فرضت التغيرات التاريخية والسياسية التي مرت بها الجزائر مشهدا اجتماعيا مختلفا و تباينا في القيم والمعتقدات بين الأجيال، كما عمقت التكنولوجيا الفجوة الاتصالية بين الآباء والأبناء في الجزائر على غرار مجتمعات أخرى كما يؤكده مختصون في مجالات التواصل، مؤكدين أن الثورة التكنولوجية أفرزت تباينا في رؤى الحياة والمستقبل بين أفراد الأسرة الواحدة، الأمر الذي بات يصعب مهمة التواصل والتفاهم فيما بينهم.
وقد أثبتت دراسات نفسية واجتماعية، بأن إشكالية التحاور داخل الأسر قضية معقدة ومتعددة الأبعاد، و تؤثر بشكل كبير على التماسك الأسري والاستقرار النفسي، كما أن هذه الإشكالية تنشأ من عدة عوامل تؤثر على جودة التواصل بين أفراد الأسرة وتتطلب فهما عميقا للوصول إلى الحلول الممكنة.
السلوك الفردي يتشكل من خلال التبادلات مع الآخرين
وبحسب أخصائية أمراض اللغة والتواصل، الدكتورة وهيبة فتيحة، فإن المجتمعات تعيش منذ الأزل في تواصل مستمر بين أفرادها و بينها وبين الطبيعة، ولقد تم تطوير العديد من قنوات التواصل على المدى الزمني البعيد، فمن استخدام أصوات الطبيعة والحيوانات للاستدلال على مكامن الأخطار للمحافظة على النفس وبقاع الأمان على الأرض للتطور والإعمار إلى استثمار ذبذبات الدماغ الكهربائية للتعرف على أصل السلوكيات البشرية السوية و المرضية، ولا تزال طرق التواصل في نمو وانفتاح لبلوغ أقصى وأمتن العلاقات الارتباطية بين الكائنات الحية عموما وبين بني البشر على وجه الخصوص. وبحسب الدكتورة، فإن النظريات التي تناولت عملية التواصل، اعتمدت في تفسير الحياة التفاعلية الاجتماعية للأفراد وذلك من خلال التأكيد على كيفية تشكل هذه التفاعلات للسلوكيات والهويات ومختلف الهياكل الاجتماعية بما في ذلك الأسرة، حيث إن السلوك الفردي بحسبها، يتشكل من خلال التبادلات مع الآخرين، ويُنظر إلى المجتمع على أنه شبكة ديناميكية من التفاعلات وليس مجموعة جامدة من الهياكل، إضافة إلى أن المعاني التي ينسبها الأفراد إلى تفاعلاتهم ضرورية لفهم سلوكهم، إذ يتأثر كل تفاعل بالسياقات الاجتماعية والمعاني الذاتية التي تندرج في إطارها، وذلك حتى تتم عملية بناء الحياة الاجتماعية من خلال هذه المعاني المشتركة التي تتطور وتتغير على مدار التفاعلات.
نمط تواصـلي وليد ظروف تاريخية و سياسية مرت بها الجـزائر
وأكدت المتحدثة، بأن المجتمع الجزائري كسائر المجتمعات تحكمه مجموعة من المعايير الاجتماعية والقيمية للتواصل، والتي بلورتها الأحداث التاريخية والأوضاع السياسية التي توالت ولا تزال تتوالى عليه فنموذج التواصل في البيئة الجزائرية، شهد إضافات وتغيرات دخيلة منذ أزيد من قرنين، و لعب دورا في تشكيل نمط اتصالي معين بفعل تأثير اللغة المستعملة للتواصل والتي تندرج تحت منظور الهوية الوطنية والتركيبة النفسية، التي كانت نتاجا لما عايشه المجتمع الجزائري من مراحل اضطرابات واستقرارات سياسية.
فالمتأمل للنسيج الاجتماعي الجزائري بحسبها، يلاحظ أن هناك مجموعة من الخصائص والسمات تهيمن على طرق تواصله، حيث يظهر لكل أجنبي دخيل على المجتمع أن طريقة الحوار العامة غليظة نوعا ما، وتتميز بحدة النبرة و ارتفاع الصوت واستعمال لغة الجسد بصفة كبيرة، ناهيك عن بعض المصطلحات التي لا تؤدي المعنى المراد إيصاله، كما أن غالبية الأفراد تعتمد بنسبة كبيرة في فهم المعاني المتداولة، على فهم السياقات لا على فهم الكلام، حتى وإن بدت طريقة التواصل داخل النسيج الاجتماعي الجزائري متجانسة.
وأكدت الدكتورة، أن المتعمق داخل اللبنة الأساسية لهذا المجتمع والمتمثلة في الأسرة، يمكنه أن يلاحظ تباينا صارخا في نماذج وطرق وحتى وسائل التواصل بين الأفراد، ففي وقت تطغى على بعض الأسر لغة تواصل تطبعها سلوكيات ساخنة كالصراخ ولغة الجسد وحتى العنف ، نجد بالمقابل نمط تواصل أسر أخرى يعتمد على لغة الحوار الهادئة والتحليل الموضوعي لمواضيع التحاور والاحتكام إلى الأصول والاجتهادات والعقل عند الاختلاف.
وبين هذا وذاك كما عبرت، نجد نمطا ضبابيا ثالثا يكاد يكون مزيجا بين النمطين التواصليين السابقين، وهو نمط الأسر التي تتشرب بالمواقف والوضعيات التواصلية التي تكون طرفا فيها، فإذا كانت أجواء التواصل صارخة وشديدة مالت إلى نفس النمط ،و إن صادف وتواجدت في بيئة تواصلية تطبعها السكينة و الموضوعية، فإنها تتبنى أسلوبا حواريا هادئا.
وأوضحت المتحدثة، بأن التباين في النمط التواصلي بين الأسر الجزائرية كان وليد مراحل وظروف تاريخية وتداول حقبات سياسية مرت على الجزائر، فالمؤرخون يجمعون على أن الطبيعة الحادة والغليظة في نمط تواصل الجزائريين وليدة طول الأزمنة التي قضاها الأفراد عبر الأجيال في الحروب والمعارك، كما أن صبغة الهدوء والروية التي اكتسبتها بعض الفئات، في الحقيقة وليدة احتكاك المجتمع ببعض الطبقات الأرستقراطية .
وتابعت بالقول، إنه إن جاز التسليم بما سبق طرحه، فإن هناك عاملا جوهريا هو محور العملية التواصلية وموجهها الأساسي، والمتمثل في التركيبة النفسية العصبية للفرد، والتي تعتبر مفتاح السر للتحكم في كيفية قولبة النمط التواصلي لدى الأفراد.
هكذا نعدل النمط التواصلي من منظور العلوم العصبية والمعرفية
وبحسب الأخصائية في أمراض اللغة والتواصل، الدكتورة وهيبة فتيحة فإنه يمكننا تعديل النمط التواصلي للأفراد من منظور العلوم العصبية والمعرفية، وذلك من خلال الانطلاق من مسلمة أن العلوم الحديثة أجمعت أن كل سلوكيات الكائنات الحية تحكمها مجموعة الوظائف المعرفية أو العمليات العقلية كما كانت تسمى سابقا.
وقد توصل الباحثون كما أوضحت، إلى تحديد مركز كل سلوك، ومن أهم النتائج التي توصلوا إليها، القول بأن التواصل يشمل حيزا ممتدا من القشرة الدماغية انطلاقا من الفصوص الجبهية الأمامية الظهرية ووصولا إلى القشرة الصدغية البطنية، كما أكدوا هذه النتائج العلمية من خلال تباين نمط التواصل قبل إجراء الاستثارات الكهربائية عبر القشرية وبعدها، حيث تمكن بعض عينات التجارب من تغيير نمطها التواصلي من النقيض إلى النقيض. وأضافت المتحدثة، أن هذه الأبحاث حققت قفزة علمية، يمكن أن تستثمر جيدا وإيجابا، عبر إقحام التأهيل النفسي العصبي « المعرفي» لتعديل استجابات الأفراد عن طريق الاستثارة الكهربائية عبر القشرية، وذلك بالاعتماد الأساسي على تحفيز وتنشيط الوظائف المعرفية الأساسية إجمالا والوظائف التنفيذية بصفة خاصة.
البرامج البيداغوجية
يمكنها تحسين أداء الوظائف المعرفية
وأضافت الأخصائية، بأنه من خلال ما سبق يمكن أن تستثمر هذه التقنية الحديثة في تغيير الأنماط التواصلية، وفي تحسين وتجويد لغة التواصل لدى الأسر الجزائرية، وذلك من خلال إدراج برامج بيداغوجية وتعليمية في مناهج التربية الوطنية تستهدف تأهيل وتدريب الوظائف المعرفية لدى التلاميذ منذ المراحل التحضيرية من التعليم الأساسي، وذلك بالنسبة للمراحل العمرية الأولى.
أما بالنسبة للمراحل المتقدمة « الشباب، الكهولة والشيوخ»، فيمكن حسبها، تخصيص مراكز ووحدات على مستوى المؤسسات العمومية والمرافق الترفيهية يشرف عليها فريق من المختصين يسهرون على تجويد وتحسين أداء الوظائف المعرفية من خلال ورشات عملية لكل فرد يتقدم إليها.
وأشارت الدكتورة في سياق منفصل، إلى أن التواصل من أعقد العمليات المعرفية، لذلك فإن التناول الأحادي لجانب منه، لا يمكن أن يكون كافيا لإيجاد استراتيجيات فعالة لتحسينه أو الرفع من كفاءته الأدائية، الأمر الذي يستدعي تكاثف التخصصات والجهود والتقنيات إذا أردنا الرفع من مستوى أنماط التواصل في الأسر الجزائرية.
لينة دلول