تعمل الجامعة الجزائرية ومن خلفها القائمون على إدارة الشأن الأكاديمي على مسايرة التطوّر التكنولوجي وبروز تطبيقات الذكاء الاصطناعي الذي يشهده العالم، من خلال تعزيز استخدام الأدوات الرقمية الحديثة في الوسط الجامعي، ويؤكّد دكاترة ومختصون أنّ هذا النّهج لا بدّ أن يصاحبه تطوير للمعارف من خلال اكتساب ثقافة رقمية بالنّسبة لأطراف الجامعة بالأخص الطلبة والأساتذة، وضرورة تحيين المعارف لاستغلال أمثل للأدوات المتاحة، ذلك أنّ إتقان الأساسيات حسبهم في الوضع الراهن لم يعد كافيا.
ويسير القائمون على قطاع التعليم العالي في الجزائر على طريق تقوية استخدام التكنولوجيا الرقمية في الجامعة، حيث تمّ في السنوات الأخيرة تصميم وإتاحة العديد من الأدوات والبرامج في هذا الإطار، من بينها تبني نهج التعليم عن بعد من خلال استخدام المنصة الإلكترونية «مودل»، استحداث المستودعات الرقمية للجامعات لوضع وتحميل المنتجات البحثية، فضلا عن تدعيم العملية التعليمية والبحثية من خلال وضع النّظام الوطني للتوثيق على الخط وكذا المنصة الوطنية للإشعار عن الأطروحات الجامعية، كما يتم تدارس إمكانية تجربة نموذج جامعة من الجيل الرابع في خطوة تعدّ أكثر تقدّما في مسار تقوية وجود التكنولوجيا الحديثة بالمؤسسات الجامعية.
وحتى تكتمل الصورة ويتحقّق الغرض المطلوب من هذا التوجّه ينبغي على الأسرة الجامعية بالأخص الطلبة والأساتذة بدرجة أقل اكتساب ثقافة رقمية، ذلك أنّ الاستفادة القصوى والاستغلال الفعّال للأدوات التكنولوجية في عملية التعلّم والتعليم يستدعي ذلك، ولا ينكر المختصون ممّن تحدّثت معهم النّصر وجود بوادر تهتم بالتكوين الرّقمي، حيث تعمل الوزارة الوصيّة بالتنسيق مع مختلف مكوّنات القطاع في كل سنة على اتّخاذ خطوات تنظيمية أكثر في هذا الشّأن للوصول إلى النّموذج الأمثل الذي يناسب خصوصية التعليم في بلادنا.
* الدكتور محمد لمين بركان
الثقافة الرقمية تتجاوز معرفة البرامج المكتبية والأساسيات
يرى الدكتور بكلية التكنولوجيات الحديثة للمعلومات والاتصال بجامعة قسنطينة 2، محمد لمين بركان، أنّه في ظل التقدّم التكنولوجي الكبير الذي يشهده العالم وتوجّه الجامعات ووزارة التعليم العالي نحو اعتماد التكنولوجيا في التعليم فإنّ إتقان البرامج المكتبيّة الأساسية مثل «وورد» و«باوربوينت» وبعض أساسيات الحاسوب لا يعتبر كافيا بالنّسبة للطالب الجامعي للوصول إلى مهارات تتناسب مع متطلّبات العصر الرّقمي.
ويضيف المتحدّث أنّ المهارات الرّقمية المطلوبة حاليا تتجاوز معرفة البرامج المكتبيّة لتشمل القدرة على استخدام أدوات التّواصل الرّقمية، تحليل البيانات، التفاعل مع أنظمة التّعليم الإلكتروني، فهم أمان المعلومات واستخدام التطبيقات السحابية بل وحتى البرمجة في بعض التخصّصات، وذات الأمر بالنّسبة للثقافة الرقمية التي تشمل معرفة كيفية التعامل مع مصادر المعلومات الإلكترونية، فهم حقوق الملكية الفكرية على الأنترنيت، معرفة التحديات الأمنية والخصوصية، إضافة إلى القدرة على النّقد الرقمي وتحليل المعلومات الموجودة عبر الفضاء الرقمي وتطوير التفكير المنطقي والابتكاري لحل المشكلات باستخدام التكنولوجيا.
ومن خلال التفاعل المباشر مع الطلبة يرى الدكتور، بركان، أنّ قدراتهم في التعامل مع الأدوات والبرامج الرقمية المرتبطة بالمجال الأكاديمي متفاوتة إلى حدّ كبير، بحيث تصنّف حسبه إلى ثلاثة مستويات، المتقدّم الذي ينتمي إليه بعض الطلبة خاصة الذين يملكون اهتماما ومعرفة مسبقة بالتكنولوجيا أو التخصصات التّقنيّة، يظهرون قدرات متميّزة في استخدام الأدوات الرقمية الأكاديمية، ثم المستوى المتوسّط الذي يقع فيه غالبية الطلبة حسبه، حيث يستطيع هؤلاء الوصول إلى بعض الأدوات الأساسية، لكن غالبا ما يجدون صعوبة في استغلال كافة إمكانات تلك الأدوات أو المنصات، بينما يتواجد أيضا في المستوى المبتدئ عدد من الطلبة الذين يواجهون صعوبة في استخدام هذه الأدوات، بالأخص عند الدخول إلى المستودعات الرّقمية وقواعد البيانات الأكاديمية.
ولفت المتحدّث أنّ بناء ثقافة رقمية متكاملة لدى الطالب الجامعي وكذا الأستاذ أصبح ضرورة، خاصة مع التطورات التكنولوجية المتسارعة التي يشهدها الحقل الأكاديمي، إذ يمكن تحقيق ذلك حسب، بركان، باستراتيجيات متنوّعة تهدف لتطوير فهم عميق وعملي للتّقنيّات الرّقمية كالتدريب العملي المستمر، ورش العمل التفاعلية والمبادرات الجماعية، تعزيز الوعي بأمن المعلومات وحقوق الملكية الفكرية الرقمية.
ويتّفق المتحدّث في كون الرّهانات التكنولوجية اليوم فرضت فعلا ضرورة تجديد المعلومات وتحيينها بشكل منتظم بالنّسبة للطلبة والأساتذة على حدّ السواء، ذلك أنّ التّقنيّات الرقمية تتطوّر بوتيرة سريعة ممّا يجعل المهارات والمعارف الرّقمية المكتسبة مسبقا قد تصبح غير كافية أو حتى غير صالحة مع مرور الوقت، وبالتالي من اللازم على كل من الطلبة والأساتذة السعي لتحديث المعلومات بشكل مستمر لمواكبة المتطلّبات الجديدة وإتقان الأدوات الجديدة اللازمة لإدارة عملية التكوين الأكاديمي والبحثي بفعالية.
وأبرز المتحدّث أنّ توظيف التكنولوجيا خاصة تطبيقات الذكاء الاصطناعي يفرض على الأسرة الجامعية تطوير نظرة استشرافية للتوجّهات المستقبلية في التعليم العالي، إذ أنّ الذكاء الاصطناعي ليس مجرّد أداة جديدة يقول الدكتور، بركان، بل هو منظومة متكاملة يمكن أن تغيّر كيفيّة التعليم والتعلّم، ممّا يجعل من الضروري إعداد الطلبة والأساتذة للتعامل معه بفعالية، كما أنّ التوجّه نحو إدخال الذكاء الاصطناعي في التعليم يتطلّب استراتيجية شاملة تلمّ بجميع جوانب التكوين الأكاديمي، بدءا من إعداد الطلبة والأساتذة لاكتساب المهارات التّقنيّة والتّحليلية الضرورية وصولا إلى تقديم دعم تقني وبحثي يمكّن من مواجهات التحدّيات المستقبليّة.
ونبّه المتحدّث في هذا السياق إلى وجود بوادر وخطوات عملية نحو وضع استراتيجية لتعزيز استخدام التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في التعليم العالي، خاصة بعد تطبيق المخطّط التّوجيهي للرّقمنة من طرف الوزارة الوصيّة الذي يحتوي على عدّة محاور وبرامج منها تكوين الأساتذة في أدوات التعليم عن بعد كمنصّة «مودل»، وتنظيم ورشات تدريب لهم، فضلا عن تكوين الموظّفين في استعمال وتطوير المهارات وأدوات البرامج المكتبيّة وبرامج أخرى، إذ تعتبر خطوة مهمّة في التحوّل نحو التعليم الإلكتروني، فقد ساعد هذا الإجراء على تحسين كفاءة العديد منهم في التعامل مع التعليم الإلكتروني ووفّرت بيئة متقدّمة لإدارة الدروس والأنشطة.
* الدكتور علي حرودي
المدارس العليا المستحدثة باب لدعم البيئة الرّقمية
يرى دكتور علم الاجتماع بجامعة سطيف 2، علي حرودي، أنّ جميع مكوّنات الجامعة تدرك أهمّية التحوّل الرّقمي الرّيادي الذي يشهده قطاع التعليم العالي والبحث العلمي والدّور المنوط بكل فاعل، على اعتبار أنّ تحقيق الغايات المسطّرة يرتبط باندماج فعلي لمكوّنات الجامعة في هذه السيرورة، إذ أنّ الطالب يعلم بضرورة التمكّن من مهارات التكنولوجيا الرّقمية بكل تطبيقاتها المتاحة والمحتملة منذ التحاقه بالجامعة وإلى غاية تخرّجه مرورا بتدبير مساره البيداغوجي وتحصيله للمعارف المقدّمة في تخصّصه وكيفية نقل هذه الأخيرة تحت وقع التغيرات التي تحدثها التكنولوجيا الرّقمية في أساليب التعلّم واستعمالاتها وتنظيمها باعتبارها نظاما تفاعليا تواصليا يؤدي إلى تحوّل كبير في مداركنا المعرفية.
وينظر المتحدّث أنّ الطالب هو الأكثر حاجة واستعمالا للأدوات الرّقمية بحكم سياق الانتماء أولا ثم واقع القطاع المتّجه بوتيرة متسارعة نحو الرّقمنة الشاملة والمضي قدما في إدماج الجامعة الجزائريّة ضمن فضاء معرفي دولي مفتوح، ممّا يدفع الطالب للمزيد من استيعاب مهارات ومتطلّبات التّقنيّات الرّقمية بما تتيحه من فرص وثروة لا يستهان بها من المعلومات والمعارف، حيث أنّها تعمل على تغيير أهمية الوقت والفضاء في آن واحد، وهو ما يتناسب مع التوجّهات العامّة ويصبّ في خدمتها في إطار تشجيع الطلبة على خلق فرص العمل بأنفسهم ودعم روح المبادرة والمقاولة ووضع منتجات البحوث والمذكّرات في صالح الاقتصاد الوطني وتنمية المجتمع على العموم.
وعبّر الدكتور، حرودي، أنّ أمر اكتساب مهارات الاتصال الرّقمي لا يقتصر على الطالب وحده، بل يتعدّاه لكل أطراف المؤسسة الجامعيّة بالنّظر لسياسة لامادية كل النّشاطات والممارسات داخل القطاع والسعي نحو مرئيّة أفضل للجامعة الجزائريّة، على أساس تزويد الطالب بتكوين نوعي ومرن يستجيب لبنية العمل الجديدة وكفاءات قاعدية متجدّدة باستمرار، فضلا عن جهد علمي وبحثي مثمّن معنويا وماديا داخليا وخارجيا في جميع التخصّصات الموجودة بالجامعة بمحتواها البيداغوجي وشهاداتها، وبالتالي فالمسؤولية تقع في المقام الأوّل على الهيئة التدريسية لتعزيز أهمية الثقافة الرّقمية وتكنولوجيا الرّقمنة في التعلّم والتّكوين والتّواصل وإنتاج المعرفة وطرق استقبالها، إرسالها ونشرها، بالنّظر لما توفّره الأدوات الجديدة بما فيها الذكاء الاصطناعي الآخذة في التنامي بما يرسخ الوعي لدى الجميع بأهمية وحيوية هذا الانتقال.
وعبّر المتحدّث أنّ التطبيقات الجديدة للتكنولوجيا تدفع الفاعلين بالجامعة من طلبة وأساتذة إلى الاستفادة من مزاياها وفرصها في كل التخصّصات والميادين المُدرسة، فلا يمكن اليوم تصوّر يضيف، حرودي، أي نشاط علمي لا يغتنم ما تتيحه الأدوات التقنية الجديدة، إذ أنّ كل العلوم سواء منها الاجتماعية أو الآداب والفلسفة أو الفن تسعى لتوظيف التكنولوجيا الرقمية في نشر أعمالها وتحيين برامجها لفائدة الطلبة وأيضا تطوير عروضها المعرفية في التفاعل مع المتطلّبات الجديدة، وذات الأمر ينطبق على العلوم والتخصصات الدقيقة في الجامعات والمدارس العليا ومختلف هيئات التكوين والبحث. ويعتقد محدّثنا أنّ هذا لا يعني وجود تغيّر في وضع المدرّس ضمن معادلة المعرفة من ناحية تنظيمها، نقلها، إنتاجها وتقييمها موازاة مع تنامي دور الطالب التفاعلي التشاركي، في ظل تحوّل المستعملين إلى منتجين ومعيدي استعمال للمعارف في المحيط الرّقمي، إذ أصبح بإمكان أي فرد ضمن مجتمع الشمول المعرفي المساهمة في المعرفة واقتسامها بحيث لا يقتصر الأمر عند الاستهلاك فقط. وينظر المتحدّث إلى أنّ تمكين الطالب والأسرة الجامعية من استخدام تكنولوجيا التعلم والتفاعل الجديدة بشروط عامة تتضافر فيها جهود قطاعات أخرى على غرار الاتصالات السلكية واللاسلكية، بحيث تعمل على تنفيذ مخطط طموح لإيصال تقنية الألياف البصرية ليشمل كل المدن الجزائرية، وهو ما يدخل حسب الدكتور حرودي، ضمن ما يسمى بالأيكولوجيا الاجتماعية الجديدة أي كل ما يتعلّق بالتشريعات والمؤسسات والبنيات الحديثة وجعلها تتفق مع التوجهات العامة وإتاحتها بصورة عصرية وشفافة في سياق اجتماعي، اقتصادي وتقني راهن، كما يجدر التنويه إلى المدارس العليا المستحدثة مؤخرا التي تدعم البيئة الرقمية، تماشيا مع هذا التوجّه الجديد، كما يُنتظر أن تشمل برامج البحث الوطنية الخماسية القادمة محاور تخصّ الرقمنة والتكنولوجيا الحديثة، بعد أن خصّصت في الفترة الحالية للأمن الغذائي، الطاقوي والصحي.
فايز إسلام قيدوم