تطرق رئيس الجمهورية السيد، عبد المجيد تبون، في اللقاء الدوري الأخير له مع ممثلي الصحافة الوطنية إلى الأثر البسيكولوجي و المجتمعي والحضاري الكبير الذي يتركه توزيع السكنات على المواطنين بشكل مستمر، و أبرز نتائج ذلك على مسار التنمية الاجتماعية والاقتصادية للبلاد والمجتمع بصورة أعم.
و في هذا الصدد لفت الرئيس إلى أن بناء وتوزيع السكنات على المواطنين لا يعني توفير سقف لكل عائلة وكفى، بل هو "فلسفة مجتمعية" و"مساهمة حضارية في بناء الجزائر وخلق طبقة وسطى" في المجتمع لما لها من دور كبير في ضبط توازنه وخلق الانسجام بين مختلف شرائحه ووقايته من آفات وأمراض عديدة.
كما أبرز رئيس الجمهورية في هذا المقام الدور الكبير الذي لعبه السكن الريفي، الذي وصفه بـ " الثورة الصامتة في تاريخ البلاد"، في إعادة إعمار الأرياف بعد هجرانها من قبل الساكنة خلال سنوات الإرهاب، وبعث النشاط الفلاحي فيها بمختلف أنواعه، وبالتالي المساهمة في خلق تنمية ريفية حقيقية، و خلق توازن بين المدن والأرياف والجبال.
وفي ذات السياق أوضح كذلك بأن انتشال عائلات بأكملها من الأحياء القصديرية والأحياء الفقيرة غير الصالحة التي لا تتوفر على أدنى مقومات العيش الكريم، ومنحهم سكنات عصرية لائقة بكل ضروريات الحياة العصرية، يلعب هو الآخر دورا كبيرا في ضمان تنشئة جيل متوازن نفسيا و متحضر، بإمكان أبنائه أن يجدوا الجو اللائق والمناخ الملائم ليحققوا النجاح دراسيا وعمليا.
وأعطى رئيس الجمهورية في ذات اللقاء أمثلة عن آلاف العائلات التي رحلت في الجزائر العاصمة من أحياء قصديرية إلى بنايات وعمارات سكنية لائقة تحوي كل ضروريات الحياة، وكيف أثر ذلك على التحصيل العلمي لأبنائهم، الذين حققوا نتائج باهرة في مشوارهم الدراسي.
ولم يغفل الرئيس في حديثه الإشارة إلى مدى تأثير السكن على مختلف جوانب التنمية الوطنية، ولكن أيضا على تقوية الروح الوطنية للفرد، وهو أمر مهم جدا خاصة في الظرف الحالي الذي يمر به العالم.
فمن المعروف أن الفرد الذي يحس بالتهميش أو يعيش على هامش المجتمع يندفع إلى العزلة والتفكير السلبي، و قد ينمي نوعا من التطرف، و ربما يرتمي بين أحضان العنف بمختلف أشكاله، وينمي كذلك نوعا من الحقد اتجاه المجتمع برمته واتجاه الدولة بمختلف مؤسساتها حيث يمكن أن يرى فيهم السبب في الوضعية المزرية التي يعيشها، وهو ما قد يجعله فريسة سهلة لدى المتطرفين وعصابات الإجرام والمتاجرة بالمخدرات و غيرها.
و النتيجة ستكون عكسية لو تم التكفل بهذه الفئة، ويتم انتشالها من الوضعيات الصعبة والمزرية التي تعيشها في الأحياء الفقيرة، حيث سينمي ذلك شعورا بالانتماء الكامل للمجتمع، و بالتالي الانخراط بشكل كامل في مساراته، وينمي الروح الوطنية لدى الفرد كما أشار إلى ذلك الرئيس تبون.
برامج سكنية بأبعاد مجتمعية
وضمن هذه المقاربة تندرج سياسة الدولة في مجال السكن، حيث لا ترمي من وراء ذلك إلى توفير سقف لمن يحتاجه بل تستهدف أبعادا كبرى اجتماعيا واقتصاديا ووطنيا، تطبيقا لمبدأ الطابع الاجتماعي للدولة الذي نص عليه بيان أول نوفمبر بداية والذي يؤكد المسؤولون في الدولة في كل مرة ألا تراجع عنه أبدا.
ومن هذا المنطلق تهدف السياسة الوطنية للسكن إلى تحسين وضع العائلات الجزائرية وضمان العيش الكريم لها، وكذا إلى خلق نوع من الإحساس لديها بأنها تمتلك سكنا في هذه البلاد وليست مجرد مؤجر فقط، وقد أشار إلى هذا الهدف البسيكولوجي الهام رئيس الجمهورية في آخر حديث صحفي له، وهو ما جعل الدولة تقرر التنازل عن السكنات الاجتماعية وبيعها لمن يرغب في ذلك من المواطنين بعد سنوات من الاستفادة منها.
و لعل الجزائر من بين الدول القليلة في العالم التي تملك السكنات لمواطنيها بشكل كامل، حيث نجد في أكثر الدول تطورا أن الناس قد يقضون حياتهم كلها مؤجرين حسب إمكانياتهم المادية.
وبالنظر للأهداف المتوخاة من هذه السياسة المتبعة في مجال السكن يمكن فهم حجم الأموال الضخمة والجهود الكبيرة التي تقوم بها الدولة في هذا المجال، والتي تتدعم في كل مرة وهذا منذ سنوات طويلة.
وفي البرنامج الخاص برئيس الجمهورية بناء وتوزيع 1 مليون وحدة سكنية بين سنتي 2020 و 2024، وهو برنامج طموح وكبير، ولحد الآن وحسب تصريحات حديثة لوزير السكن والعمران و المدينة بمناسبة آخر عملية توزيع كبرى للسكنات التي تزامنت والخامس جويلية الأخير ذكرى عيدي الاستقلال و الشباب، فإن ما مجموعه 920 ألف وحدة سكنية قد وزعت منذ سنة 2020 إلى اليوم، وخلال عملية التوزيع بمناسبة ذكرى عيد الاستقلال الأخيرة فقد تم توزيع 150 ألف وحدة سكنية من مختلف الصيغ عبر جميع ولايات القطر الوطني، عادت فيها حصة الأسد للسكن الاجتماعي.
واليوم وبعد كل هذه الجهود طمأن رئيس الجمهورية بأن بناء السكن سيستمر في البلاد في المستقبل، بالنظر للأسباب سالفة الذكر وكذا أيضا بالنظر لما توجد عليه البلاد اليوم من أريحية في هذا المجال، حيث لم يعد السكن يكلف غاليا كما كان قبل سنوات قليلة، عندما كانت مختلف مواد البناء تستورد من الخارج و بالعملة الصعبة.
سكن جزائري مئة بالمئة
وفي هذا المقام أوضح الرئيس بأن الإمكانات المادية متوفرة اليوم للاستمرار في بناء السكنات وتحسين الوضع الاجتماعي للمواطنين الذين لم يحصلوا بعد على سكنات، وقال بأن السكن اليوم أصبح "جزائريا" أي أن عملية البناء لم تعد تعتمد على ما هو مستورد من مواد البناء.
فكل ما يدخل في إطار بناء السكنات أصبح ينتج اليوم محليا هنا في الجزائر، وبخاصة مادة الاسمنت التي أصبحت الجزائر مكتفية فيها بل وتصدر الفائض منها إلى دول أخرى، ونفس الشيء بالنسبة للمواد الأخرى.
و هو ما أدى في النهاية إلى تراجع تكلفة السكن بنسبة كبيرة وجعل الدولة في أريحية من هذا الأمر، الشيء الذي يساعدها في مواصلة سياسة السكن لسنوات قادمة، وبخاصة صيغة البيع بالإيجار كما شدد على ذلك رئيس الجمهورية.
وبناء على كل ما سبق ذكره يتضح جليا أن سياسة السكن التي تتبعها الدولة ليست مجرد عملية بسيطة لإيواء من لا مأوى لهم، أو توفير سقف لمن لا سقف له، بل هي عبارة عن "مقاربة متكاملة" ترمي إلى توفير المجال لبروز مواطن متوازن نفسيا ، منسجم اجتماعيا، متشبع بالروح الوطنية، متحضر سلوكيا، بإمكانه المساهمة في المسار التنموي للبلاد، فرد يكون إضافة للدولة والمجتمع ولا يكون علة عليهما.
وهي في كل هذا مقاربة تستهدف ضمان الانسجام المجتمعي و الحفاظ على الوحدة والتلاحم و تقليص الفوارق حفاظا على الأمن العام.
واللافت في حديث رئيس الجمهورية عن السكن أنه شدد على أن السكن يجب أن يذهب إلى مستحقيه وهو دور الجهات المشرفة على إعداد القوائم المطالبة بالحرص على أحقية كل مستفيد كما أكد رئيس الجمهورية أن الدولة لن تتوقف عن بناء السكن لكنها ضد التبذير، أي أن المشاريع تنجز وفق الاحتياجات وبعد دراسات تراعي التوازن بين الطلب الفعلي و البرمجة، لكن تظل الجزائر الدولة الوحيدة في العالم التي تواصل توزيع السكن وبمختلف الصيغ وبأسعار بعيدة عن الكلفة الفعلية، سيما في النمطين الإجتماعي والريفي، فيما تعد الأنماط شبه الاجتماعية نوعا من الدعم للطبقة المتوسطة التي أكد رئيس الجمهورية أن الدولة تحرص على حماية قدرتها الشرائية لأنها عصب المجتمع .
إلياس -ب