فحــص ما بعـد الكولونياليـــــــة
قامت الدكتورة نورة بوحناش بفحص عالم ما بعد الكولونيالية على مستوى المفهوم والمسارات التاريخية والآثار النفسية والاجتماعية والسياسية، المحلية والكونية، من خلال عرض شامل للمنجز الفكري حول هذه المرحلة وتداعياتها، والآثار التي انبثقت عنها حين جعلت من العالم قطبين؛ الأنا الغربي الذي يمثل المركز، ويسعى لفرض هيمنة ثقافية وسياسية وحضارية، تشعر بتفوقه، وقطب الآخر الذي يمثل الهامش حيث يتعرض للاستحواذ والمسح والاستغلال ويهندس من منظور الغربي ليظل تابعا مولعا باتباع الغالب يستهلك منتوجه ويتنازل له عن ثرواته ولغته وثقافته، وشاعرا دوما بالدونية.
عبد الرحمان خلفة
أثناء استضافتها في الطبعة التاسعة من طبعات لقاء المعرفة بالمكتبة البلدية بسكيكدة تحت إشراف أستاذ الفلسفة مصطفى كيحل أكدت نورة بوحناش أستاذة الفلسفة بجامعة قسنطينة2 أن الكولونيالية ظاهرة تاريخية لصيقة بالحداثة،كما أنها ظاهرة فريدة من نوعها في تاريخ الإنسانية، فقد شهد التاريخ البشري، حالات الغزو التي قامت بها الإمبراطوريات،إلا أن الغزو الكولونيالي الحديث له خصائصه المميزة عن غيره من الغزو الذي عمر أرجاء التاريخ. تتبين هذه الخصائص في ميزة رئيسة، تعرب عن طابعها الحلولي الاقصائي والاستحواذي، لتنطلق من جملة تساؤلات من قبيل:هل البراديغم الحداثي المؤسس على الاعتبار المفرط للعقل والفرد المتفرد، هو الذي هندس المشروع الغربي الذي أورب العالم؟ وما دور الأيادي الخفية في بنية هذا المشروع ومن ثم العمل على ميلاد الإنسان المستهلك الذي يرغب في المنفعة، ويعقلن العلاقات الإنسانية حاصرا إياها في غاية تتجلى في المصلحة؟
تكشف المحاضرة أنه قد تبينت اليوم الغاية من مشروع الحداثة وما بعدياتها، وهي الحفاظ على الأفق الاستهلاكي، وحصر الإنسان في دروب الاستهلاك،باسم المقصد الضبابي الذي يعني التقدم،بمعنى أن كوجيتو الاستهلاك، قد انسل من رحم كوجيتو العقل المجرد، وبالتالي ستكون العلاقات الإنسانية صراعا بين السادة والعبيد،حسب الدياليكتيك الهيغلي ومنطقه الاعترافي،حيث تتربص الذوات ببعضها البعض،تربصا ذئبيا وفقا للتبرير الهوبزي، ثم الإنشاء السياسي للدولة المدنية الحديثة،التي تعني المرور إلى حالة طبيعة خالية من الوفاق الأخلاقي؛ حيث تنبني الكولونيالية ورديفتها النيوكولونيالية،على مفارقات تنبثق من التشقق الحادث في طبيعة الأيديولوجيا الحداثية في حد ذاتها، إذ تؤسس الحداثة مرجعياتها على المفاهيم الإنسانية،من مثل الحرية، التنوير،حقوق الإنسان،الديمقراطية،بيد أن واقع الحال يدلل على جملة نقائض، انتهت إلى صياغة شمولية للوعي الإنساني والانحصار المعياري، الذي برمج اللحظة الإنسانية على فكرة المركزية الغربية، وعدل حركة الإنسان على عبادة التقدم، وهنا تجد النيوكولونيالية مبررات وجودها.
ففي فحص الظرف العالمي اليوم، يتضح أن الكولونيالية قد غيرت استراتيجيات الهيمنة، بعد الحرب العالمية الثانية،لتعقبها أخرى بعد الحرب الباردة، ففي المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية تم توحيد القانون الدولي باسم المنظمة الأممية، تمكينا لهيمنة الخمسة الكبار على المشهد الإنساني عامة، السياسي، الاقتصادي الثقافي التربوي.فمثل هذه الهيمنة،ضرب من الكولونيالية الجديدة التي تعيد رسكلة مناطق العالم التي خرجت منها فلول الكولون عبر ثورات القرن العشرين، ومنها الثورة الجزائرية.
الجزائر أبرز عينة لعالم الكولونيالية وما بعده
فلا مراء أن الجزائر -الإنسان والتاريخ والثقافة-قد تعرضت إلى إعادة هندسة كولونيالية تدميرية، قضت على البنية التأسيسية للمجتمع الجزائري، هوية وأفقا استشرافيا،من هنا نفسر الانهيارات المتتالية للظرف الجزائري الراهن وغموض خياراته المستقبلية. ففي سياق تفريغ الأرض من الإنسان، اعتمدت فرنسا، سياسة الإبادة الجماعية غداة 1830، ومن ثم تمتين النظام الحلولي للثقافة الغربية الحديثة، التي تسعى إلى غربنة العالم، عبر اقتلاع ثقافة الأنا وإحلال الثقافة الغربية، مكان كل الثقافات الإنسانية، في إطار البرنامج الكوني للحداثة، وما تبديه ميثولوجيا الرجل الأبيض المتفوق، بعرقه، بثقافته وبطبيعته العقلية ومظهره الأنثروبولوجي والحضاري، وهنا انطلق الظرف المانوي بتعبير فرانز فانون، في تراتبية الأفضل والمفضول، الأنا المركزي والآخر الهامشي الأصلاني بتعبير إدوارد سعيد.ويبدو أن التزاحم بين الأنا الغربي والآخر المختلف -المسمى الأصلاني وفي الجزائر الانديجان-يمتلك المشروعية الطبيعية الأصلية داخل البراديغم الغربي ذاته،إذ تم تعريف الطبيعة البشرية،بوصفها تنازعا من أجل البقاء، لينتفي الأخلاقي من معركة التزاحم الحيوي،فيكون غائبا ولا مفكرا فيه.والحق أن أصل هذا التزاحم،قد انسل من فهم لطبيعة الإنسان على أنه ذئب يتربص بذئب آخر،وأن الغاية تبرر الوسيلة،والحياة صيرورة للتقاتل بين الذوات. ففي هذا السياق المشرعن للهيمنة،يمكن القول بأن مجتمعات الهامش، تحيي ظرف ما بعدكولونيالي له خصائصه التي تفسر الظرف الراهن، المميز بسيطرة اقتصادية عسكرية، تعيد هيكلة العالم لصالح النظام العالمي القائم على غلبة المؤسسات الرأسمالية على السياسة، ومن ثم الزيادة في استنزاف ثروات شعوب العالم الثالث، وإجبارها على زيادة الاستهلاك،وتدجين الإنسان على القابلية الاستهلاكية،إفساد البيئة،وهلم جرا من النتائج المحصلة من الهندسة الأوروبية لإنسان الهامش. إن الكولونيالية هي كناية عن عملية ترادف إبادة كونية، ذلك أنها افترضت -أثناء أدائها لعملياتها-أن أرض الحلول والاستيلاء والاستحواذ هي أرض بلا شعب ومن هنا تنحدر عمليات الإبادة الكبرىالتي قامت بها فرنسا الكولونيالية في الجزائر، ومن هنا أيضا تكفلت فرنسا باسترقاق الباقي من الشعب الجزائري، عبر صيغ قانونية تحقيرية أخصها قانون الأنديجانة الذي حول هذا الشعب إلى قطيع من البشر، لا حق له في أرضه ولا في حكمها، تتبين هذه الهندسة في طبيعة الإنسان الجزائري ما بعد الكولونيالي. كان فرانز فانون قد عرض شخصية الجزائري للتحليل في زمن الكولونيالية مبينا أن كثرة من الأمراض النفسية التي تحملها شخصية الانديجان،هي حصيلة للعنف الاستحواذي للمستعمر الفرنسي،فلا يمكن إنكار صدمة الكينونة التي حملتها الذات التاريخية الجزائرية،فيما يصطلح عليه هوية الفرنسي المسلم،إذ المخيال مشحون بالمفارقة بين الرومي والمسلم. ويثير التمفصل بين ظرفين العبودي الكولونيالي والسيادي الوطني، سؤالا جذريا عن مدى تحرير الشعور واللاشعور الجزائريين من ثقل العبودية الكامنة بين المُسْتَعْمِرُ والمُسْتَعْمَرْ.
دراسات ما بعد الكولونيالية تدعو إنسان الهامش إلى إعادة قراءة ظرفة الكولونيالي وما بعده للتحرر منه
ترى المحاضرة أن إنسان الهامش يحتاج إلى إعادة قراءة لظرفه الكولونيالي و ما بعد الكولونيالي،ولعل هذه المهمة التي اضطلعت بها دراسات ما بعد الكولونيالية التي تمثل تيارا فكريا لمفكرين وأدباء عالم ثالثيين لكنهم مغتربين في جغرافيا المركزية الغربية،إذ فتحوا مسألة فوقية الرجل الأبيض وطبيعة الثقافة الاستعلائية،وهم بذلك راموا تحرير الإنسانية من نزعة الهيمنة الغربية،وفك عقدة المُسْتَعْمَرِ التي حينت ظرفا إنشائيا،يرغمه على التفكير في سياقات الغربنة والأوربة.
حيث تشير ما بعد الكولونيالية إلى النظرية النقدية التي انبثقت في ثمانيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية،ثم ستنتقل إلى أوروبا حيث ترتكز الذاكرة الكولونيالية،ويعتبر الكثيرون أن المفكر إدوارد سعيد هو من فتح هذا الحقل من الدرس، أما البعض الآخر فيعتبر بدايتها كانت مبكرة مع مجموعة من المثقفين الأفارقة مثل فرانز فانون، أمي سيزار، ألبير ميمي وكذا إلى أعمال )السبلترنيين( وتسعى هذه الدراسات إلى تفكيك الإرث الثقافي الكولونيالي الذي أسس ثقافة كونية تفكر بوعي الإنسان الأبيض ووفق المركزية الغربية وفوقيتها وتفوقها ومن ثم تسعى هذه الدراسات إلى تحقيق التحرر الكلي من الكولونيالية وبالنسبة تؤلف الهجنة الثقافية سياقا يؤسس حق الثقافات الأخرى في التمظهر والتعبير والحضور العالمي مع الثقافة الغربية .فقد كان كتاب الاستشراق لإدوارد سعيد فتحا معرفيا إنسانيا،فضح منطق التنميط الثقافي الغربي،الذي مكن لنفسه في التاريخ العالمي الأفضلية العرقية والتميز الحضاري،ليبين بوضوح كيف تنشئ الذات الغربية الآليات الإبستيمولوجية،تحت ضغط جدلية السلطة والمعرفة،ولعل السبق النقدي لإبستيمولوجيا إدوارد سعيد يعود إلى استخدامه للمرجعيات والآليات المعرفية في الفلسفة الغربية،ماركس، ميشال فوكو وغرامشي، فقد مكنته هذه الآليات،من المنظور النقدي للطابع الإمبريالي للثقافة الغربية،في بعديها الكولونيالي وما بعده. لقد كان للانفتاح النقدي دوره المركزي لبناء التحرر الإنساني من التنميط الثقافي،فلن يكون التحرر من السيطرة الكولونيالية على الأرض مجديا،إذا ما بقي منطق الاستعلاء الغربي في المنظور الثقافي فاعلا،حينئذ تكون الأفعال لامجدية ولن ترقى إلى مصاف المساهمة الكونية في الثقافة الإنسانية،لذلك يرتكز نقد إدوارد السعيد على تفكيك السرديات الثقافية الكبرى،التي خولت السيطرة على الكونية البشرية.
وتشير إلى مرحلة ما بعد خروج المستعمر التي فكر بصددها فرانز فانون في كتابيه «جلد أسود أقنعة بيضاء» و»معذبو الأرض»، إذ فسحت الخبرة الثورية لهذا المفكر المارتينيكي الفرنسي الجنسية،السؤال عن الظرف التاريخي والنفسي للمجتمعات المُسَتَعْمَرَةِ،فماذا بعد خروج المُسْتَعْمِرُ؟ كيف يمكن تسيير الجغرافيا والإنسان في فراغ الوجود؟ إلى أي مدى يمكن تحرير الوعي من ثقل المخيال السلبي والدوني العنيف، الذي شكل وصاغ الإنسان في الظرف الكولونيالي؟
في هذا الإطار نعتبر فرانز فانون صاحب قريحة نفاذة وقادة،ذلك أنه ساهم بشكل كبير،في تأسيس حقل الدراسات مابعدالكولونيالية،بفتحه مجال التفكير النقدي في الظرف الكولونيالي،وكذا التفكير خارج البراديغم الكولونيالي،ثم السؤال عن طبيعة الظرف ما بعد الكولونيالي تفعيلا لثورة الوعي،ذلك أن اقتلاع جذور الكولونيالية لن يُنال بوسيلة الثورة والعنف فقط،بل باستمرار تحرري يؤديه الإنسان الذي خرج من الكولونيالية محملا بأمراضها،مثل الشعور بالدونية،فوقية الرجل الأبيض،اللغة،العرق،إتباع الغالب وتقليده،دونية الثقافة والتراث،وهلم جرا من المفاهيم التي تعبر عن فوقية الذات الغربية.
إن دراسات ما بعد الكولونيالية تهتم بالظاهرة الكولونيالية في مجموعها،وتحاول دراسة وتحليل ثم تفكيك مظاهرها الحلولية،الاستحواذ،والهيمنة،بوصفها خصائص وأفعال المُسْتَعْمِرِ،ثم فهم وتمثل العنف الذي مورس على الإنسان المُسْتَعْمَرِ،كما تحاول تفكيك العلاقة بين المُسْتَعْمِرِ والمُسْتَعْمَرِ،تلك الصورة النمطية التي حللها ألبير ميمي في كتابه صورة المُسْتَعْمَرِ صورة المُسْتَعْمِرِ. حيث تجعل من تمظهرات الكولونيالية موضوعا لها فتتناول بالدرس الثقافة، الهوية،العرق،تحليل الخطاب الأيديولوجي للكولونيالية،انكسارات الثقافة وخاصة التنميط اللغوي الناتج عن الظرف الكولونيالي الذي له تأثير عميق في الهوية،وفي التأسيس الكلي للظرف ما بعد الكولونيالي،كما تحاول مناهضة التمثلات والإيديولوجيات الكولونيالية التي كان المُسْتَعْمَرِ ضحية لها وتعمل على توضيح الكولونيالية الجديدة المرتبطة ليس فقط بالرأسمالية،بل بالماركسية كإطار غربي مؤسس على هيمنة المركزية الغربية.وبالجملة إنها تكشف الهيمنة الكولونيالية في تقلباتها إلى راهن كيف أخضع النظام النيوليبرالي مع العولمة، القانون الدولي لخدمة هذه المركزية وهو دور تؤديه هيئة الأمم المتحدة دفاعا عن المركزية الغربية،إذ تكيل بمكيالين وتكيف ميثاق حقوق الإنسان وفق ميزان القوى. وفي نهاية القرن الماضي وبداية هذا القرن بعد نهاية الحرب الباردة،تمكن النظام الجديد من نسج مفاهيم تؤلف بوتقة جديدة للهيمنة على العالم، مثل صراع الحضارات، نهاية التاريخ،وأخيرا الإرهاب بوصفه مفهوما جيوسياسيا،يشرعن التدخل العسكري في مناطق العالم. في هذا المنحى يركز هذا الحقل على؛ النظر في طبيعة الكولونيالية كخطاب ونظام،ومحاولة استيعاب ثنائية الأنا والآخر. وإعادة الثقة في ثقافة الذات،بمواجهة التغريب. وإحياء الذات والتعرف على الهوية، من بين الطبقات المتكلسة للاغتراب الذي مارسته الكولونيالية على هذه الذات. والدعوة إلى الهجنة والتعددية الثقافة وفسح المجال للآخر ليعبر عن ذاته ووجوده.
تاريخيا:علاوة على فرانز فانون هناك حركات وكتاب ومثقفون من أسيا وإفريقيا انفتحوا،على مطلب المقاومة والثورة بتحليل الخطاب الكولونيالي، على غرار الحركة الزنجية ممثلة في إيمي سيزار وكوامنيكروما ومثقفين سودانيين،أما إدوارد سعيد فيمثل مرحلة مهمة جدا من هذه الدراسات،ثم هومي بابا الذي قام بعملية رصد مهمة للعلاقات بين الثقافات المهيمنة والمستعبدة،ثم الناقدة الهندية جي سي سيبفاك التي تعد من المؤسسين لخطاب ما بعد الكولونيالية،كما لا يمكن التغاضي عن مشاركة كتاب غربيين في إثراء خطاب ما بعد الكولونيالية مثل الباحث الانجليزي روبرت يونغ.كما تعد تجربة مالك بن نبي مع ماسينيون،مثالا تاريخيا أنموذجيا،عن طبيعة الصراع الناشئ بين المركز وأطرافه، فهو شخصية مثقف تأبى التفكير من الهامش في المركز من أجل المركز.