استعاد، يوم أمس، سكان ولاية تبسة حادثة حرق سوق المدينة في الرابع مارس من سنة 1956، حيث أشرف والي الولاية « محمد البركة داحاج» على مراسم الاحتفاء بالذكرى 66 للحادثة أمام الجدارية المخلدة لها، وذلك بحضور السلطات المدنية والعسكرية، وممثلي الأسرة الثورية ومجموعة من المجاهدين وجمع غفير من المواطنين.
الحادثة التاريخية، وقعت عقب قيام الفدائي “ سماعلي بوزيد “ أحد أبناء المنطقة الأشاوس، بتاريخ الرابع من شهر مارس سنة 1956، بعملية فدائية نفذها عند مدخل سوق تبسة ضد مرتزق من مرتزقة العدو الفرنسي قام باغتيال العديد من المواطنين الأبرياء، أين أسفرت العملية الفدائية عن مقتل عدد كبير من عساكر العدو الفرنسي، وجرح آخرين، لم يجد لها المستعمر الغاشم من حيلة لتغطية هزيمته، إلا اللجوء إلى حرق السوق عن آخره مما خلف سقوط العشرات من الشهداء بساحة الشرف منهم 8 شهداء غير بعيد عن السوق الذي تم حرقه، كإجراء انتقامي بهدف منع التموين عن المجاهدين والمؤونة عن المواطنين.
“ فوزي مصمودي”، مدير المجاهدين لولاية تبسة، سلط الأضواء بالمناسبة على حريق سوق تبسة، حيث ذكر أنه في عزّ ثورة نوفمبر المجيدة، وما تلاها من انتصارات باهرة على جيوش الاحتلال، وفي الرابع من شهر مارس 1956 وما أعقبها من أيّام، عاش سكان تبسة الأبرياء أوقاتا مهولة وأياما عصيبة وليال حالكة، يطبعها الرعب والخوف، جرّاء قيام الاحتلال الفرنسي بحرق سوق مدينة تبسة، بجميع محلاّته التجارية ومحتوياته، حيث بقيت ألسنة اللّهب وأعمدة الدّخان أياما، كما احترقت أجزاء المنازل القريبة منه، ولم يكتف العدو بذلك بل عمد إلى حرق وقتل مجموعة من خيرة شبان تبسة، بالإضافة إلى عمليات التنكيل والترويع والترهيب التي استهدفت المواطنين العزل.
المتحدث، أكد أن هذه الجريمة، أرّختها أسبوعية “البصائر” التي كانت تصدر في تلك الفترة، وهذا قبل توقيفها بحوالي شهر، حيث كتبت في عددها 358 بتاريخ 16 مارس 1956: “..كانت مدينة تبسة مسرحا للحرائق التي أتت على قسم كبير ممّا يمتلكه المسلمون من مقاهي ومحلات تجارية، فباتت هذه الجهة أكواما من رماد و من حجارة، وقد فارقها أصحابها هائمين على وجوههم في الفيافي أو ملتجئين إلى بعض المدن، هذا عدا الذين استعملت فيهم الأسلحة النّارية فتركتهم في الشوارع صرعى ما بين قتيل وجريح..».
وقد قارن صاحب المقال في ذات العدد من «البصائر» بين المجاهدين الذين حملوا السلاح لمقاومة الغزاة، وبين الفرنسيين المعتدين: «فمن هو العنصري الأعمى يا ترى؟ الجزائري الذي حمل السلاح ولجأ إلى الجبل، ولم يمسّ أول الأمر أحدا من السكان الأوربيّين غير الجنود الحاملين للسلاح مثله؟ أم الحكومة المتمدّنة التي يقتل جندها عقب كل اشتباك من وجده في طريقه من المدنيين المسلمين الذين لا يحملون سلاحا ولا يملكون دفاعا؟».
خلّد عديد الشعراء الجزائريين هذه المحرقة في قصائد ومقطوعات شعرية فصيحة وشعبية، وتغنّى بها أبناء الشعب وبناته، وردّدتها الحناجر في المحافل والمنتديات وحتى في الأعراس الشعبية، ومن ذلك ما جادت به قريحة ابن ميزاب الشاعر المجاهد صالح خرفي، وكان حينذاك بتونس، فبكاها شعرا وأرّخ لها بقصيدة مفعمة بالوطنية، حواها ديوانه «أطلس المعجزات»، أبرز خلال أبياتها الحقد الدفين الذي يكنّه الفرنسي للشعب الجزائري برمّته، وقد تجلّى هذا الحقد في حرق سوق مدينة تبسة على من فيه.
أما المجاهد الشاعر محمد الشّبوكي، ابن ولاية تبسة، وصاحب النشيد الخالد «جزائرنا يا بلاد الجدود»، فقد ألهب حماس المجاهدين والمواطنين المدنيين على السواء بقصيدة خالدة، أطلق عليها عنوان «تبسة الصامدة»، وكان آنذاك قد زجّ به في معتقل الجرف بنواحي المسيلة، غير أنه وثّق لنا هذه المجزرة الجبانة التي حملت توقيع الجيش الغازي، وصوّر لنا لهيبها واستعارها، معرِّضا بالجيش الفرنسي الذي انهزم شرّ هزيمة في معركة ديان بيان فو بالفيتنام في مارس ــ ماي 1954، وملمِّزًا بهذا الجيش الذي أطلق عليه الشاعر وكل الشعب آنذاك اسم «قَمِير»، كما مجّد تبسة وأبطالها الذين لقّنوا العدو دروسا في الشجاعة والإقدام بساحات الوغى، ومبشّرا أبناء الجزائر بالنصر المبين وبالفجر الجديد.
وفي سبيل الحفاظ على الذاكرة الوطنية ونقلها بأمانة إلى الأجيال، وإبراز الوجه البشع للاحتلال، وتوثيقا لهذه المجزرة ضد الإنسانية التي ارتكبها الفرنسيون ببلادنا وفي مدينة عريقة ومجاهدة، فقد عمدت السلطات المحلية إلى إقامة جدارية رخامية، بوسط مدينة تبسة وبمحاذاة السوق الذي شهد ذات يوم هذه المحرقة، تضم نبذة عن الحادثة وأسماء شهدائها الثمانية وقصيدة الشاعر صالح خرفي، حيث جسد الفنان التشكيلي حسين مرامرية، حادثة حرق السوق ، في جدارية أنجزت بتقنية« البارودياف» ، و تم نحتها إلى جانب سوق الخضر حاليا، قرب مقر المديرية الولائية للأمن الوطني بتبسة، و استعمل الفنان فيها مواد مختلفة، ليجسد أدق التفاصيل عن هذه الجريمة البشعة، على غرار لحظات هروب التجار عبر طريق « بوحبّة» بعد حرق كل ممتلكاتهم من طرف المستعمر.
ع.نصيب