تفتح النصر في هذا العدد الذي يتزامن والاحتفالات المخلدة للذكرى الثامنة والخمسون لاستقلال الجزائر، موضوع مغارة بوسيف بجبل الطارف بعين الزيتون بأم البواقي، التي كانت مأوى للمجاهدين ومنطقة عبور لهم نحو الأراضي التونسية لجمع وإدخال السلاح الموجه للمجاهدين، وهي المغارة التي عجز المستعمر الفرنسي عن الوصول إليها، ولم ينجح في ذلك إلا بمعلومات افتكت من أحد الذين ألقي القبض عليهم تحت التعذيب، وعند وصول المستعمر للمغارة قام بتفجيرها وإطلاق غازات سامة داخلها، وهو ما أدى لاستشهاد عشرات المجاهدين بينهم 14 شابا التحقوا حديثا بالثورة، والذين لم يتم العثور عليهم إلا قبل سنتين من اليوم، وكان المجاهد عادل عبد الرحمان المكنى “عبدة” واحدا من بين الذين ألقت فرنسا الاستعمارية القبض عليهم عند محاولتهم الفرار من المغارة، و الذي خصنا بتفاصيل عن المغارة التي أرهقت جنرالات فرنسا.
عمليات ضد “فيرمات الكولون” تأشيرة الالتحاق بجيش التحرير
المجاهد عادل عبد الرحمان المولود سنة 1929 ورغم تجاوزه سن 90 سنة، غير أن ذاكرته لا تزال قوية مخزنة لكل جزئيات نضاله رفقة عدد من المجاهدين، ويتذكر جيدا تفاصيل من يومياته في مغارة بوسيف بجبل الطارف بعين الزيتون، وكانت بداية الحاج “عبدة” مع النضال المسلح سنة 1955 عندما كان سنه 26 سنة، أين صنع مجموعة من الثوار في مناطق الأوراس المحيطة بولاية أم البواقي الحدث بعمليات مسلحة ضد المستعمر الفرنسي، الذي بات يلقبهم بـ”الفلاقة”، وأكد المتحدث بأن يومها لم تكن له ولعديد المواطنين الذين باتوا يفكرون في الالتحاق بالعمل المسلح نظرة عن طريقة التنسيق والاتصال، ليتم التوصل للمجاهد “فرحاتي حميدة” الذي كان منسق العمل الثوري بين مجموعة الأوراس والمجندين الجدد بأم البواقي، وأضاف الحاج “عبدة” بأن تأشيرة الالتحاق بجيش التحرير، كانت تنفيذ عمليات مسلحة ضد ممتلكات الفرنسيين والمعمرين، وكانت البداية بمهاجمة “فيرمات الكولون” خلف جبل سيدي أرغيس بمشتة العسكرية، أين تم تنفيذ عديد العمليات بمعية كل من موسى بوبكر وأسيد الشريف وبوعزيز السعدي.
المجاهد عادل “عبدة” أضاف بأن بداية النضال كانت بالزي المدني سنة 1955، وكان حينها المجاهد فرحاتي حميدة وسيطا بين المجندين الجدد وثوار الأوراس، أين كان ينقل شكاوى وأموال يتم جمعها كما يتم توجيه مجندين جدد للتدريب على استعمال السلاح لجبال الأوراس، مشيرا بأن شقيقه عادل الشافعي كان من بين المجندين الذين تنقلوا لجبال الأوراس، وتلقى تكوينا على استعمال السلاح طيلة 6 أشهر وارتدى بعدها الزي العسكري سنة 1956، واستطرد “عبدة” في حديثه عن العمليات المسلحة المنفذة من طرف المجندين الجدد، بالتطرق لـ5 عمليات تم فيها حرق “فيرمات” المستعمر بينها اثنتان بعين ببوش وواحدة بالعسكرية إلى جانب إسقاط أعمدة التيار الكهربائي، على غرار ما حصل بمفترق الطرق المتواجد اليوم بمخرج مدينة أم البواقي في محيط مطحنة سيدي أرغيس، أين تم إسقاط الأعمدة الكهربائية وصولا لقرية “لافارميكول” التي شيدتها فرنسا والتي كانت معروفة باسم “بيزانات”، كما تم تحطيم الجسور باستعمال قنابل يدوية محلية الصنع، والتي يتم صنعها في سرية تامة، دون أن يعلم المجندون الجدد من يقوم بصناعتها، ويكتفون فقط باستعمالها في وجه عساكر الجيش الفرنسي، مضيفا بأنه وقبل تنفيذ أي عملية يتم تهريب رؤوس الماشية والأبقار وكذا العائلات لمحيط جبل سيدي أرغيس، كاحتياطات استباقية تخوفا من ردة فعل المستعمر الفرنسي.
لهذا السبب دخل 14 شابا مجندا في جيش التحرير المغارة
يضيف المجاهد عادل عبد الرحمان بأنه لما التحق بالعمل المسلح سنة 1955 كان حينها قد تزوج قبل سنة أي في سنة اندلاع الثورة، مبينا بأن تاريخ 14 جوان 1957 كان مفصليا في نضاله المسلح، أين توجه رفقة كل من المجاهدين سي لخضر وفلاح عمار نحو مغارة بوسيف بجبل الطارف بعين الزيتون، كونهم كلفوا بمهمة لإيصال وثائق مهمة لمسؤولي الناحية، وعند وصولهم لمحيط المغارة، وجدوا هناك مجاهدين من بريش وعين البيضاء استقدموا معهم 14 شابا ينحدرون من بلديات مسكيانة والضلعة وفكيرينة لتجنيدهم في جيش التحرير، وتم نقلهم للمغارة بأمر من مسؤول بناحية عين البيضاء المجاهد “سي زاوي الحركاتي”، وخوفا من كشف أمر المغارة في ظل عدم قبول الشبان جميعهم ضمن جيش التحرير، مع احتمال رفض بعضهم، تم تحويلهم لمكان قريب من المغارة، إلى حين قدوم “سي زاوي الحركاتي” على متن مركبة كانت محملة بقطع أسلحة للشبان الـ”14”، وطلب حينها بنقل الشبان جميعهم للمغارة كونهم مجندون جميعا، وأضاف المجاهد “عبدة” بأن المغارة ليلتها كانت تضم 34 مجاهدا بينهم 14 شابا قرروا الالتحاق بالكفاح المسلح، مبينا بأن المغارة كانت تأوي مجاهدين مكلفين بالتنقل للأراضي التونسية لجلب السلاح لجيش التحرير، أين تمر في كل مرة دورية من 300 مجاهد قدموا من جبال القبائل مشيا على الأقدام، ويقضوا ليلتهم بالمغارة ليتوجهوا بعد ذلك نحو جبل بوتخمة بالجازية، وكانت المغارة تقدم عديد الخدمات للمجاهدين، أين كانت الوجبات الغذائية تطهى داخلها بتموين من السكان المجاورين لها وبها 8 صهاريج للماء، وكان محيط المغارة شاهدا على استشهاد عشرات المجاهدين الذين قدموا من جبال القبائل في طريقهم لتونس، بعد أن تم رميهم بالقنابل من طائرات الجيش الفرنسي.
حصار لأربعة أيام وهجوم بأطنان من القنابل والغازات
يضيف المجاهد عادل عبد الرحمان الذي يعتبر الشاهد الوحيد الذي بقي حيا، من بين المجاهدين الذين عايشوا الليلة الدموية التي سعت فيها فرنسا الاستعمارية لتفجير المغارة والقضاء على من كان داخلها، أن مجموعة المجاهدين التي كانت مكلفة بحراسة مدخل ومحيط المغارة، سمعت صوت دبابات قدمت نحو الجبل، وتم إخطار من كان في المغارة حينها، أين طلب “سي زاوي الحركاتي” عدم تزويد المجندين الجدد بالسلاح، مخافة أن يطلق أحدهم عيارات دون أن يدري ويكشف مكان المغارة، وجهز البقية أنفسهم لإطلاق أعيرة نارية، غير أن جنديا فرنسيا قدم مباشرة صوت المغارة ونزع الغطاء الذي كان يخفي مدخلها، ليطلق عليه أحد المجاهدين، النار وقتله وحاول المجاهد أن يغادر المغارة فقتل حينها من طرف جنود الجيش الفرنسي الذين كانوا في مخرج المغارة، التي تم رميها بقنابل يدوية وقاموا كذلك برش كميات من الحلفاء والديس بالمازوت وإضرام النار فيها ورميها داخل المغارة، لدفع من كان داخلها للخروج بعد خنقهم، غير أن المجاهدين كانوا يستعملون أقمشة بالية بعد تبليلها لكتم أنفاسهم خوفا من الاختناق، واستمر الحصار على هذه الحال لأربع أيام، وكان المجاهدين فرحاتي حميدة وبوعزيز السعدي قد غادرا المغارة صباحا دون أن يعلموا بمن كان داخلها وكذا بالمجندين الجدد، ودفعت مقاومة المجاهدين وعدم استجابتهم لنداء جنود الاستعمار الفرنسي لاستعمال الأخير لكميات معتبرة من المتفجرات لتفجير المغارة بعد رمي من كان داخلها بقنابل مسيلة للدموع.
تعذيب مجاهد يؤدي إلى اكتشاف المغارة
يكشف “عبدة” بأن مجاهدا ينحدر من مداوروش بسوق أهراس تعرض للتعذيب بعد القبض عليه، كانت وراء اكتشاف المغارة التي أرهقت جنرالات فرنسا، بعد عجزهم للوصول إليها، مشيرا بأنه تم بعدها إلقاء القبض على 12 مجاهدا بينهم عبدة عادل وحفيظ إسماعيل و10 آخرين تم قتلهم رميا بالرصاص، وكان الجيش الفرنسي قد اصطحب مئات المواطنين للمغارة، لدفعهم لدخولها أولا، وأعطيت لهم أوامر بجر جثث 10 مجاهدين الذين تم رميهم بالرصاص لسفح جبل الطارف، ووضعهم في شاحنات مرت بعدها على طرقات مدينة أم البواقي، لتخويف المواطنين، ولم يكشف جنود الاحتلال وجود 14 شابا داخل المغارة، والذين تبين فيما بعد بأن حجارة المغارة انهارت فوق رؤوسهم وأخفتهم، لذلك لم يلحظ جنود الاحتلال تواجدهم داخل المغارة التي استشهدوا داخلها، وأشار المتحدث بأنه كان رفقة المجاهد حفيظ إسماعيل مقيدين بالسلاسل والأغلال داخل الشاحنات التي نقلت جثث المجاهدين، مضيفا بأن عائلته كانت تظن أنه من بين المجاهدين الذين استشهدوا داخل المغارة، غير أن أحد المواطنين ويتعلق الأمر بالمدعو “بوعزيز عزيّز” شاهده وهو داخل الشاحنة، وتوجه لمنزل عائلته أين التقى هناك المجاهد بوعزيز السعدي وأعلمه كما أعلم العائلة بأن “عبدة” على قيد الحياة، وكان بوعزيز السعدي يعلم بإخفائه داخل منزل العائلة لـ50 خرطوشة و30 بندقية و4 قنابل أدخلها مجاهدون من تونس، فسارع لنقلها لإحدى المناطق الجبلية، في الوقت الذي تم نقل المجاهد “عبدة” رفقة إسماعيل لسجن بعين البيضاء وبعدها لمسكيانة، أين تم تعذيبهما بطرق ووسائل مختلفة، ليحولا بعدها لولاية قالمة سنة 1958 أين تمت محاكمتهما وإدانتهما بعقوبة 10 سنوات سجنا ابتدائيا، وتم استئناف الحكم أمام محكمة الكدية بقسنطينة التي أدانتهما بعدها بسنتين حبسا نافذا، وحولا على سجن حامة بوزيان ثم للملاحة بعنابة حتى سنة 1960.
رعاة غنم دخلوا وعثروا على رفات المجندين الشباب فقط
يضيف “عبدة” بأنه وعندما تم توقيفه من طرف جنود الاحتلال كانت زوجته حامل، وعندما كان في السجن أعلمه والده بأن زوجته وضعت مولودها من جنس أنثى أين حمل اسم “حورية” والتي لفظت أنفاسها بعد ذلك، وهو اليوم والد لـ8 أبناء بينهم 5 بنات وله 34 حفيدا، وعن مصير الشبان الـ14 المجندين في جيش التحرير، والذين لم يكتب لهم تنفيذ أي عمل مسلح، بعد انهيار حجارة المغارة على أجسادهم، أوضح بأنه وبعد الاستقلال وصل رعاة غنم للمغارة من جهة مغايرة، أين أعلموا السلطات حينها بعثورهم على مجاهدين اثنين، وعند التنقل للمكان المحدد من طرفهم لم يعثروا عليهم، لينجح قبل سنتين أحد رعاة الغنم من سكان المنطقة في الوصول للشهداء الـ14 بعد وصوله لمنفذ مغاير، وروج بعض المواطنين عند اكتشاف مكان وجود الشهداء مطلع شهر جانفي من سنة 2017، بأن الأمر يتعلق بإرهابيين وليس شهداء، غير أن السلطات الولائية أخضعت رفات الشهداء لتحاليل الحمض النووي بمعهد علم الإجرام والأدلة الجنائية التابع للدرك الوطني ببوشاوي بالعاصمة، وتم التأكيد على أن الرفات ترجع للحقبة الاستعمارية، ليتم تشييع جثامينهم في احتفالات عيد النصر سنة 2017.
هذه هي رسالتي لجيل الاستقلال
يعتبر المجاهد “عبدة” بأن كل من يطعن في رسالة الشهداء خائن، وكل من له فرد في عائلته ممن صنعوا ثورة التحرير يدرك أهمية تضحيات جيش التحرير، مضيفا بأن صناع الثورة عانوا الأمرين طيلة 130 سنة من النضال والكفاح، ووجب على الوقوف على حجم تضحياتهم.
التقاه: أحمد ذيب