* أرهقنا نفسيا و جسديا لكننا مستعدون للشهادة
تصف لنا الدكتورة شبيلة قطاش، أستاذة مساعدة بمصلحة الإنعاش الطبي بمستشفى قسنطينة الجامعي، ظروف العمل في ظل تزايد حالات الإصابة بفيروس كوفيد 19 في الولاية، التي قالت الطبيبة في حوار للنصر، بأنها ضيعت فرصة احتواء عدوى كورونا بسبب كسر الحجر الصحي و الاستهتار، كما تفتح قلبها للحديث عن المعاناة النفسية التي يتحملها أطباء المصلحة المعزولين عن عائلاتهم منذ شهرين، ناهيك عن الضغط المهني و التعب الذي تسبب في انهيار البعض، خلال معركتهم ضد مرض يتماثل الكثير من المصابين به اليوم للشفاء كما أكدت.
حاورتها: هدى طابي
- صِفي لنا ظروف العمل داخل مصلحة الإنعاش الطبي وهل يُطرَح مشكل النقص العددي و ضعف التجهيز بالنسبة لكم؟
أولا أود أن أوضح بأننا في مجالنا نعمل كفريق طبي و شبه طبي متكامل يضمني أنا و أستاذا مساعدا آخر إضافة إلى أربعة أطباء أخصائيين في الإنعاش نعمل كلنا مع مجموعة من الأطباء المقيمين في جميع السنوات، إضافة إلى عدد من شبه الطبيين، علما أن أكثر من 50 بالمائة من أعضاء الفريق الطبي هن نساء رفعن التحدي و أثبتن مرة أخرى بأن المرأة قادرة على تحمل المسؤولية مهما كانت الظروف.
في المرحلة الحالية، لا نزال مسيطرين على الوضع في المصلحة رغم التعب النفسي و الجسدي الذي نال من أغلبنا، فلحد الآن لم نصل بعد إلى حدود طاقتنا القصوى، و لا نزال قادرين على استيعاب الحالات المستجدة، على اعتبار أن عدد المرضى الذين يحتاجون لعملية الإنعاش الفعلي ليس كبيرا بقدر عدد المصابين بالعدوى، هناك موتى و أغلبيتهم كبار في السن يفوقون 75 سنة، مع ذلك فالأجواء يطبعها التزام مهني و معنوي مطلق، جلنا متعاونون و مجندون بشكل كامل و غير مسبوق، نحن متشجعون و مقتنعون بأننا إن متنا فسنحسب مع الشهداء ولا أحد منا يفكر في التخلي عن واجبه و التخلي عن تضحيته.
بالنسبة لجانب التجهيز، فقد نظمنا برنامج العمل وضبطنا رزنامة مناوبة دقيقة حتى نحافظ على التباعد الاجتماعي و لا نجهد الطاقم الطبي ونحافظ عليه من جهة، وكي لا نستنزف مخزوننا من وسائل الحماية و التدخل من جهة ثانية، كما أننا في اتصال وتنسيق دائم مع الإدارة لتحديد الاحتياجات ومناقشة النقائص خصوصا خلال المناوبات، حيث تعيد الصيدلية تزويدنا في كل مرة بما نحتاجه لكن بشكل منظم بالنظر إلى حساسية المرحلة، و هذا لا يلغي أبدا حاجتنا الفعلية إلى تكفل أفضل من ناحية التجهيز و هو مطلب أساسي أريد أن أتوجه به إلى مسؤولي القطاع.
- تقترب قسنطينة من أن تصبح بؤرة من بؤر الوباء بسبب التهاون وكسر الحجر. كيف تتكيفون مع تزايد عدد المصابين بها يوميا؟
يحز في أنفسنا كثيرا كل ما يحدث في الخارج من تهاون، فقسنطينة كانت قاب قوسين أو أدنى من السيطرة على العدوى بشكل أسرع، حققنا مكاسب كبيرة في أول أسبوعين من الحجر و لو استمر الالتزام به لأسبوعين إضافيين، لكنا تجاوزنا الخطر، لكننا ضللنا الطريق بسبب التهاون.
المدينة كانت متقدمة جدا وبمراحل على العاصمة وبليدة و وهران، فعدد الإصابات كان قليلا، ومسار العدوى بطيء، وعندما كانت المدن الأخرى تحصي عشرات الحالات كانت لدينا حالة واحدة في الإنعاش، مقابل عدد قليل من المصابين في مصلحة الأمراض المعدية، بمعنى أن عامل الوقت كان في صالحنا، لكن التسرع تسبب لنا في خسارة موقع القوة، ناهيك عن أنه سيؤدي لنتائج عكسية لأنه سيفرض ضغطا مضاعفا على المستشفيات ويرهق الطواقم الطبية وبالتالي يصعب مهمة التكفل و العلاج.
- كيف أثرت الجائحة على علاقتكم ببعضكم في ظل الخوف المشترك من خطر العدوى و توالي أخبار وفيات الأطباء و شبه الطبيين؟
في الحقيقة أثرت كثيرا لكن إيجابا، يمكن القول بأن علاقتنا انتقلت من البعد المهني إلى البعد الإنساني. لا نكف عن السؤال عن بعضنا و لا نتوقف عن دعم بعضنا معنويا، حتى عندما ننهي مناوباتنا و نعود إلى الفندق أو المنزل لا نفقد الاتصال بالمصلحة و يبقى اهتمامنا بسلامة الطاقم أولوية بالنسبة للجميع دون استثناء، نوصي بعضنا بضرورة الوقاية و نحذر بعضنا من الأخطاء التي قد نرتكبها سهوا في ما يتعلق بهذا الجانب، حتى أننا نفرض رقابة على زي الوقاية و مدى مطابقته للمعاير كلما هم أحدنا بدخول غرف الإنعاش.
مهنيا كان أيضا للظروف التي نعيشها أثر بالغ على علاقتنا نحن كأساتذة بالأطباء المقيمين، فلقد أعدنا اكتشاف مستواهم و قدرتهم على العطاء وإنجاز المهام، و علاقتنا بهم تحسنت كثيرا.
- صور كثيرة لآثار الأقنعة الواقية يتم تداولها كترجمة بصرية لمعاناة الطواقم الطبية خلال معركتها ضد الفيروس، كيف تتحملون حرارة الزي و ضغط الكمامة لساعات طويلة منذ شهرين؟
أؤكد لكم بأن الأمر ليس سهلا، ولولا الحاجة للوقاية لكان من الصعب فعلا تحمل الزي لساعة واحدة حتى أننا سجلنا حالات إغماء في صفوفنا بسبب الحر، أحيانا نغادر غرف الإنعاش ونحن نتصبب عرقا ونعاني عطشا شديدا، كثيرا ما يترك القناع الواقي آثارا على الوجه، و سمعنا يتأثر أيضا بسبب تصميم البزة المغلق، كما أنه يمنع علينا منعا باتا إدخال الهواتف للغرف لتجنب خطر العدوى، لذلك نجتمع مسبقا في كل مرة لنحدد طبيعة المهام و نقيم الوضع و نوزع الوظائف بصرامة لا تقل عن صرامة الجيش، لأن الاتصال بالمعالِجين الموجودين مع المرضي يصبح مستحيلا بمجرد ولوجهم للغرفة.
أحيانا قد يضطر بعض الأطباء لأداء مهام كثيرة تتطلب منهم قضاء خمس إلى ست ساعات داخل غرفة الإنعاش، وهي مهمة شاقة بسبب الزي و الحر، إحدى الطبيبات المقيمات تجاوزت مؤخرا مدة 6 ساعات دون انقطاع خلال مراقبتها لوضعية المرضى، وهو أمر يتطلب صبرا وتضحية و التزاما قبل كل شيء، لا أخفيكم دافعنا الوحيد لتحمل كل هذا هو حب الوطن و التزامنا الإنساني تجاه المرضى.
- حدثينا عن تأثير ظروف العمل على الجانب النفسي للطاقم وكيف تأثرت حياتكم الاجتماعية و الخاصة منذ بداية الجائحة، خصوصا مع حلول شهر الصيام؟
سأختزل جوابي في جملة واحدة، «ما نعيشه أشبه بالجهاد وكل يضحي على طريقته، أجدادنا تجندوا في الجبال أما نحن فانعزلنا في المستشفيات»، نفسيا تأثرنا كثيرا، لأننا لم نعش هذه التجربة سابقا، في البداية كان الأمر أشبه بالصدمة النفسية، ثم تحول إلى اختبار شخصي لقدرة الإنسان على التحمل ولقوة إيمانه، وهي هبة نحمد الله عليها، كما سبق و ذكرت، نحن مقتنعون بما نقوم به ومستعدون للشهادة في سبيل الوطن والواجب الإنساني والمهني و هو بحد ذاته دعم نفسي لكل واحد منا، مع ذلك نصرّ على رفع معنويات بعضنا البعض وعلى تشارك التجربة. زملاء لنا تعرضوا للانهيار بسبب الضغط و التعب، لكننا ساعدناهم على التوازن والوقوف مجددا.
شخصيا لم أر أطفالي منذ شهرين، بعدما اضطررت إلى عزل نفسي عنهم حماية لهم، حتى هم تأثروا بكل ما يحدث، أذكر أن الصغيرين كانا يحذران من الاقتراب مني بسبب الكورونا، ولذلك أرسلتهما للإقامة مع جديهما إلى غاية نهاية الأزمة وهي تضحية كبيرة لأننا نشتاق فعليا لبعضنا، أما زوجي فهو أيضا طبيب تخدير وإنعاش بولاية أم البواقي وبالتالي فإنه يقاسمني كل تفاصيل المرحلة.
عدد كبير أيضا من الطبيبات المقيمات، معزولات منذ شهرين عن عائلاتهن، خصوصا من يقمن خارج الولاية، لكن في النهاية هي تضحية لا بد منها فلا أحد يمكنه القيام بمهامنا.
بالنسبة لوجبة الإفطار، نحن متعودون على العمل خلال رمضان، فمنا من يكتفي بما يقدمه المستشفى وما تجود به بعض الجمعيات والمتطوعين، ومنا من يفضل إحضار إفطاره من المنزل.
- هل سجلتم إصابات بالفيروس في صفوفكم وكيف تستقبلون أنباء سقوط زملاء لكم في الميدان؟
لحد الآن نحمد الله أن لا أحد بيننا توفي بسبب الفيروس، حتى الإصابات غير خطرة ولم نستقبل إلى غاية اليوم على مستوى مصلحة الإنعاش زملاء في مراحل حرجة، لكننا نتأثر كثيرا بأخبار وفيات الزملاء الأطباء و شبه الطبيين و حتى العاملين في باقي المستشفيات على غرار ما حصل في البليدة.
- هلّا ذكرت لنا قصصا أو تجارب إنسانية حفرت في ذاكرتك وقلبك بسبب الفيروس؟
أكثر ما أثر في نفسي، هي سعادة المرضى بالشفاء فهو شعور يشبه لحظة الولادة مجددا، دموعهم وهم يشكروننا تنعش القلب ولذلك فقد أردنا تخليد تلك اللحظات من خلال التقاط صور تجمعنا بهم.
من جهة أخرى، هناك مواقف صعبة عشناها مع المرضى خصوصا من يعجزون نفسيا عن تقبل المرض، بعضهم يهتاجون بسبب عزلتهم و يصبح من الصعب التعامل معهم. لا يمكنني أيضا أن أصف لحظة إخراج جثث الموتى في ظل غياب تام لذويهم خصوصا أول حالة وفاة، لن أنسى تلك الذكرى ولا يمكنني نسيان ذلك القلق الذي عاشته عائلات بعض المرضى طول فترة علاجهم.
هناك أيضا تلك اللحظات التي نشاهد فيها زميلا يغادر غرفة الإنعاش وهو مرهق و يتصبب عرقا بسب حرارة الزي و التعب، ناهيك عن رؤية زملاء من العمال البسطاء يضحون لأداء واجبات تتعدى مهامهم من باب التطوع، أؤكد لكم أن التأثير النفسي لمناوبة واحدة يتطلب أياما ليزول دون أن ننسى الأرق.
- كل هذه التضحيات هل أتت بنتائج وما مدى نجاعة الأسلوب العلاجي الذي تعتمدونه؟
العمل يتم وفق التوجيهات التي حددتها وزارة الصحة، والعلاج يعتمد على البروتوكول الموحد الذي أقرته منذ البداية «كلوروكين ـ أزيتروميسين»، كما أننا نجتهد بدورنا كأطباء لتنظيم عمليات التدخل، وذلك من خلال تقييم حالات المرضى الذين يصلوننا أولا، فهناك من يحتاجون إلى تنفس اصطناعي فعلي، بالمقابل هناك حالات لا تحتاج سوى لتنفس خارجي عن طريق قناع معين، وقد لاحظنا أن معظم الحالات تجاوزت المرحلة الحرجة بفضل القناع «سيباف» مع الأدوية و تجنبت مخاطر التنفس الاصطناعي، لكن ذلك لا يلغي يقيننا بأن المريض قد يحتاج للجهاز في أية ساعة وهو ما يبقينا يقظين ومتابعين للحالة ومطلعين على تاريخها الطبي وعلى نسبة الأكسجين في الدم، وهي أيضا مهمة صعبة تقتضي عملا مستمرا ومتابعة كل ساعة.
أذكر أن إحدى الطبيبات قضت أربع ساعات متواصلة واقفة بالقرب من مريض معين، إلى أن استقرت حالته و الحمد الله شفي وغادر المستشفى بعدها.
من جهة ثانية، أشير إلى أننا نولي أهمية كبيرة للدراسة في المرحلة الحالية و حتى التكوين لا يزال متواصلا وفق نظام معين، كما أننا نتابع باستمرار تطورات الوضع في العالم و نناقش كل المستجدات الطبية.
- هل سجلتم فعلا تراجعا في عدد الوفيات؟
تراجع عدد الوفيات حقيقة لا يمكن إنكارها، لكن ذلك راجع لنجاعة العلاج، وليس لانحسار العدوى أو ضعف الفيروس، نحصي حاليا في مصلحتنا ثمانية مرضى منهم من تماثلوا للشفاء، وهناك من تم توجيههم إلى مصلحة الأمراض المعدية، ومنهم من غادروا إلى منازلهم، مع ذلك فلا شيء يدعو للتقليل من حجم الخطر أو التخلي عن الوقاية، فقد استقبلنا في المصلحة مريضة لا يتجاوز سنها 15 سنة.
هـ.د