دخلت العلاقات بين الجزائر وفرنسا خلال 2024، مرحلة توتر غير مسبوقة وسط ترجيحات بتوجهها نحو القطيعة وسط تصاعد لافت للخطاب اليميني المتطرف الذي لم يفوّت فرصة للتأليب ضدّ الجزائر، حيث باتت السياسة العدائية لليمين تعتمد أسلوبًا يقوم على التضليل الإعلامي ضد الجزائر.
تعيش العلاقات الجزائرية الفرنسية على وقع خلافات كبيرة منذ أشهر، ولم يستطع الرئيس الفرنسي الذي ظل يرسل إشارات إيجابية نحو الجزائر من الصمود أمام ضغط اليمين المتطرف واللوبيات المتنفذة، حيث تسبب انحيازه للاستعمار المغربي للصحراء الغربية بدعمه لخطة الحكم الذاتي المزعومة لحل قضية الصحراء الغربية، وهو ما وصفته الجزائر بأنه تجاوز غير مسبوق من قبل أي حكومة فرنسية سابقة، وردت عليه بسحب السفير الجزائري بباريس، إلى جانب إلغاء الرئيس عبد المجيد تبون، زيارته المبرمجة إلى فرنسا.
ودخلت العلاقات الجزائرية الفرنسية منذ جويلية الماضي، منعرجا جديدا من التوتر وتفاقمت في الأيام الأخيرة بعدما استدعت وزارة الخارجية الجزائرية، السفير الفرنسي، ستيفان روماتيه، في أعقاب الكشف عن إحباط مؤامرة «من تخطيط المخابرات الفرنسية لزعزعة استقرار الجزائر عن طريق تجنيد شاب جزائري نشأ في المهجر لتحقيق غاياتها العدائية، غير أنه كان أكثر وعيا بالنشاط العدائي الذي كان وما زال يحاك ضد وطنه الجزائر».
وبث التلفزيون العمومي الجزائري وقناة الجزائر الدولية وثائقيا يتناول اعترافات الشاب محمد أمين عيساوي، عن محاولة المخابرات الفرنسية تجنيده لصالحها. وذكر في تصريحاته أن المخابرات الفرنسية استغلت التجربة المرّة التي عاشها في وقت سابق بعدما تم استدراجه ليلتحق من أوروبا حيث نشأ وترعرع رفقة أهله بتنظيم الدولة في سوريا والعراق قبل أن يتم اعتقاله وينقل إلى تركيا، ثم يرحل إلى الجزائر ويقضي محكومية 3 سنوات سجنا انقضت سنة 2019 ليعود بعدها تدريجيا إلى حياته الطبيعية.
وقال إنه تلقى سنة 2022 اتصالا هاتفيا يدعي مساعدته لتدارك تصنيف ملفه لدى وزارة الدفاع الفرنسية ضمن الملفات السوداء مما يسمح بعودته إلى أوروبا، من قبل جمعية «أرتميس» التي سبق لها أن قامت بعمليات تقرب من جزائريين أصحاب قضايا ذات طابع إرهابي مقيمين في فرنسا.
وأكد المعني أن الجهات الفرنسية أرادت إرساله إلى النيجر، كما طلبت منه التقرب من المتطرفين في الجزائر العاصمة وكسب ثقتهم قصد إنشاء جماعة إرهابية يترأسها دون الكشف عمن يقف وراءها، متعهدة بتزويدهم بالأسلحة الضرورية في نشاطهم من خارج الجزائر، كما طلب منه تحديد أماكن وجود كاميرات المراقبة ودوريات الشرطة بالزي المدني وغيرها.
وتزامنت تلك المحاولات مع تنامي خطاب العداء للجزائر الذي يتبناه اليمين المتطرف والذي حاول استخدم ملف المهاجرين كورقة رابحة في التشريعيات الماضية، ونجح في اجتياز عقبة الدور الأول قبل ان يسقط لصالح اليسار الذي عرف كيف يستميل أصوات الفرنسيين والمهاجرين المتخوفين من صعود اليمين المتطرف في فرنسيا.
وقد أكد الرئيس تبون، في آخر لقاء إعلامي، أن أقصى اليمين في فرنسا يشنّ حملة كراهية مترعة بالكذب والمغالطات ضد الجزائر والجزائريين، وأعلن أنه لن يذهب إلى فرنسا في الزيارة التي كانت مقررة بداية أكتوبر الماضي واعتبر أن اليمين وأقصى اليمين في فرنسا يتخذان من اتفاقية الهجرة لسنة 1968 راية لهم كجيش للمتطرفين.
وبهذا الخصوص، قال رئيس الجمهورية، بأن حديث السلطات الفرنسية بشأن رفض الجزائر استقبال مهاجرين غير شرعيين يتم ترحيلهم «هي أكاذيب» يراد منها تلطيخ صورة الجزائر، مؤكدا أن دعوة بعض الأطراف بفرنسا إلى إعادة التفاوض بشأن اتفاق 1968 هو “فزاعة وشعار سياسي لأقلية متطرفة يدفعها الحقد تجاه الجزائر، مضيفا أن ما يشاع عن الاتفاقية «مجرد أكاذيب وكراهية ضد الجزائريين»، وقال «إنها الراية التي يحملها جيش المتطرفين وتمثل تراجعا عن اتفاقيات إيفيان»، والتي رتبت العلاقات بين البلدين بعد استقلال الجزائر، ونصت على حرية تنقل الأشخاص.
اليمين المتطرف الفرنسي ينفث سمومه
لم يتوقّف اليمين المتطرف الفرنسي عن نفث سمومه ضدّ الجزائر وكل ما يمتّ إليها بصلة في بلاده، خلال سنة 2024، فبعد عقود من انتهاء الاستعمار، يُعيد هذا التيار، بخطابه ومواقفه المتطرّفة، إثارة التوتر في العلاقات الجزائرية-الفرنسية، مستغلاًّ الملفّات الحساسة المتعلقة بالذاكرة، لعرقلة أي تقارب طبيعي بين البلدين، بعيدا عن خلفيات الماضي القائمة على الوصاية والتبعية الموروثة عن العهد الاستعماري.
واتهم الرئيس عبد المجيد تبون، الأوساط المتطرفة في فرنسا» بمحاولة «تزييف ملف الذاكرة أو إحالته إلى رفوف النسيان». وقال الرئيس تبون، في رسالة بمناسبة الذكرى الـ 63 لمظاهرات 17 أكتوبر 1961 التي شهدتها العاصمة الفرنسية باريس، إن مسألة الذاكرة «تحتاج إلى نفس جديد من الجرأة والنزاهة للتخلص من عقدة الماضي الاستعماري، والتوجه إلى مستقبل، لا إصغاء فيه لزراع الحقد والكراهية، ممن مازالوا أَسيري الفكر الاستعماري البائد».
وخلال السنة المنقضية، لم يفوّت اليمين المتطرف الفرنسي فرصة للتأليب ضدّ الجزائر، وهو ما ظهر جليًا في سلسلة التصريحات والمواقف التي صدرت عن أبرز رموزه. ولعل الملف الأبرز وسط التيار اليميني بشقيه المعتدل والمتطرف هو المطالبة بإلغاء اتفاقية التنقل بين الجزائر وفرنسا لسنة 1968 وشنّت في ذلك حملة إعلامية وبرلمانية قوية للضغط على ماكرون.
وكان من أبرز مظاهر استفزاز اليمين المتطرف في الانتخابات الأخيرة، التغريدة “العنصرية” التي كتبها حزب الجمهوريين اليميني الفرنسي بقيادة زعيمه المتطرف إيريك سيوتي الموالي لمارين لوبان، والتي هاجم فيها الجزائر عقب الجولة الخامسة للجنة المشتركة للذاكرة الجزائرية الفرنسية التي طرحت فيها الجزائر قائمة بالممتلكات التي تطالب باستعادتها.
توظيف الجزائر في المشهد الفرنسي الداخلي
كما اعتمد اليمين المتطرف أسلوبًا يقوم على التضليل الإعلامي ضد الجزائر. ضمن استراتيجية تهدف إلى توظيف الجزائر في المشهد السياسي الفرنسي الداخلي، سواء لكسب الأصوات أو لتوجيه الرأي العام نحو قضايا انقسامية. وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية أحمد عطاف، حين أكد أن بعض السياسيين الفرنسيين يجدون في ذكر الجزائر «ورقة سهلة» لتحقيق أهداف سياسية ضيقة، دون مراعاة التأثيرات السلبية لهذه الممارسات على العلاقات الثنائية.
ولا تلقى هذه السياسة العدائية تجاه الجزائر، إجماعا في الأوساط السياسية الفرنسية، فبينما يرفضها اليسار بمختلف تنوعاته، يبدو اليمين منقسما إزاءها، إذ يوجد من الشخصيات اليمينية من يرفض تحميل الجزائر مسؤولية الأزمة الداخلية الفرنسية. ومن هؤلاء، دومينيك دو فيلبان، رئيس الوزراء الفرنسي السابق، الذي أقّر بوجود ميل متزايد في فرنسا لجعل الجزائر “كبش فداء” لعدد من المشاكل الداخلية، خاصة فيما يتعلق بملف الهجرة.
وتحسّر دوفيلبان، خلال حديثه قبل أيام على قناة “فرانس إنفو”، على أن “العلاقات الدبلوماسية بين باريس والجزائر تزداد توترًا يومًا بعد يوم، مستشهداً بتصريحات الرئيس تبون الأخيرة التي شدد فيها اللهجة ضد فرنسا. وأبرز السياسي اليميني، “أهمية اتفاقيات 1968، التي جاءت بعد ست سنوات من اتفاقيات إيفيان التي أرست شروط استقلال الجزائر”، مؤكداً أن إثارة قضية هذه الاتفاقيات اليوم يعني محاولة فتح “حرب ذاكرات” مع الجزائر، وهو أمر يراه “عبثيًا”. وأضاف: “هناك طرق أخرى للتعامل مع هذه القضايا”.
وردا على المغالطات الفرنسية بشأن ملف الهجرة، قال رئيس مجلس الأمة، صالح قوجيل، بأن الهجرة الجزائرية كانت لها إسهامات كبيرة في فرنسا خاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، مؤكدا أن باريس تقتنص خيرة الشباب الجزائريين المتعلمين دون أي مقابل يعود على الجزائر.
ويؤكد متابعون للعلاقات الثنائية، أن الجزائر فضلت الإبقاء على شعرة معاوية في علاقاتها مع فرنسا خاصة الاقتصادية والبشرية لعدة اعتبارات حيث يعيش أكثر من 6 ملايين جزائري في فرنسا تضاف إليها مصالح اقتصادية واجتماعية ومواثيق ومعاهدات وعدة نقاط تجمع بين البلدين تستوجب البحث عن توافقات لأهم المسائل الخلافية بعيدا عن ضغوطات اليمين.
ع سمير