في 19 فيفري 1958 وافق مجلس وزراء العدو الفرنسي على إقامة مناطق محرمة بالأراضي الجزائرية المحتلة، في محاولة يائسة لمحاصرة الثورة المتأججة وعزلها عن الشعب، حتى تفقد قوتها و يخضع الثوار للأمر الواقع.
و كانت الولاية التاريخية الثانية أو ما يعرف بمنطقة الشمال القسنطيني الأكثر استهدافا بالقرار الجهنمي، نظرا لموقعها الاستراتيجي المتاخم للحدود الشرقية، و منطقة الأوراس مهد الثورة.
و تعد ولاية قالمة التي كانت بمثابة القلب النابض للولاية التاريخية الثانية و القاعدة الشرقية، واحدة من مناطق الوطن المحتل الأكثر تضررا من قرار إنشاء المناطق المحرمة، حيث تعرض سكانها لأبشع أنواع الحصار و التهجير القسري من الأقاليم الجبلية التي كانت تظم كثافة سكانية كبيرة تعيش على الزراعة و الأنشطة الرعوية، و تدعم الثورة و تحتضنها بقوة رافضة كل التهديدات الداعية إلى التخلي عن مساندة الثوار و الخضوع لأوامر العسكريين الفرنسيين. و قدر ارتكب العدو الفرنسي جرائم ضد الإنسانية عندما أقام المناطق المحرمة بقالمة و غيرها من مناطق الوطن الأخرى، فقد نص قرار 19 فيفري 1958 على منع الإقامة بهذه المناطق، و تهجير سكانها، و الزج بهم داخل محتشدات شبيهة بالمعتقلات، و مصادرة ممتلكاتهم، و منعهم من دخول هذه المناطق لممارسة الأنشطة الزراعية، و رعي المواشي التي كانت الضحية الأولى لقرار إنشاء المناطق المحرمة، حيث نفقت الآلاف من رؤوس الأغنام و الأبقار جوعا، و نفذت المؤن الغذائية لدى السكان المهجرين من أراضيهم، و أصبحوا خاضعين لنظام المساعدات الغذائية الفرنسية، و هو نظام مبني على الإذلال و الإهانة و الرقابة المشددة، حتى لا تذهب تلك المساعدات إلى الثوار الذين فقدوا السند و الغذاء بعد تهجير السكان و منع الدخول إلى المناطق المحرمة.
يقول محمد شرقي أستاذ التاريخ بجامعة 8 ماي 1945 بقالمة متحدثا للنصر بأن تطبيق قرار إنشاء المناطق المحرمة بقالمة بدأ سنة 1959 و استمر إلى غاية وقف إطلاق النار في مارس 1962، و شمل القرار كل الأقاليم الجبلية النائية، التي أفرغت من سكانها و تحولت إلى مناطق خالية تمنع فيها الإقامة و التنقل ليلا و نهارا، و كانت أبراج المراقبة ترصد التحركات، و طائرات الاستطلاع تحكم قبضتها على تلك المناطق و تقتل من يدخل إليها.
و يضيف محمد شرقي المهتم بتاريخ الثورة بمنطقة قالمة بأن نظام المحتشدات و قرار المناطق المحرمة قد ألحقا أضرارا كبيرة بالسكان و الثورة، حيث انتشرت الأمراض، و عم الفقر و واجه الثوار صعوبة في التواصل مع الشعب، و الحصول على المؤن و المعلومات، لكن الثورة تمكنت من كسر الحصار و الوصول إلى قلب المحتشدات، و استغلال المناطق المحرمة لصالحها بإنشاء مراكز للتدريب و مستشفيات و مخازن للسلاح و المؤن.
ثكنة سيدي نصر...من هنا انطلقت كتائب المجرم لومان من هذه الثكنة المتواجدة بقرية منزل الأبطال على الطريق الوطني 44 الرابط بين عنابة و سكيكدة كانت تنطلق كتائب المجرم لومان لتعيث دمارا و فسادا بالمناطق المحرمة على امتداد الإقليم الغربي لولاية قالمة، كتائب متطوعة للقتل و سفك الدماء، و النهب و السلب بلا رحمة و لا شفقة.
و مازال سكان الإقليم الذي عايشوا الثورة المقدسة يتذكرون وقائع سنوات الأرض المحروقة التي سبقت تنفيذ قرار المناطق المحرمة، و كيف كانت كتائب لومان تنفذ الإعدامات الجماعية في حق سكان الأقاليم الجبلية، و تستولي على المواشي و المؤن الغذائية و الأفرشة و الأغطية و تنقلها إلى ثكنة سيدي نصر لبيعها هناك، و أصبح الكثير من جنود لومان من الحركى و المعمرين متحمسون لمزيد من القتل و السلب للمتعة و التجارة.
و لزرع الرعب وسط سكان الإقليم كان جنود العدو المدججين بالسلاح يقيمون الرهان على جنين الحامل هل هو ذكرا أم أنثى، و ينته الرهان ببقر بطون الحوامل و هن أحياء.
و يتدرب هؤلاء الجنود من الحركى و المرتزقة على فنيات القنص باستهداف الأحصنة و البغال من مسافات بعيدة، معتبرين هذه الحيوانات وسيلة من وسائل الحرب التي تستعملها الثورة لنقل السلاح و الجرحى و المؤن.
و قتل لومان و جنوده عشرات المواطنين العزل بمشاتي الملعب، الوارثية، بوغدير، لغرابة، دحمون، الصليب، المعلب، حجر بوريون و العين الحمراء.
و مازال سكان الإقليم الممتد من بلدية الركنية إلى بلدية بوحمدان يطالبون ببناء نصب تذكاري يخلد ضحايا لومان، و إحصاء الضحايا و تقديم مزيد من الدعم لتنمية الإقليم و جبر السكان الذين ما زالوا متأثرين بما مر عليهم من أحداث مؤلمة، كالإعدامات الجماعية، و حرق المنازل و المحاصيل الزراعية، و نهب و سلب الممتلكات و المؤمن الغذائية.
مشته الوارثية بجبل طاية...المجزرة المنسية تحت سفح جبل طاية التاريخي غرب قالمة تقع مشته الوارثية الصامدة، هنا بقلب المنطقة المحرمة كانت الثورة تشتد و تزداد ضراوة، تدعمها الجغرافيا بكهوفها السحيقة و غاباتها التي تحجب ضوء الشمس، و يحتضنها السكان الذين عاهدوا الله على النصر أو الشهادة.
كانت منازل السكان مركزا للثوار، تمدهم بالمؤن و الراحة و العلاج، فكانت المشته الصامدة هدفا لجيش العدو بقيادة كتائب لومان القادمة من سيدي نصر و محتشد الدريدرات المطل على جبال القرار، مليلة و كاف ونار معقل الولاية التاريخية الثانية.
في صباح 23 جوان 1959 كانت مشته الوراثية على موعد من الموت و النار و الدمار، عندما حاصرها عساكر لومان و اعدموا 4 من رجالها، و جندي يعمل ناقلا لبريد الثورة بالمنطقة.
يقول رشيد وارث ابن و حفيد الشهيدين وراث علي و وارث مسعود متحدثا للنصر، و هو يسترجع ذلك اليوم الأسود.
« في تلك الليلة أقامت عندنا كتيبة من جيش التحرير، و في صباح اليوم الموالي أفقنا على حصار شامل من كتائب لومان، لقد كشف أحد الخونة كل شيء، و لم نكن قادرين على نفي واقعة مبيت كتيبة جيش التحرير بمنازل المشته، لم يكن أمامنا إلا الصبر و الصمود، كان عمري آنذاك 7 سنوات و نصف، و كنت من حفظة القرآن الكريم، أعرف الكتابة و القراءة، و كنت مدركا لكل ما كان يدور أمامي من وقائع مأساوية في ذلك اليوم الحزين، أعدموا أبي وارث علي، و جدي وارث مسعود، و وارث عيسى و أخيه وارث السبتي، و جندي يسمى الطيب ناقل البريد، رأيتهم كيف قتلوا أبي بكل وحشية، كان يوما داميا و محزنا، مازلت أتذكر كل تفاصيل الجريمة المنسية، هي واحدة من أبشع جرائم الإعدامات الجماعية التي نفذتها كتائب لومان ضد السكان العزل، كانوا يقتلون الناس بوحشية، و يحرقون المنازل و يأخذون المواشي و المؤن الغذائية، لا يتركون وراءهم إلا الدمار و الموت و الخراب».
مشته الوراثية بجبل طاية ما زالت إلى اليوم بلا طريق و ماء، فقط وصلها الكهرباء في إطار برنامج كبير استفادت منه المنطقة قبل عدة سنوات.
حياة العزلة و البؤس و الشقاء أفرغت المنطقة الثورية الحصينة من سكانها و لم يبق منهم إلا القليل ينتظر التفاتة من مسؤولي بلدية بوحمدان و ولاية قالمة لفتح مسلك ينه العزلة، و توفير المياه لبقايا السكان الصامدين فوق أرض الأجداد الذين سقطوا فداء للوطن.
طائرات الموت... قنص متواصل و حصار في الليل و النهار يقول سكان المناطق المحرمة بقالمة بأن طائرات الاستطلاع و المراقبة كانت تفرض حصارا مشددا على حركة السكان و الثوار في الليل و النهار، و تطلق النار على كل كائن يتحرك، مستعملة قذائف الإنارة القوية لرصد التحركات ليلا.
بعد ان تغلق المحتشدات أبوابها مساء يقوم جنود العدو بإطلاق النار على المواشي التي تتخلف عن موعد الدخول، و تعتقل و تقتل الرعاة بلا رحمة.
و قد أدى قرار إنشاء المناطق المحرمة و المحتشدات بقالمة إلى تجويع السكان، و القضاء على ثروتهم الحيوانية، و شل النشاط الزراعي بالحقول الواقعة ضمن دائرة المنطقة المحرمة، و انتشر الفقر و الأمراض بين سكان محتشدات الموت، و واجه الثوار وضعا صعبا لكنهم تمكنوا من الصمود بتطوير أساليب الحرب، من خلال اقتحام المحتشدات و ربط علاقات وطيدة بالسكان الداعمين للثورة، و إقامة نظام مراقبة متطور يسمى نظام «العسة» لرصد تحركات العدو ليلا و نهارا، فانعكس الوضع و كادت المناطق المحرمة أن تكون بالفعل محرمة على العدو الفرنسي نفسه، عندما سيطر عليها الثوار و حولوها إلى مراكز للتدريب و الراحة و العلاج و تخزين المؤن و السلاح.
و قتلت طائرات المراقبة عددا كبير من سكان المناطق المحرمة، و أحرقت المحاصيل الزراعية و أبادت الثروة الحيوانية التي كان العدو يعتبرها مصدرا لدعم الثورة و فك الخناق المضروب عليها.
و ينظر المؤرخون و رجال القانون إلى الإعدامات الجماعية التي كان ينفذها العدو الفرنسي في حق سكان المنطق المحرمة بقالمة على أنها جرائم ضد الإنسانية لا يمكن ان تسقط بالتقادم، و قد ارتفعت أصوات السكان في السنوات الأخيرة مطالبة بكشف الحقيقة، و تسليط مزيد من الضوء على تلك الجرائم، و إجبار العدو على الاعتراف و الاعتذار، و الإفراج عن الأرشيف السري الذي يؤرخ لتلك المجازر الدامية و الانتهاكات التي عرفتها المناطق المحرمة منذ صدور قرار 19 فيفري 1958.
فريد.غ