد في اعتقادهم أن عودة الوازع الإسلامي في الجيل الثالث، تعود إلى ظاهرة تدويل الإسلام السياسي بسبب التطور الهائل الذي عرفه حقل وسائل التواصل الاجتماعي، وجانبوا الصواب حينما فكروا في إسلام مفرنس على طريقة الإسلام المعولم، لقد كان أمامهم السبب جليا واضحا، إنها العنصرية الملوثة بالعقل الغربي المريض بفوقيته وعنجهيته.
هذه أهم الممتلكات التاريخية الثقافية المعنية بالاسترجاع
قدمت اللجنة الجزائرية قائمة مفتوحة للممتلكات التاريخية ذات الدلالات الرمزية والمحفوظة في مختلف المؤسسات الفرنسية، ما هي أولويات هذه القائمة المقترحة للاسترجاع والتسليم للجزائر؟
أعتقد أن أهم ما يمكن استرجاعه هو الأرشيف والتراث الرمزي المسروق (المخطوطات مثلا) ثم وتأتي البقية، لأن كل ما أخرج من هذا البلد لابد أن يسترجع، وهذا سيدل على حسن نية الآخر وعلى مدى تجاوزه لعقدته التاريخية. تبقى قضية التعويضات فهي حساسة جدا ومعقدة ولكن لابد من مباشرتها لأنها من حقوق الشعب الجزائري، نبدأ بالقمح الذي رفض دوفال استرجاعه، لنصل إلى غاية ما سرق في 1962.
يجب أيضا، أن لا ننسى مسألة المنفيين إلى كاليدونيا وإلى جهات أخرى، ولا يمكن الاعتقاد بأن هذا المطلب غريب ما دمنا نعيش في عصر طالب فيه صهيوني اسمه سموتريتش أن يعوض السعوديون اليهود ما تركوه في خيبر.
ن. ط