الاثنين 4 نوفمبر 2024 الموافق لـ 2 جمادى الأولى 1446
Accueil Top Pub

المجاهدة فضيلة مانع للنصر: نقلت أسرارا في حقيبة المدرسة و وزعت بيان نوفمبر وأنا طفلة

تربت المجاهدة فضيلة مانع، بين أحضان الثورة وعلى هتافات الحرية واسترجاع الأرض، فصقلت شخصيتها في بيئة ثائرة وضمن عائلة ولد من رحمها مجاهدون وشهداء، ما جعل الفتاة الصغيرة تتشبع بروح النضال وتحمل ثقل هذه المسؤولية، فكانت تنقل وثائق سرية داخل حقيبتها المدرسية، لتنقلها إلى الثوار عند سفوح جبال قسنطينة.
حاورتها: إيناس كبير

سجينة في عمر السادسة عشرة
ما تزال المجاهدة فضيلة مانع «ميرابية» كما يعرفها الكثيرون، تحتفظ بصور حية كثيرة عن أيام الثورة، بعضها يمتد إلى ذاكرة الطفولة، منها قصص مؤلمة عن المعاناة في زمن حرب تعتبر من بين الأبشع على الإطلاق.
بترتيب زمني لا يؤخر حدثا ولا يُسقط آخر، سردت علينا تفاصيل مشاركتها في التحضير لاندلاع الثورة رغم صغر سنها، واعتبرت السيدة مانع، أن توزيعها لنداء أول نوفمبر في شوارع المدينة كان وساما ما تزال تحمله بفخر واعتزاز، كما استرجعت ما شهدت عليه من أهوال سواء داخل منزلها العائلي عقب نفي خالها وحُرقة جدتها عليه، أو عند استشهاد أخيها في «ليون»، ثم معاناتها هي في سجن الاحتلال، وهي ابنة السادسة عشر سنة، مسجاة فوق طاولة تسمع تهديدات الجنود بإطلاق الكلاب لتنهش جسدها.
قالت للنصر، إنها كانت تقف في كل مرة أكثر قوة وشراسة رغم بطش السجان، ما جعل والدتها تخشى عليها من ردة فعل الجنود الفرنسيين محاولة تهدئة ثورتها الشبابية خوفا عليها من تعريض نفسها للموت، لكن الوالدة كانت تصطدم بشجاعة ابنتها التي ترد بحزم :»لست أفضل من الشهداء الذين يقعون يوميا تطهر دماؤهم الأرض من أقدام الاحتلال».
لم أسمح للمدرسة الفرنسية بالتأثير على مبادئي
تشربت المجاهدة فضيلة مانع، مبادئ الثورة في سن صغيرة، خصوصا وأنها تربت في بيت دماء أفراده تفور بحب الوطن، فخالها المدعو «أحمد الملاكم الصغير» كان عضوا في اللجنة السرية، ومن أوائل الذين انضموا إلى الكشافة الجزائرية بعد تشكيلها، كما كان والدها محبا لجمعية العلماء المسلمين ومقربا من الشيخ عبد الحميد بن باديس، ومن هنا تشكلت شخصية الطفلة فضيلة التي ستصبح مناضلة فيما بعد.
قالت، إن خالها ألقحها بالكشافة الإسلامية سنة 1947، وهي ابنة الخامسة وكانت تزور مقره الكشافة أسفل جسر سيدي راشد، شخصيات بارزة شاركت في اندلاع الثورة مثل بوجمعة سويداني، عملت جميعها على بث الروح الوطنية في الصغار الذين تربوا على نفس النهج.
لاحقا، التحقت بتوجيه من والدها، بمدرسة التربية والتعليم، التي أنشأها الشيخ عبد الحميد بن باديس، وهناك تأثرت بأستاذها لمادة التاريخ صالح بودراع السياسي، الذي ينتمي للحركة الوطنية، وعلقت قائلة:»كنت أنبهر بما يقدمه لنا من معلومات، كما وجدت كل ما يقوله مطابقا لما أتعلمه في الكشافة، وما أسمعه داخل أسرتي».
مضيفة، بأنها تعلمت أيضا على يد أستاذتها الشهيدة حورية بن عريبة تلميذة العلامة، وبالرغم من أن والد السيدة مانع كان أميا، إلا أنه كان يقظا وعلى وعي بكل ما يحصل، كما كان مؤمنا بأن محاربة فرنسا يجب أن تكون بالعلم، إلى جانب إيمانه بأحقية الجزائريين على أرضهم، وأنها أرض ذات سيادة وهوية.
ولأنها كانت تدرس في المدرسة الفرنسية أيضا، فقد عانت من تشويش سببه سماع لغة أجنبية لا تعرفها، ودراسة تاريخ أُناس يدعون بأن أجدادهم أبطال يمجدونهم في أناشيد وطنية لا علاقة لها بالجزائر والثورة، وقد لعب والدها دورا مهما في ترتيب أفكارها و التصدي لتلك السموم الفكرية التي كانت تتعرض لها يوميا.
عشت تفاصيل التحضير للثورة
تصف المجاهدة الأوضاع التي عاشتها قسنطينة سنة 1953، قائلة:»كانت قسنطينة على صفيح ساخن، لم أتجاوز حينها 11 سنة، لكنني شعرت بما يحصل داخل عائلتي، خصوصا وأني كنت لا أفارق خالي وأصدقاءه، كان يطلب مني أحيانا أن أحضر له الكسرة والطعام عندما يزورونه في غرفته بفندق «سيدي كسومة»، ثم أبقى معهم لأستمع لأحاديثهم وأخبار الحرب». وخلال تلك الفترة تعرفت محدثتنا، على مجموعة من الأسماء التي شاركت في تفجير الثورة، على غرار مصطفى بن بولعيد، العربي بن مهيدي، زيغود يوسف، ومحمد بوضياف، وعبرت المناضلة بأنهم، كانوا مواطنين عاديين متواضعين، يغمرهم حب الوطن والرغبة في طرد المحتل من أرضهم.
قالت لنا، إنه تتذكر أيضا يوما من أكتوبر سنة 1953، اتصل خلاله محمد بوضياف من مدينة «ليون»، بمقهى البهجة بقسنطينة، مكان التقاء بعض أعضاء المنظمة السرية واللجنة الثورية للوحدة والعمل، كمحمد الصالح بوشمال، والعربي دماغ لعتروس، وأولاد بوليلى، في تلك المكالمة تقول «أعطى بوضياف أوامر بالانضمام إليه في فرنسا، وقد كنت حاضرة عندما وصلت الرسالة إلى خالي، الذي جمع ثيابه قاصدا رفقاءه المجاهدين مع عبد الرحمان قيراس مسؤول مدينة قسنطينة، ومحمد الصالح بوشمال، ويوسف حداد». أخبرتنا بأنهم ركبوا من مطار عنابة ونزلوا في «مارسيليا» ومن هناك إلى «ليون».
ثم تعود السيدة مانع بذاكرتها إلى صباح اندلاع الثورة، عندما دخل والدها باكرا إلى المنزل يحمل صحيفة «لا ديباش دو كونستونتين»، وطلب منها الإسراع بقراءة الأخبار له، وبمجرد أن أنهت القراءة علق «لقد فجروها»، قالت، إن هذه العبارة أثرت فيها كثيرا خصوصا وأنها لمست خوفه من الرد العنيف لفرنسا.
وبحسبها، فإن أول عملية فدائية في قسنطينة كانت شهر جانفي، عندما رمى مجاهدون شرطيا خائنا بالرصاص لكنه لم يمت، ثم أعادوا الكرة لينقل إلى فرنسا وهناك أرسل المجاهدون إخوانهم للتخلص منه، ثم بدأت العمليات تتوالى، وعبرت المناضلة بأنها كانت تعلم رغم حداثة سنها أن كل ما يحصل كان من أجل الاستقلال.
كنت طفلة صغيرة لكنني آمنت بالثورة
تروي المجاهدة تفاصيل ما عاشته بتأثر، سواء ما كانت تراه داخل عائلتها أو في مدينتها، وهو ما أثر على توجهاتها، فبالرغم من صغر سنها إلا أن كل ما جرى أمام ناظريها جعلها أكثر نضجا، فبدأت تبحث عن طريقة تستطيع من خلالها الصعود إلى الجبل للالتحاق بالمجاهدين، وعلقت قائلة «بالرغم من صغر سننا إلا أن كل التلاميذ كانوا على وعي بما يحصل، وكلهم متحمسون لسماع أخبار الثورة والمشاركة فيها».
ومع وصول نداء الطلبة، استقلت أول مجموعة من التربية والتعليم الحافلة وكانت الوجهة ولاية جيجل، ثم بعدها المجموعة الثانية، ما دفع فرنسا إلى إغلاق المدرسة التي كانت تُخَرِّج طلبة وكذا مجاهدين ومجاهدات، كما أغلقت مقرات الكشافة الإسلامية، وهنا تحدثت المناضلة عن زميلاتها الأخوات سعدان، ومريم بوعتورة، ورقية غيموز، وحورية محزم، ونعيمة بن الشيخ الحسين، واصفة الهمة العالية التي كن يتمتعن بها رغم شبابهن وتحمسهن لبذل حياتهن في سبيل الوطن، وهو ما كان لهن حيث قضين كلهن شهيدات.
أما عن بداية مسارها النضالي، فقد انطلق كما عبرت من من سيدي جليس، عندما لحقها أحد المجاهدين آمرا إياها باتباعه، أدركت حينها أنه ينتمي إلى جبهة التحرير، فتبعته وهي تحمل حقيبتها المدرسية، ثم أعطاها رسالة وطلب منها إيصالها إلى عبد الرحمان كحلوش، وقبل أن يذهب أخبرها بأنهم سيتصلون بها مرة أخرى، بعد أسبوع وصلها الاتصال المنتظر من الشخص ذاته، الذي أمرها بإحضار «ملايتها» ثم تنقلا إلى «زنقة الدرداف»، وأشار إلى منزل وطلب منها أن تطرق الباب وتنادي على امرأة تدعى «فاطمة» وتخبرها أن ترتدي ملايتها وتخرج مسرعة، تقول السيدة مانع، إن خبرا وصل للمجاهدين بأن الجنود الفرنسيين كانوا سيعتقلون المجاهدة التي قصدتها في تلك الليلة.
تعلمت المناضلة الصغيرة الكتمان والسرية في العمل، ما جعل المجاهدين يضعون ثقتهم فيها ويولونها مهمة نقل الرسائل بين الفدائيين، كما تحولت محفظتها الصغيرة التي أضافوا إليها قطعة من الجلد للتمويه، إلى مخبئ سري لأسلحتهم، وأتبعت «شاركت في بعض العمليات، كنت أسرع لجمع أسلحة المجاهدين أثناء الاشتباكات، ثم أخبؤها في محفظتي لأعيدها إليهم حتى لا ينكشف أمرهم»
مضيفة، بأنها كانت تشتري لهم الأدوية أيضا بمساعدة الطبيب عزوز بورغود، الذي كان يكتب لها الوصفة، وذكرت بأنها كانت تغير الصيدلية كل مرة حتى لا ينتبه إليها الفرنسيون.
أما أكثر ما تفتخر به، فهي مشاركتها في توزيع نداء أول نوفمبر في شوارع قسنطينة، أخبرتنا أن أحد المجاهدين أتى إليها ذات يوم ممطر وكان يُمثل «يوم الأموات» لدى الفرنسيين، وطلب منها الإسراع بنزع مئزرها، ثم ذهب بها إلى شارع بلوزداد وطلب منها رمي نداء أول نوفمبر في صناديق الرسائل، نفذت أوامره دون أن تعلم ما الذي تحمله تلك الأوراق، علقت قائلة: «كنت شابة رياضية انتهى اليوم وقد وزعت النداء في نصف شارع بلوزداد، وأربع عمارات بشارع 19 جوان المعروف سابقا بشارع فرنسا».
فتاة صغير فوق طاولة التعذيب
يأتي يوم وينكشف أمر فضيلة مانع، بسبب شرطي يهودي يُدعى «ساكسيك»، تقول إنه كان يعرف الحي وسكانه جيدا، حدث ذلك بعد استشهاد جارها وزميلها في النضال محمد الصالح في جبل الوحش، تسرد الحادثة قائلة :»أخبرهم أنه رآه مرتين مع فتاة صغيرة بشعر طويل، كما أعلمهم بمكان دراستي وسكني» .
أخبرتنا، بأن الجنود الفرنسيين حوطوا المنزل وجمعوا النساء والرجال في ساحته، ثم بقيت وحدها داخل الغرفة، وهناك أبرحوها ضربا ثم حملوها إلى مركز الشرطة ومن هناك إلى حي أمزيان وهي فاقدة الوعي.
لمست المناضلة أنفها وكأن تلك الصورة عُرضت أمامها مرت أخرى، وقالت بتأثر «كسروا عظم أنفي، وأسقطوا لي سنا، وكان وجهي يقطر دما»، وعندما عادت إلى وعيها كانت فوق طاولة وحولها عساكر فرنسيون، يهددونها بإطلاق الكلاب لتنهش لحمها.
قضت السيدة مانع، ثلاثة أشهر في جحيم العذاب، وهي لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر، وتتذكر بأسى الوحشية التي تعرضت لها قائلة:» أطفأ جندي سيجارته في فخذي إلى أن شممت رائحة اللحم تحترق»، وتضيف «ذات يوم عندما كنت أتعرض للتعذيب دخل ضابط من الجيش الفرنسي وعندما رآني قال باستغراب للجنود «ابنتي في سنها مازالت تلعب بدميتها في باريس».
وأتبعت محدثتنا، أنه لولا اليهودي الذي كشف أمرها لما استطاعوا الوصول إليها، فعندما عاينوا كراريسها المدرسية وجدوها مواظبة على الحضور يوميا، تكتب دروسها بانتظام، حتى مدير الثانوية والمراقب العام الفرنسيان استغربا من كونها مجاهدة، وأرجعت ذلك إلى حرصها الشديد على ألا تلفت الانتباه إلى عملها النضالي.
وبعد خروجها من السجن وعند وصولها إلى المنزل، وجدت والدتها حزينة على غيابها معتقدة بأنها ميتة، ثم اضطر والدها لتغيير المنزل، لأن الجنود كانوا يترصدونها وينوون اغتيالها، فانتقلوا إلى بيت لم تكتمل الأشغال به في حي المنصورة، الذي أصبح فيما بعد مركزا للمجاهدين، حسبها، أخبرتنا المناضلة أن الشهيد مسعود بوجريو، أراد تهريبها إلى تونس لتواصل دراستها، لكنها عارضت ذلك قائلة له:»أموت أو أحيا في الجزائر».
«عندما أفكر في كل ما عاشته الجزائر أقول إن استقلالها كان معجزة»، هكذا وصفت المناضلة الأهوال التي عانى منها الشعب في تلك الفترة بسبب الاحتلال الفرنسي، تقول:»كانت الخسائر فادحة لكن رغم العذاب والقتل إلا أن الجزائريين شعبا ومجاهدين لم يتخلوا عن الثورة، وبقوا متمسكين بها رجل وامرأة كل يدافع عن أرض وطنه بما استطاع».
وفي هذا السياق ذكرت موقفا جمعها بزوجة واحد من «الحركى» تعرفت عليها في الحمام، بعد أن مثلت أنها تعمل هناك إلى أن كسبت ثقتها وأصبحت تزورها في منزلها، وعندما علمت المرأة بأنها مجاهدة شاركت معها في تهريب السلاح والرصاص من بيتها، ونقل الأخبار التي تسمعها من زوجها، قائلة لها :»زوجي حركي فوق جهدي، لكنني أحب وطني».
مواقف كثيرة لا تستطيع محدثتنا نسيانها، وبالخصوص ما عاشته في مظاهرات 1960 و1961، واسترجعت بعينين دامعتين، ذكرى جمعتها بشاب رُمي بالرصاص أسفل بطنه فانفجرت كليتاه، وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، طلب منها مساعدته ليستدير إلى شقه الآخر، قائلا لها :»لا أريد الذهاب إلى المستشفى أنا أموت، أريد أن أستلقي على الجهة الأخرى حتى أرى دمي يسقي أرض الجزائر».
وأعقبت :» قاوم بصعوبة وأحنى رأسه وبقي ينظر إلى دمه، وهو يقول لها «أختي فضيلة عندما تستقل الجزائر وتُشيد الجامعات الكبيرة، أين سيدرس شباب وشابات ليصبحوا أطباء وإطارات، عندها أنا لم أمت بدون فائدة بل حتى يستطيع الجيل الذي سيخلفني الدراسة والتعلم».
تحدثت بتأثر أيضا، عن جارتها الشهيدة عقيلة حداد، التي خرجت للمشاركة في المظاهرات بعد شهرين من ولادتها، مدفوعة بحماسة الخطاب الذي ألقته على مسامعهن السيدة مانع، لكن أحد التابعين للاحتلال الفرنسي رماها بالرصاص فسقطت شهيدة تاركة زوجها وابنها ذو الثماني سنوات ورضيعة.

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com