تستمر حركية التسوق في سوق العصر بقلب مدينة قسنطينة القديمة، حيث ما زالت تجذب الزبائن من سكانٍ وزوارٍ قادمين من الأحياء الأخرى، رغم تردي حالها وتدهور وضعيتها وتضاؤل عدد التجار فيها، في وقت يرتقب فيه أن تنطلق قريبا عملية إعادة تأهيل شاملة للمرفق الذي يعتبر من أقدم الأسواق في قسنطينة وملمحا راسخا من هويتها، بعد أن خصصت لها البلدية مبلغ 3 مليارات و700 مليون سنتيم وقامت بإجراءات المنح المؤقت للصفقة. وتجولنا خلال الفترة الصباحية من نهار أمس في سوق العصر بقلب مدينة قسنطينة، حيث وصلنا إليها بعد أن قطعنا مسافة ممتدة لما يقارب ثمانمئة متر عبر شارعي 19 جوان وديدوش مراد، ثم دلفنا عبر زقاقٍ مؤدي إلى شارع 19 ماي 1956 وواصلنا السير إلى غاية سوق العصر، الذي يتوسط ساحة بوهالي السعيد. ورُغم المطر وصعوبة المشي المترتبة عن اختلاط الأتربة بالمياه على الأرضية الحجرية اللزجة للمدينة، إلا أن حركية المتسوقين لم تتوقف على طول المسار الذي سرنا فيه، حيث لاحظنا أن الباعة يتنافسون في عرض سلعهم، إلى جانب المحلات التي تعرض بضائع مختلفة. ولم يختلف مشهد الحركية التجارية في سوق العصر عن تفرعات المدينة الأخرى المرتبطة به، حيث وجدنا مواطنين يقتنون الخضر والفواكه واللحوم والأسماك من المحلات والطاولات الموجودة فيه، رغم الحال المزرية التي تظهر على المكان، فسقف التوتياء الذي يغطي صفوف الطاولات لم يكن يحمي المتسوقين والبائعين من قطرات الأمطار المتسربة من عدة ثقوب وتباينات بين الصفائح المعدنية، بالإضافة إلى انتشار القمامة عبر الأروقة التي تتألف منها السوق، في حين هجر المتسوقون والبائعون عدة أروقة أخرى، ولم تبق فيها إلا بضع طاولات؛ كدست عليها الصناديق الخشبية والبلاستيكية الفارغة، التي كانت تعرض فيها الخضر والفواكه قبل سنوات. والتقينا في زيارتنا للمكان ببائع ما يزال يقاوم وحيدا في الرواق الشاغر، حيث أكد لنا أنه مُصر على البقاء في السوق ومواصلة العمل فيه لأنه لا يملك خيارا آخر، مشيرا إلى أنه نشأ تاجرا في سوق العصر و”لن يغير مكانه إلى أي مكان آخر”، بينما حاولنا إطالة الوقوف في الرواق لنلاحظ سيدة تقترب من الطاولة لاقتناء الخضر، قبل أن يأتي إلى الرواق شخص آخر لاقتناء الخضر من الطاولة نفسها، ليوضح لنا البائع بعد ذلك أن له زبائن اعتادوا على التسوق من طاولته، وما فتئوا يعودون إلى المكان نفسه لشراء مستلزمات الطبخ اليومية أو الأسبوعية. ولمسنا في حديثنا مع تجار السوق إدراكهم بأن سوق العصر تقاوم تغيرات الزمن، الذي أضحى يعرف منافسة شرسة في مجال التسوق، خصوصا بعد فتح “مولات” ضخمة؛ تحولت في السنوات الأخيرة إلى مراكز استقطاب للطبقة المتوسطة في مدينة قسنطينة، بينما يتجلى هذا الأمر بشكل واضح في المقاطعة الإدارية علي منجلي التي لم تعد تجذب سكان الولاية من جميع البلديات فحسب، بل يقصدها متسوقون من ولايات شرقية مختلفة دوريا بغرض التسوق من مراكزها فقط. ولقد تصادف خلال جولتنا بوسط المدينة أن استوقفنا سائق سيارة من ولاية مجاورة رفقة عائلته ليسألنا عن كيفية التوجه إلى مركز تسوق معروف بعلي منجلي. وبدا لنا خلال ملاحظتنا لحركية التسوق أن التجار الذين تصطف طاولاتهم على المحور المقابل لجامع سيدي الكتاني يحظون بعدد أكبر من الزبائن مقارنة بزملائهم الذين يعملون في طاولات “مغمورة” داخل السوق، الذي تكاد تنعدم فيه الإنارة باستثناء بعض المصابيح الخافتة المعلقة فوق الطاولات عشوائيا وسط شبكة من الأسلاك الكهربائية، بينما تجذب محلات بيع السمك المتسوقين من أبناء المدينة القديمة وسكان أحياء أخرى، حيث ذكر لنا شاب أنه يفضل محلات سوق العصر لأنها تعرض سمك الشبوط الذي يفضله، وغالبا ما لا يجده إلا في هذه السوق.
تسمية “سوق العصر” عنوان محلات في علي منجلي
وسألنا المتسوقين الذين تحدثنا إليهم عما يدفعهم للقدوم إلى سوق العصر، حيث أكد لنا عدد منهم أن الحنين إلى ما يصفونه بـ”الزمن الجميل” يمثل الدافع الأساسي، خصوصا أن الترحيلات المختلفة وتدهور وضعية المنازل القديمة بوسط المدينة انتهت بكثير منهم إلى الانتقال للأقطاب الحضرية الجديدة في بلديات أخرى، لكننا لاحظنا أن الدلالة التاريخية الراسخة لسوق العصر في هوية المدينة القديمة تأبى الرضوخ للطارئ الديمغرافي والاجتماعي الذي فرضته السنون، فقد انتقلت تسمية “سوق العصر” إلى المقاطعة الإدارية علي منجلي، إذ وجدنا محلا لبيع الحلويات التقليدية؛ اختار القائمون عليه تسمية “حلويات تقليدية سوق العصر” كعنوان له، كما أن الأمر نفسه يسجل على أسماء محلات أخرى في الأقطاب الجديدة تحيل إلى أزقة وأنهج وأسماء من مدينة قسنطينة التاريخية، على غرار وجود عدة محلات تحمل اسم “بيتزا رحبة الصوف” بعلي منجلي. من جهة أخرى، يرتقب أن يتغير وجه سوق العصر خلال الأشهر القادمة، حيث استفاد المرفق من قرار المجلس الشعبي البلدي بإعادة الاعتبار له وتحسين وضعيته. ولقد أوضح نائب رئيس بلدية قسنطينة المكلف بالعمران والإنجازات، إسحاق كرتان، في تصريح لنا، أن الصفقة الخاصة بإعادة الاعتبار للسوق قد منحت لمؤسسة بقيمة 3 مليارات و700 مليون سنتيم، حيث يرتقب أن تُستكمل بعض الإجراءات الإدارية الخاصة بها لتنطلق فيها الأشغال المحددة بأجلِ أربعة أشهر، في حين أكد أن المؤسسة المعنية بالصفقة ستشرع في تنفيذها قريبا بمجرد استلامها للأمر بالأشغال. وأضاف المسؤول أن المؤسسة شرعت في الوقت الحالي في التحضيرات بموقع السوق، حيث باشرت عملية تنظيف محيط المرفق وتجهيز المكان بشكل أولي، فيما نبه أن العملية ستعرف إعادة تأهيل شاملة للسوق؛ ستمس الهيكل المعدني والسقف والأرضية وغيرها من الأجزاء التابعة له. ولقد عرفت سوق العصر خلال الأعوام الماضية عزوفا من التجار عن كراء الطاولات التي عرضتها مصالح البلدية عدة مرات في المزاد، حيث يعود السبب الرئيسي إلى ضعف الحركية مقارنة بمواقع وأسواق أخرى، مثلما أكده لنا تجار مازالوا في السوق، كما اعتبروا أن الترحيلات المختلفة انعكست أيضا في تراجع وتيرة التسوق. سامي حبّاطي