أكان لا بدّ من قطف زهرة أخرى كي نعرف، ثانيّة، أن السّارق في حقلٍ غير حقله. أكان لا بدّ من إسكاتِ الحقيقة كي ينهضُ الحقُّ من تحت الرّدم ويقول للعالم: أنا هنا، لم أمت تمامًا، مرّت رصاصةُ القاتل الذي تُحبّون خفيفةً على قلبي.
قلْ ، أيّها المطبّع، ماذا ترى هناك في صباح جنين؟ هل رأيت طفلة نائمةً في المنعطف؟ هل سمعتها وهي تروي القصص في ليلك الطويل وليلنا؟ هي ليست نائمة تمامًا، هي تراك وتسمعك وأنت تدعو القنّاص ليُنعش السيّاحة في بلدك ويُكمل شهوته النّاقصة.
هبّت شيرين في الصّباح على العالم. أشعلت صوتَها وأطفأت دمها وهبّت. و لا بأس أن يبحث العالمُ عن عبارات مهذّبة لوصف القاتل في محنته، القاتلُ الذي سوف يزورك، أيّها المُطبّع، كي يدرّبك على قتل أخيك ويُلقّنك أصول التجسّس على جارك.
ذهبت شيرين بالصّحافة إلى أبعد حدّ ممكن، محقّقة التوازن الصّعب بين المهنيّة والانتماء المعذّب إلى وطنٍ ممزّق ومحتلّ، حيث ظلّت لسنوات طويلةٍ تسردُ الأحداث بصوتٍ عذب لا يشبع المتلقي من سماعه رغم تكرّر المأساة، وتقتحم المواقع الخطرة لتنقل للعالم ما يجب نقله، كانت من جيلٍ طارئٍ على الصحافة العربيّة التي عرفت انفجارًا في عدد الفضائيات وظهور قنوات الأخبار. شاخ كثيرون، لكنّ شيرين ظلّت تتجدّد وتشعُّ في الميدان الذي لم تغادره سوى صباح أمس. ظلت لسنوات طويلة وفي كلّ الأوقات وفي مختلف الأحداث «على المباشر»، لا تضطرب ولا تتلعثم، كأنّها خُلقت لتعيش أمام الكاميرا، لا ليل لها ولا نهار، لديها دائما ما تقول في عمرها السريع الذي قضمه الوحوش.
روى الشّاعر محمود درويش في زيارته الأخيرة إلى الجزائر، كيف كانت دوريات الجيش الإسرائيلي تختمُ بلاغاتَها عبر مكبّرات الصّوت بتوقيعٍ مثيرٍ:« شيرين أبو عاقلة». نعم، لقد أثرت تقاريرُها حتى في جنود الاحتلال الذين حاولوا تقليدها في بلاغات تعلنُ حظر التّجوال، وفي ذلك درسٌ فحواه أنّ الصحفيّ المهنيّ والمجتهد يصل إلى جميع النّاس.
وحتى إن كانت شيرين صحافيّة فحسب، يحقّ لها الإعفاء من قصص النّضال و مطبّاته، فإنّ موتها الصادم يُشير إلى حقيقة «الكيان» التي يسعى عربٌ إلى تبييض صورته وتسفيه المدافعين عن الحقّ الفلسطيني، و وصفهم بضحايا القوميّة و بقايا دبلوماسية قديمة تجاوزها الزمن.
أليس كذلك، أيّها المطبّع، أم أنّك ستلتمس الأعذار لصاحبك كعادتك وتجدّد له الدعوة كي تراه ويُدرّبك؟ كيف تسمي قاتل شيرين؟ وهل ستصفُ المتألمين لرحيلها بالمتاجرين بالقضيّة؟ وعلى من تطلق الذباب، هذه المرّة؟
حسنًا، سينجو الفاعلُ، ما دام صوت الحقّ خافتًا في غابتنا، لكنّ الخزي سيلاحقُه ويصيبك. سليم-ب