هلك سبعة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 18 و 43 سنة، من عائلة واحدة، تحمل لقب بن جدو، بقرية الشفا التابعة لبلدية خليل بولاية برج بوعريريج، اختناقا بغازات منبعثة من محرك مضخة تشتغل بالبنزين، داخل بئر بعمق 20 مترا منها 07 أمتار مملوءة بمياه آسنة و متحجرة منذ سنوات، و ذلك أثناء دخول ثلاثة إخوة لأجل تنظيف البئر، أين لفظوا أنفاسهم الأخيرة تحت تأثير الاختناق بغازات سامة، فيما هلك أربعة أشخاص آخرين أثناء محاولتهم نجدة الضحايا المتوفين، و كادت الحصيلة أن تكون أكبر لولا قيام بعض العقلاء بمنع أبناء هؤلاء الضحايا من الدخول إلى البئر خوفا من أن يلقوا نفس المصير، إلى غاية تدخل مصالح الحماية المدنية التي تمكنت من انتشال جثث الضحايا من داخل البئر في حدود الساعة الثالثة و النصف من فجر أمس.
و قد لبست قرية الشفا الواقعة بأعالي بلدية خليل على بعد حوالي 35 كيلومترا عن عاصمة ولاية برج بوعريريج، رداء الحزن و الأسى على أرواح الضحايا الذين خطفتهم الموت و هم في عز شبابهم، حيث يبلغ أكبرهم «ب.رابح» 43 سنة و هو عضو بالمجلس البلدي ببلدية خليل، فيما يبلغ عمر أصغرهم 18 سنة، من بينهم ثلاثة إخوة و ابني شقيقهم الأكبر و ابني عمهما اللذان تدخلا في محاولة لإنقاذ الضحايا قبل أن يلقيا نفس المصير.
جنازة الضحايا السبعة شيعت زوال أمس، أين كانت جريدة النصر حاضرة حيت جرت الجنازة في أجواء حزينة ميزها الحضور الكبير للمواطنين من مختلف بلديات الولاية و كذا من ولايات مجاورة على غرار ولايتي سطيف و المسيلة حيث تجاوز عددهم 10 آلاف مشيع، في وقفة تضامنية مع عائلة الضحايا، كما عمت أجواء من الحزن و البكاء أثناء وصول جثامين الضحايا السبع إلى منزل العائلتين، حيث سمع صراخ و بكاء العائلات التي اكتوت بفقدان فلذات أكبادها.و عند وصولنا إلى قرية الشفا، تنقلنا مباشرة إلى البئر «الملعون» حسب وصف سكان القرية، الذي يتواجد داخل مستودع مغطى سقفها بالإسمنت و غطاء حديدي بمقياس 70 سنتمتر، مع انعدام فتحات التهوئة و هناك سلالم على طول البئر بقضبان حديدية، و لمحنا عند فتح الغطاء الحديدي كمية من المياه في قاع البئر.
تأخر اكتشاف اختناق ثلاثة إلى الليل و هلاك أربعة أثناء محاولات الإنقاذ
التقينا بالأخ الأكبر للضحايا «نصر الدين» الذي روى لنا تفاصيل الحادثة و الحزن يملأ عينيه، و قال « لم نكن نعلم في بادئ الأمر بتنقل شقيقي و ابني الأكبر إلى المستودع الذي يتواجد به البئر بعد انقضاء صلاة الجمعة، من أجل تنظيفه حيث لم نستعمله منذ سنوات و قد أنجز في الثمانينات من القرن الماضي، كان أفراد العائلة بما فيهم الوالد الذي يبلغ من العمر 95 سنة يظنون أنهم تنقلوا من أجل جلب بعض حزم التبن» ، لكن تأخر عودتهم رغم انقضاء صلاة المغرب و احتلال الظلام لأرجاء القرية أدخل الشك في نفوس أفراد العائلة عن وجهتهم، و مكان تواجدهم إلى غاية وقت متأخر من الليل، حينها نطق الوالد و شكك بنزولهم إلى البئر من أجل تنظيفه، و بتنقل ابني و أخي رابح -عضو بالمجلس البلدي لبلدية خليل- إلى المستودع الذي يتواجد به البئر، اكتشفا أمر اختناقهم و غرقهم داخل المياه، و سارعا بالنزول بنية نجدتهم و إخراجهم، غير أنهما لقيا نفس المصير و وجدا صعوبة في الخروج بعد اختناقهما بالغازات المتسربة من محرك الضخ، كما سارع بعد ذلك ابني عمي في محاولة كذلك لإخراجهم و إنقاذهم من الغرق لكنهما عجزا عن الخروج رغم محاولاتهما المتكررة من الوصول إلى فوهة البئر و لفظا هما الآخران أنفاسهما الأخيرة.
أفراد العائلة لم يعرفوا بالتحديد عدد الضحايا إلا بعد انتشال الجثث من قبل الغطاسين
كانت الساعة تشير إلى التاسعة و 20 دقيقة ليلا عندما تم الاستنجاد بمصالح الحماية المدنية، بعد فشل جميع المحاولات و تسجيل عدد إضافي من الضحايا، و إلى غاية تلك اللحظات لم يكن أفراد العائلة على علم بعددهم الحقيقي ، و يضيف محدثنا « عقلاء القرية قاموا بمنع الشباب و أبناء الضحايا من الاقتراب أو الدخول إلى البئر و لولا منعهم بالقوة لتم تسجيل عدد أكبر من الهالكين»، حيث أبدوا إصرارا كبيرا على الدخول إلى البئر، قبل أن تصل وحدات الحماية المدنية التي استعملت أدوات و تجهيزات حديثة في عملية إخراج الضحايا من داخل البئر بالإضافة إلى حضور فرقة الغطاسين ما مكن من انتشال جثث الضحايا، الجثة تلو الأخرى إلى غاية الساعة الثالثة و النصف صباحا.و رغم حالة الحزن التي عمت أفراد العائلة سمح لنا الشقيق الأكبر للضحايا بالتنقل و الحديث مع والده بن جدو اليزيد البالغ من العمر 95 سنة، الذي كان جالسا تحت شجرة الزيتون المجاورة لمنزلهم العائلي،قدمنا له واجب العزاء، و بعدها خاطبه ابنه و البعض من جيرانه هل تتحدث مع الصحافة، بالطبع طلبنا الإذن قبل الحصول على أي تصريح من قبل أفراد العائلة أو أخذ أية صورة احتراما للحالة التي كانوا عليها و الحالة النفسية لعائلة الضحايا، رد علينا الوالد و رب العائلة «صور صور اللي كانوا يصورولي ماتوا» ... « الله يرحمهم» .. توقف الشيخ عن الحديث و ما هي إلا ثوان حتى أغمي عليه، سارع أعوان الحماية المدنية و أحفاده باتجاهه، خاطبنا أحد جيرانه قائلا أنه منذ سماعه بالخبر و هو في حالة نفسية متدهورة و كأنه لا يصدق ما حدث لقد أغمي عليه في العديد من المرات، يضيف آخر « إنها كارثة حقيقية،لا يعقل أن تفقد 07 أفراد من عائلة واحدة في يوم واحد».
أزيد من 10 آلاف مشيع من مختلف الولايات حضروا الجنازة
و شهدت قرية الشفا التي تحولت إلى مقصد لآلاف المواطنين، حركية غير عادية أين اكتظت طرقاتها بحركة السيارات حيث شلت حركة المرور من مدخل القرية إلى غاية منزل الضحايا كما تنقل المواطنون بأعداد كبيرة، حيث فاق عددهم 10 آلاف خلال الجنازة و هبوا من كل المناطق لتقديم و اجب العزاء، من بينهم العشرات الذين جاءوا من الولايات المجاورة على غرار ولايتي سطيف و المسيلة و ولايات بعيدة بعد سماعهم بالحادث .
كما تنقل ممثلون عن السلطات المدنية و العسكرية لحضور الجنازة و تقديم العزاء لأفراد العائلة، من بينهم رئيس دائرة بئر قاصد علي و كذا رئيس بلدية خليل، بالإضافة إلى عشرات الأعوان من مصالح الحماية المدنية و الدرك الوطني الذين أشرفوا على عملية نقل جثامين الضحايا و كذا تنظيم و تسهيل حركة المرور، و لم تصل جثامين الضحايا الذين نقلوا إلى مصلحة حفظ الجثث بمستشفى رأس الوادي ، إلى منزل العائلة المحاط بآلاف المواطنين و المعزين، إلا في حدود الساعة الثانية زوالا و قام أعوان الحماية المدنية بإدخال الجثامين إلى الفناء المجاور للمنزل أين تعالت صيحات النسوة و بكائهن على فلذات أكبادهن و أزواجهن.
مناشدة السلطات لمساعدة أهل الضحايا و تمكينهم من مصادر للاسترزاق
و قد التف من حولنا جيران الضحايا و بعض الشباب من القرية، و أشاروا إلى أن العائلة فقدت أغلب أبنائها و رجالها ما قد يفاقم من تردي الوضع المعيشي لأفرادها، خصوصا وأن جل الرجال هلكوا في هذا الحادث، و لم يبق سوى الأب الذي لا يحوز على أي دخل و الأخ الأكبر للضحايا الذي فقد ابنيه كذلك في هذه الحادثة، حيث يعاني من ظروف البطالة القاسية رغم تقدمه في السن، و يعتمد في تحصيل قوتهم اليومي على ما يجنيه من عمله في ورشات البناء، و في فترات محدودة، مناشدين السلطات المحلية بالالتفات لهذه العائلة و مساعدتها على تجاوز حزنها من جهة و كذا تمكين أبناء الضحايا و الأخ الأكبر من مناصب عمل لتوفير قوت العائلة المتكونة من 06 أسر مشيرين إلى أن الضحايا جميعهم أرباب عائلات أكبرهم « ب.ر « 43 سنة ترك من ورائه 04 أولاد و زوجته، و «ب-.م « 42 سنة ترك أربعة أولاد و زوجته كذلك، و «ب.خ « أب لطفلين و « ب.س « أب لطفلين و كذلك الحال بالنسبة للضحية « ب.ر « الذي ترك عائلة مكونة من 03 أفراد بما فيهم الزوجة، فيما يعد هشام البالغ من العمر 18 سنة الضحية الوحيد الأعزب.
الحماية المدينة تطلب من الفلاحين الاتصال بمصالحها قبل تنظيف الآبار المغلقة
و عن الحادثة الأليمة التي هزت سكان قرية الشفا، أكد قائد الوحدة الثانوية للحماية المدنية بعين تاغروت التي تدخلت فور بلوغها اتصال من عائلة الضحايا، أن الحادث نجم عن استنشاق الضحايا لكميات معتبرة من غاز النشادر القاتل، الناجم عن تسرب غازات محترقة من محرك الضخ الذي يشتغل بالبنزين، و أضاف أن غاز النشادر أخطر من غاز أوكسيد الكربون، حيث يؤدي إلى الاختناق و الوفاة في ظرف وجيز، و يحدث عن تفاعل المواد العضوية في المياه الملوثة و الآسنة التي تجمعت منذ سنوات داخل البئر مع غاز أوكسيد الكربون الناتج عن الغازات المحترقة.
أما عن عملية التدخل فأكد على أنها تمت بالسرعة اللازمة، حيث وصلت فرق الحماية المدنية بعين تاغروت إلى مكان الحادث و تدعمت بفرق الغطاسين من الوحدة الرئيسية بالبرج، أين تم الدخول الى البئر باستعمال تجهيزات و أدوات حديثة تمكن عناصر الحماية من تفادي أية عواقب غير محمودة أثناء التدخل ومن بين هذه الأدوات جهاز التنفس المنعزل المستعمل من قبل الغطاسين، و هو ما ساعد على التدخل بسرعة لكن بعد فوات الأوان، حيث عثر على جميع الضحايا جثثا هامدة داخل البئر، و تم إخراجهم من عمق عشرين مترا بواسطة الحبال، ليتم بعدها إفراغ البئر من المياه.
من جانبه أشار النقيب علي دحمان أن معظم حوادث الاختناق المميتة داخل الآبار، تعود إلى استعمال المضخات التي تشتغل محركاتها بمادتي البنزين و المازوت، و كذا في الآبار المغطاة و غير المفتوحة أين تتزايد مخاطر الاختناق و صعوبة إنقاذ الضحايا.
و دعا ذات المتحدث الفلاحين و المواطنين إلى الاتصال بمصالح الحماية المدنية المنتشرة عبر بلديات و دوائر الولاية و كذا بالوحدة الرئيسية و المديرية الولائية، قبل قيامهم بعمليات تنظيف الآبار لإعطائهم النصائح الكافية أو مساعدتهم إذا تطلب الأمر ذلك، خصوصا بالآبار المغلقة و المتواجدة داخل المنازل و المستودعات.
و عن الاحتياطات الواجب اتخاذها في مثل هذه الحالات قال أنه من الأفضل الابتعاد عن استعمال محركات الضخ التي تشتغل بمادتي البنزين و المازوت، و الاعتماد بدرجة أكبر على المضخات التي تشغل بالكهرباء كونها أقل خطورة، بالإضافة إلى حفر الآبار في الأماكن المفتوحة و تجنب الأماكن المغلقة مع وضع فتحات للتهوية بالآبار، كما نصح بالاتصال بمصالح الحماية المدنية في مثل هذه الحالات كون أن عملية التدخل لإنقاذ الغرقى و المختنقين داخل الأبار تتطلب أدوات و تجهيزات خاصة تجنب أعوان الحماية من الغرق و الاختناق، عكس المواطنين العاديين الذين يجهلون كيفية إسعاف الضحايا و إنقاذهم و يفتقرون للوسائل اللازمة، ما يؤدي في العادة إلى ارتفاع قائمة عدد الضحايا و المتوفين.
ع.بوعبدالله