الاثنين 16 سبتمبر 2024 الموافق لـ 12 ربيع الأول 1446
Accueil Top Pub

الباحث في التاريخ الدكتور سفيان عبد اللطيف في حوار للنصر: معارك منطقة جيجل جعلت منها محورا هاما في الهجومات

تعتبر هجومات 20 أوت 1955 حدثا تاريخيا بارزا في النضال المسلح الذي قام به جيش التحرير الوطني، فقد كان لها وقع وأثر في مواجهة و دحر المستعمر الفرنسي وفك الحصار الحربي الشديد عن المنطقة التاريخية الأولى بالأوراس، وكذا إثبات قدرة قيادة الثورة على التخطيط والتنسيق والتنفيذ والهجوم بنقل الحرب من الجبال إلى المدن. وقد كان لمنطقة جيجل دور هام ضمن هجومات الشمال القسنطيني ومشاركة قوية، يفصّل فيها الباحث في التاريخ الدكتور سفيان عبد اللطيف في هذا الحوار.

حاوره: كريم طويل

بداية والجزائر تحتفي بذكرى هجمات الشمال القسنطيني، كيف نستذكر اليوم هذا الحدث؟
ككل سنة عندما تعيد الأزمنة استذكار أحداث محورية أسهمت في صناعة الواقع الراهن، يعود معها إشكال التعامُل مع هذه الأحداث، وكيف ينبغي أن نفهمها ونستفيد من تجربتها في تدعيم مبادئ راسخة في الشعب الجزائري صقلتها هذه الأحداث عندما وضعتها قيد التجربة الواقعية.
تاريخ أحداث 20 أوت 1955 بهجوماته ومظاهراته هو حدث له خصوصيّة، لكونه جمع مفارقة المحلي الوطني، فهو حدث في مستوى جهة من جهات الوطن هي منطقة الشمال القسنطيني آنذاك، ولكن كان ينتظر أن يكون وَقعُه ممثّلا للوطن كلّه، وهذه الـمفارقة تسوّغها عناصر ثلاثة هي طبيعة المنطقة ومستوى الوعي الوطني فيها ومقدراتها البشرية.
عبقرية ثورية نقلت الكفاح إلى المستوى المحلي
لابد من التذكير أن بداية الثورة كانت مفاجئة وخاطفة جعلت الإدارة الاستعمارية وأجهزتها تسابق الزمن لإطفاء جذوتها إعلاميّا وميدانيًّا، ولذلك كانت القيادات الأولى من المناضلين الذين تولُّوا المسؤولية في بداياتها، في ضغط شديد جعلهم يستثمرون أبسط ما توفر لهم من الوسائل التي كانت تقدمها كل منطقة بخصوصيتها الجغرافية والبشرية والمادية لتحقيق أقصى ما يمكن من النتائج ووضع الاستعمار والعالم كله أمام أمر واقع لا يمكن تجاهله وهو وجود شعب ثائر على مستعمره ويريد أن يتحرر وينعتق بكل الوسائل.
ما هو الدور الذي كان متوقعا من منطقة جيجل في هجومات 20 أوت 1955؟
طبعًا من ناحية التقسيم الجغرافي الوطني الذي وضعته المنظمة الخاصة (OS)، تقع جيجل في أصعب جهة من منطقة الشمال القسنطيني، وكان لها نشاط جدّ ملحوظ وحضور دائم لعناصر الحركة الوطنيّة بجميع توجهاتها، كما كان لها خليتان للمنظمة الخاصة إحداهما بجيجل منسقها مولود عمروش والأخرى بالميلية منسقها علي زغدود العواطي، كما كانت حاضرة أيضا في الحدث المركزي وهو عمليات إعلان الثورة التحريرية في 1 نوفمبر 1954 من خلال عمليات «منجم بولحمام» و»منجم بودوخة.
كما كانت القيادة في منطقة جيجل جاهزة ومنظمة منذ مجيء حسين بوعلي المدعو «سي مسعود بوعلي» وعبد الله بن الصمّ المدعو «سي مسعود الطاهيري»، اللذين جمعَا كل أفواج الـمناضلين الذين التحقوا بالجبال منذ شهر جانفي وإلى ماي 1955 وقادا عمليات تحضيرية نوعية تضمنت تحسيس مختلف شرائح الشعب بضرورة الالتفاف حول الثورة التحريرية ودعمها من خلال تفعيل دور الشبكات الاجتماعية المركزية وهي شبكات الحرف والتجارة، شبكة طلبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، شبكة تلاميذ المدارس الكولونيالية وغيرها.
كان ذلك من أجل التصدي للدعاية الاستعمارية المضادة للثورة التحريرية، وقد صرح بذلك مجاهدون شكلوا الرعيل الأوّل بالمنطقة مثل بوعلّي وبن طبال وآخرون، وقالوا بأن الرهان المركزي لمرحلة بدايات الثورة كان على من يمكن أن يكسب الشعب إلى جانبه. وفي هذا الإطار جاء زيغود يوسف الذي خلّف له ديدوش مراد بعد استشهاده أمانة ثقيلة جدًّا هي ضمان تأطير وتنظيم منطقة واسعة في مرحلة جد حرجة، وكان على زيغود أن يختبر كل الخلايا التابعة لقيادته بوضعها أمام امتحان حقيقي ورهان فرضه واقع الضغط الاستعماري. منطقة جيجل بجغرافيتها العصيّة على الرقابة الاستعمارية وبمكونها القبَلِي المؤطر اجتماعيًّا بوشائج متينة، وبالعدد الجيد للمجاهدين قياسًا بمعايير تلك المرحلة، كانت واحدة من بين المناطق التي عوّل عليها زيغود يوسف بقوة لتحقيق ضربات نوعيّة.

جيجل كانت حاضرة في هذه الأحداث من خلال هجومات نوعيّة، ما هي أهم المناطق التي شهدت هذه العمليات وما الذي وقع بها تحديدا؟
أهميّة منطقة جيجل من الناحية الإستراتيجية تأتي من نجاحها في العمل العسكري أكثر من العمل السياسي الذي ضمنته سكيكدة من خلال نقاباتها العمالية المهيكلة نضاليًّا والتي كانت تعمل بالميناء ومناجم المدينة، لذلك يبدو أن زيغود يوسف أراد عمليات عسكرية وسياسية نوعيّة ذات بُعد خاص، في الجانب السياسي منها يقدّم صورة للشعب الجزائري عن قوة جيش التحرير الوطني وقدرته على أن يكون ندًّا قويًّا للجيش الاستعماري في مستوى المواجهة، مما يحيي ثقة الشعب في نفسه ويستثير شجاعته ويجعله يلتف حول المجاهدين، وفي الجانب العسكري إحداث خسائر معتبرة للمستعمر وأعوانه وجمع أكبر قدر من الغنائم لاستعمالها في مواصلة الكفاح، لذلك خصّ زيغود يوسف مسؤول الـمنطقة لخضر بن طوبال باجتماع على انفراد لأربعة أيام لشرح المطلوب من محور القل- ميلة- الميلية- جيجل.
بعد ذلك تم تنظيم اجتماع لثلاثة أيام من 17 إلى 19 أوت 1955 بمركز «طهر القيقب» بدوار «بني صبيح»، أين تم جمع القيادات المحلية والمناضلين وإعلامهم بقرار الهجومات والمغزى المراد من ورائها، ثم القيام بتقسيمهم إلى فوج بقيادة علي زغدود العواطي من سيدي معروف وميلة وقاسراس إلى وادي ورزق، فوج بقيادة سعد بوعافية وعمار علوش من سيدي معروف إلى بستان المعمر Villon، فوج بقيادة مسعود الطاهيري ودخلي مختار البركة والحاج خونا من العنصر إلى الشقفة والطاهير إلى جيجل، فوج بقيادة مسعود بوعلي وعلي بن جكون من الولجة ومشاط إلى الميلية، فوج بقيادة صالح مزدور ولخضر بولكرشة من زقار وعين رويبح والسوقية إلى الحارك، فوج يقوده أحمد العبودي من زرزور وكاثينا إلى بوشارف، فوج بقيادة الدني عبد الله ومحمد لحمر من بوشارف إلى برج علي أراقو، وفوج بقيادة سعد بوالصيادة من زرزور إلى بودوخة.
الشبكات المهنية البسيطة كانت قنوات قوية للتجنيد
في يوم 20 أوت الساعة على الساعة 12 نهارًا انطلقت العلميات كلها في وقت واحد، وامتدت ليومي 21 و22 بانضمام الجماهير الشعبية ومشاركتها في قطع الطرقات وتخريب البنية التحتية واسترجاع الممتلكات من المعمرين وغيرها، وقد شهدت اشتباكات مباشرة وقوية مع العدو فحدثت معارك أبرزها معارك «حامة بني هارون»، «تاسنجيو»، «المريجة»، «جسر بوسيابة»، «واد بوالقفش» وغيرها، وعمليات فدائية أبرزها عملية «وادي أودادن».
كما تم القيام بكل ما يمكنه أن يحقق الصدى السياسي ويجلب مغانم تستعين بها الثورة التحريرية وترفع بعض الظلم والعبودية التي كان ينوء الشعب الجزائري تحت نيرها، وقد تركزت أساسًا على قطع طريق بين لغدر، طريق سكيكدة، طريق زقار، طريق زرزور، طريق السطارة، طريق بوشارف، طريق برج علي، طريق القفش، طريق بونعجة، طريق القل، طريق بين الويدان، طريق البلوطة الحلوة، طريق عين قشرة، طريق واد ارزق، طريق فج الخميس، طريق درع أولاد الصالح، طريق بوخداش، وطريق أولاد عطية.
وقد تم تحطيم عيون الماء التي تزود بيوت المعمرين ومزارعهم في منابع بوخداش، بوجودون، بولعروق، برج علي، بوشارف، وفرينين، وحنفية المعمر داماس قطارة. تم كذلك مهاجمة المناجم والاستيلاء على محتوياتها وحرقها في بولحمام، سيدي معروف، بوجودون، الأربعاء بأم الطوب، ديار الهوادف، وبودوكة، ومهاجمة مساكن المعمرين وإحراقها وهي مسكن المعمر الفرنسي بالقفش، مسكن المعمر فيُّو، مسكن المعمر جويلي، مسكن المعمر ميلي، مسكن المعمر داماس، مسكن المعمر الفرنسي بديار الفتات، ومسكن المعمر الفرنسي بأولاد عربي، إضافة إلى منازل حراس الغابات في القصيبة، بن البلدي، دار الحجرادة، تيغرمان، الدكارة، غار حنش، آراقو، الصفصافة، البطايح، وبوبياطة، وكذلك تحطيم جسر حزوزاين، السكة الحديدية من مدينة سيدي معروف إلى مدينة جيجل، جسر بن الزهاني، جسر تانفدور، جسر بني العباس، جسر سليانة، جسر واد وارزق، جسر أم تليلي، وجسر بن دراية، إلى جانب إحراق المنتوجات الاستعمارية لحرمانه من عوائدها المادية عبر حرق الفلين في محطة المريجة بالميلية، ومنجم أم الطوب، ومنجم ديار الهوادف، ومنجم بودوخة، ومنزل حراس الغابات بالصفصافة.
ومن الناحية العسكرية، أسفرت هذه العمليات الكثيرة التي قامت بها أفواج المجاهدين عن خسائر بشرية نوعيّة في صفوف المحتل، حيث تمكن المجاهدون من تصفية حاكم الـميلية جان رينو في منطقة «واد أودادن» وقتل 10 بمنطقة كاثينا «السطارة حاليا» منهم أربعة جنود و5 معمرين وامرأة، وضابط من جيش العدو في «جسر حزوزاين»، وجنديين بمنطقة «زقار»، و 10 جنود آخرين بمنطقة «تاسنجيو»، وعدد كبير من الجنود بمعركة حامة بني هارون، بالإضافة إلى إحراق 7 شاحنات ودبابة لجيش العدو وشاحنتين لأحد الأوروبيين بجسر «حزوزاين»، بينما ارتقى شهيدًا في هذه الملحمة البطولية بوزردوم علي في كاثينا، وقليل زيدان في أولاد عربي، والعناني في بين لغدر. هكذا إذن كان حضور منطقة جيجل مكثفًا في هذه المناسبة واستطاعت تحقيق النتائج المخطط لها بكل عزيمة وشجاعة.
كيف كان أثر هذه الهجومات محليا، وما الذي قدمته للثورة؟
لا أدَلّ على نـجاح هذه العمليات من زخمها والالتفاف السريع للشعب حولها، فقد أضيفت إلى العمليات السياسية والعسكرية التي وقعت بمناطق أخرى مثل وادي الزناتي وعين عبيد وسكيكدة وقالمة وغيرها، لتنقل مركز الثقل إلى الشمال القسنطيني بعدما أرادت الآلة الدعائية الفرنسية حصره في الأوراس والضغط عليه بشكل كبير من خلال ثنائية التهجير والتدمير.
جاء ذلك أيضا ليُثبت المجاهدون بما لا يدع مجالا للشك بأن الثورة ماضية في أهدافها مهما كان الثمن وأن هيبتها منتشرة في جميع أقطار الجزائر، ومن جهة أخرى يمكن أن نلاحظ كيف انتقلت العبقرية الثورية في ظل ظروف جدّ عصيبة من العمل الشمولي الذي يحتاجُ إلى تنسيق عالي المستوى إلى العمل المحلي الذي يعتمد على الممكن وعلى إمكانيات كل منطقة وقدرتها على التجنيد والتحرك بطريقة فاعلة، في مزاوجة متناسقة بين الشمولي والمحلي وبين الممكن والمستحيل، وهي عبقرية لافتة استطاعت إلى حدّ ما تجاوز الطوق المغلق المفروض من الإدارة الاستعمارية.

محور القل- الميلية- ميلة- جيجل في هذا الإطار كان سخيًّا ولم يبخل بما عنده من استعدادات وقدرات ميدانية وبشرية في سبيل إنجاح الحدث، وهو ما جعل زيغود يوسف يقول مقولته المشهورة: «أحداث 20 أوت نجحت سياسيا في سكيكدة، ولكنها نجحت سياسيا وعسكريا بالميلية» ويقدّم هديّة تكريمية رمزية لـمسعود بوعلي تتمثل في مصحف شريف.
اليوم وبعد 69 سنة من الأحداث، كيف يمكننا الاستفادة من ذكرى هذا الانتصار السياسي العسكري؟
أعتقد أن أكثر شيء يمكن أن نستفيد منه من هذه الذكرى هو معرفة نقاط قوتنا وضعفنا، وكيف استطاع أجدادنا وآباؤنا أن يستثمروا في هذه النقاط لينجحوا في إسقاط صنم استعماري كبير في العالم، وربما يرى الجيل الجديد بعض العادات والمعتقدات بدائية وبسيطة، ولكنها وقت الجد أثبتت نجاعتها، فالشبكات المهنية البسيطة كشبكة الحدادين مثلاً التي كان ينتمي إليها زيغود يوسف وعمار غوغة وصالح بولعتيقة وشبكة الحلاقين التي كان ينتمي إليها دخلي مختار البركة، وشبكة التجار والفلاحين وعاملي المناجم وغيرهم، كلها كانت قنوات متينة للتجنيد والدعم والإسناد لجيش التحرير الوطني، وكذلك شبكة العلاقات الأسرية والمشيخات العائلية التي كانت تعتمد على معايير جدّ صارمة للانتقاء والتجنيد من خلال الاستثمار في عنصري القرابة والمصاهرة التي تشكل نواة متينة للمجتمع، وأيضا السلطة الدينية التي مثّلها أئمة بعض المساجد والكتاتيب وطلبة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين والتي قامت بتأطير الوعي الجهادي للثورة التحريرية وتشكيل نظام مدني موازي للإدارة الاستعمارية وغيرها.
أحداث 20 أوت نجحت سياسيا وعسكريا بالميلية
لابد أن ندرك هذه النقاط الأنثروبولوجية المحركة في مجتمعنا الثوري، وأن نتعامل معها بشكل أكثر وعيًا يبحث في التطور العقلي للمجتمع الجزائري وكيف يمكنه العودة إلى القاعدة المنطلقية لتماسكه، وخصوصًا أمام التحديات الراهنة التي تهدد تماسك المجتمعات وتسعى لتقسيمها وهدم لُحمتها ونهب مقدراتها، لذلك العودة إلى هذه الأحداث التاريخية المجيدة يقتضي منحها حقها من الاعتزاز الرمزي والمجتمعي ربما في المستوى الرسمي، ولكن ثمة مستويات أخرى علمية وتربوية واستشرافية يمكنها أن تأخذ الكثير من العبر والدروس من ماض مجيد يعود في كل موسم لنجني ثماره.
كـ.ط

 

آخر الأخبار

Articles Side Pub
Articles Bottom Pub
جريدة النصر الإلكترونية

تأسست جريدة "النصر" في 27 نوفمبر 1908م ، وأممت في 18 سبتمبر 1963م. 
عربت جزئيا في 5 يوليو 1971م (صفحتان)، ثم تعربت كليًا في 1 يناير 1972م. كانت النصر تمتلك مطبعة منذ 1928م حتى 1990م. أصبحت جريدة يومية توزع وتطبع في جميع أنحاء الوطن، من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب.

عن النصر  اتصل بنا 

 

اتصل بنا

المنطقة الصناعية "بالما" 24 فيفري 1956
قسنطينة - الجزائر
قسم التحرير
قسم الإشهار
(+213) (0) 31 60 70 78 (+213) (0) 31 60 70 82
(+213) (0) 31 60 70 77 (+213) (0) 6 60 37 60 00
annasr.journal@gmail.com pub@annasronline.com