تعد ولاية قالمة الواقعة بأقصى شرق الجزائر قرب الحدود التونسية، من أكثر المناطق تضررا أثناء ثورة التحرير، نظرا لموقعها الاستراتيجي الهام و تضاريسها الطبيعية الحصينة التي أهلتها لأن تكون حاضنة القاعدة الشرقية و حصنا منيعا للثورة و ممرا حيويا لقوافل الإمداد بالسلاح انطلاقا من تونس.
و قد تحولت المنطقة إلى مصدر اهتمام قوي لقادة العدو الفرنسي الذين عملوا بدون توقف للسيطرة على الوضع و قطع خطوط الإمداد و محاصرة كتائب جيش التحرير و عزلها عن سكان الريف الذين حولوا مساكنهم و مزارعهم إلى قواعد آمنة للثوار و مراكز للمؤن و العلاج و الراحة و تسيير الخطط الحربية و كل ما يتعلق بشؤون الثورة المقدسة.
و كانت الخطوط المكهربة شرق قالمة و المحتشدات الجهنمية التي أنشأها جنرالات العدو، من بين المخططات القذرة الهادفة إلى عزل الثورة عن الشعب و قطع خطوط الإمداد و القضاء على الثورة المتأججة و كان لهذه المحتشدات الأثر الكبير على جيش التحرير و سكان المنطقة الذين تعرضوا لجرائم حرب بشعة مازالت آثارها إلى اليوم و خاصة بالأقاليم الجبلية، أين انتشر الفقر و معه الأمراض الفتاكة و نال العدو من الكرامة الإنسانية للسكان، عقابا لهم على دعمهم المطلق و القوي للثورة منذ انطلاقها.
عشرات المحتشدات الجهنمية عبر مختلف مناطق ولاية قالمة و أبراج مراقبة و خطوط مكهربة على امتداد الإقليم الشرقي موطن القاعدة الشرقية التي اتخذت من جبال بني صالح على الحدود التونسية معقلا لها، و في كل محتشد مآسي إنسانية و جرائم حرب و انتهاكات لقوانين الحرب الدولية التي تنص على حماية المدنيين خلال النزاعات المسلحة، لكن العدو الفرنسي اتخذ من هؤلاء المدنيين العزل وسيلة لخنق الثورة الشعبية و تحييد جناحها المسلح عن الحاضنة الشعبية القوية التي صمدت أمام خطط كبار الجنرالات و استمرت في أداء دورها بكل قوة و شجاعة رغم الحصار و وطأة المحتشدات الشبيهة بالمعتقلات الجماعية المفتوحة، حيث الفقر و الأمراض و الانتهاكات البشعة التي بلغت درجة إذلال السكان و النيل من كرامتهم.
و مازالت الكثير من أحداث و تاريخ الثورة بقالمة و ربما في مناطق أخرى من الوطن، غير موثقة بالقدر الكافي الذي يحفظ ذاكرة الأمة و يحميها من الاندثار تحت تأثير عوامل الزمن و التحولات المتسارعة على الصعيدين الداخلي و الخارجي.
و قد وجدنا صعوبة كبيرة في الحصول على معلومات موثقة حول المحتشدات الاستعمارية بولاية قالمة و لأن التاريخ توثيق علمي صحيح و ليس سردا سطحيا إنشائيا، كما قال لنا الدكتور محمد الصالح فركوس، أستاذ التاريخ بجامعة 8 ماي 1945 بقالمة، فإن رجل الإعلام ملزم بالبحث عن المصادر الصحيحة من شهادات و كتابات موثقة عندما يكتب عن الوقائع التاريخية، حتى يكون عمله مبنيا على مضمون صحيح يعتد به عند الحاجة.
58 محتشدا لإفراغ الأقاليم الجبلية وعزل جيش التحرير
الوثيقة الوحيدة التي حصلنا عليها هي كتاب «أضواء على تاريخ الثورة بمنطقة قالمة 1954 – 1962 الذي أصدرته جمعية التاريخ و المعالم الأثرية لولاية قالمة سنة 1994، بمناسبة الذكرى الأربعين لبداية حرب التحرير.
و حسب المرجع المذكور، فإن عدد المحتشدات بولاية قالمة بلغ 85 محتشدا تغطي كل الإقليم الجغرافي الحالي لولاية قالمة و قد أنشأت الإدارة العسكرية الفرنسية أكبر عدد من المحتشدات بالبلديات الجبلية التي كانت معاقل حصينة للثورة و كذلك بالأقاليم الزراعية الخصبة التي استولى عليها المعمرون.
و كانت بلدية بومهرة أحمد، الواقعة بقلب سهل سيبوس الخصب حيث تنتشر مزارع المعمرين على نطاق واسع، موطنا لأكبر عدد من محتشدات العار الجهنمية، حيث بلغ عددها 8 محتشدات، هي بلاد غفار، مشته ليهودية، مزرعة ديبوا، مزرعة أندريا، مزرعة صوري، مزرعة ديتلو، مشته لخزارة و أخيرا محتشد الناظور حيث مخازن القمح و محطة القطار. و قد أصبحت هذه المحتشدات اليوم قرى كبرى بسهل سيبوس الكبير، بينها قرية الناظور وقرية بلاد غفار.
و إلى جانب مخطط عزل الثورة عن الشعب، فإن محتشدات سهل سيبوس الكبير، كانت تهدف أيضا إلى تشكيل جدار بشري لحماية كبرى المزارع من هجمات الثوار و استغلال السكان المهجرين كعمالة رخيصة بحقول القمح و الحوامض و مزارع الأبقار و صار هؤلاء المهجرين من أراضيهم أشبه بالعبيد لدى كبار المعمرين الذين استولوا على مساحات واسعة من أراضي سهل سيبوس الخصبة.
و كانت هذه المحتشدات مطوقة بالأسلاك الشائكة و أبراج المراقبة و فرضت قيودا مشددة على حركة السكان الذين فقدوا مصادر العيش من مواشي و حقول زارعية و أصبحوا يعتمدون على المساعدات الإنسانية المهينة التي تتحكم فيها الإدارة العسكرية، لكنهم ظلوا أوفياء للثورة معتمدين على العمل السري لإمداد الثوار بالمؤن و المعلومات الخاصة بتحركات العدو.
و جاءت منطقة عين العربي الجبلية الواقعة جنوبي قالمة، في المرتبة الثانية بـ7 محتشدات هي مزرعة علي الشريف، عين سلطان، عين فرس، بخباخة، عين السوق، سبع عيون و أخيرا محتشد مدودة.
و لعبت منطقة عين العربي دورا كبيرا خلال الثورة، نظرا لموقعها الجبلي الصعب و قربها من جبال ماونة و منطقة شنيور و وادي الشارف و تعد بوابة سهل الجنوب الكبير موطن القمح البليوني، حيث أقام المعمرون أمبرطورية القمح الشهيرة، بعد أن أحكموا قبضتهم على أجود الأراضي الزراعية بمنطقة الشمال القسنطيني.
تهجير جماعي للسكان بالإقليم الجبلي الغربي
يعد الإقليم الجبلي الغربي بولاية قالمة، من أكبر المناطق عرضة للدمار و الحصار خلال حرب التحرير، نظرا لموقعه الاستراتيجي الذي يغطي مساحة واسعة من المثلث الحدودي بين ولايات قالمة، قسنطينة و سكيكدة و هذا المثلث الجبلي هو معقل الولاية التاريخية الثانية و ممر قوافل الإمداد بالسلاح من الحدود الشرقية للبلاد.
و قد التحم سكان المنطقة مع الثوار منذ بداية حرب التحرير و تحولت المنازل الريفية إلى مراكز للتدريب و الراحة و الإيواء و العلاج و تخزين المؤن و السلاح و كان من الطبيعي أن يتعرض الإقليم لمخطط الأرض المحروقة و التهجير الجماعي للسكان و الزج بهم في محتشدات جهنمية، في محاولة يائسة لخنق الثورة وقطع التواصل بينها و بين المواطنين.
و كان الإقليم الجبلي يضم 3 بلديات قديمة هي برج صباط، الركنية و بوحمدان و هنا بهذه الغابات الكثيفة و الجبال الصخرية و الكهوف السحيقة أنشأت الإدارة العسكرية الفرنسية 13 محتشدا و أفرغت الإقليم من السكان، في واحدة من كبرى عمليات التهجير القسري التي وقعت بولاية قالمة أثناء الثورة.
و مازال سكان الإقليم القدامى يتذكرون تلك المأساة الإنسانية عندما تلقوا الأوامر بإخلاء منازلهم و التنقل إلى المحتشدات قرب المراكز العسكرية، تركوا كل شيء، الأرض و المواشي و دخلوا السجون المفتوحة حيث الأسلاك الشائكة و الحصار و الأمراض و الفقر و الإهانة و تدمير الكرامة الإنسانية، كعقاب جماعي على دعم الثورة وفق قانون المسؤولية الجماعية الذي أصدره جنرالات العدو في 16 ماي 1955 لمعاقبة السكان عقابا جماعيا و تحميلهم مسؤولية العمليات الحربية التي ينفذها الثوار.
الركنية... عقاب جماعي لسكان الجبال و قرية للبيع
كسرت جبال الركنية التاريخية شوكة العدو المدعوم بالحلف الأطلسي و قوات اللفيف الأجنبي و بقيت عصية حتى نهاية الحرب و دارت فيها كبرى المعارك، بينها معركة عيون القصب التي دامت 7 أيام كاملة و التحمت فيها فصائل جيش التحرير من الولاية الثانية و منطقة القبائل مع بعضها البعض و خاضت واحدة من أشد المعارك ضراوة بمنطقة قالمة.
و كان من الطبيعي أن ينال سكان جبال الركنية العقاب الجماعي في 6 محتشدات هي قندولة، مزيات، الفلاج، قوسي، الركنية و السطحة و تحول الإقليم إلى منطقة محرمة يعيث فيها السفاح لومان تقتيلا و حرقا و نهبا و انتهاكا للكرامة الإنسانية.
و بالرغم من إفراغ المناطق الجبلية من السكان، فقد ظلت الثورة متأججة مدعومة من سكان المحتشدات الذين انتقلوا إلى العمل السري لكسر الحصار و مساندة كتائب جيش التحرير التي مرت بأوضاع صعبة بسبب مخطط المحتشدات و التهجير الجماعي للسكان.
و قد مني مخطط محتشدات الركنية بالفشل و ظلت المعارك مستمرة بالمنطقة و زاد التلاحم بين الشعب و جيش التحرير و ارتفع مؤشر الهجمات على قواعد العدو و مزارع المعمرين و اضطرت الإدارة الفرنسية إلى وضع قرية الركنية للبيع سنة 1960 هربا من الجحيم، لكنها لم تجد من يشتريها و ظلت هدفا للهجمات حتى استقلال البلاد.
بوحمدان و حمام النبائل.. مناطق العزل تتحول لمراكز لإمداد للثورة
من بلدية بوحمدان بالإقليم الغربي إلى حمام النبائل بالإقليم الشرقي، كانت إدارة الحرب الفرنسية تسابق الزمن لقطع التواصل بين السكان و جيش التحرير و سد منافذ الإمداد و تدمير مراكز الدعم بالمؤن و السلاح و القضاء على مراكز العلاج و التدريب التي اتخذت من الجبال و الكهوف السحيقة مواقع لها بجبال طاية و حمام النبائل.
و قد أنشأ العدو الفرنسي 12 محتشدا ببوحمدان و حمام النبائل، في محاولة يائسة للقضاء على الثورة، لكن هذه المحتشدات كسرت الحصار و تحولت إلى مراكز لإمداد الثورة بالمؤن و المعلومات وفق نظام سري فعال وضعته الثورة لمواجهة مخطط المحتشدات و التهجير الجماعي للسكان، لإفراغ الأقاليم الجبلية الحصينة.
ببلدية بوحمدان التي صارت منطقة محرمة أنشا العدو 6 محتشدات هي السطحة، بني ملول، عين بلعيون، طاية، و عين خروبة.
و ببلدية حمام النبائل 6 محتشدات أيضا هي عين ضراسة، بوحشانة، مزرعة فايزي، عين السودة و عين صندل و البسباسة أين ارتكب العدو مجزرة رهيبة أودت بحياة أكثر من 360 مواطنا بينهم نساء و أطفال، في واحدة من أبشع المجازر التي تطال المدنيين بقالمة أثناء حرب التحرير.
فريد.غ