نجحت الجزائر في كسر شوكة اليمين المتطرف في فرنسا الذي سعى جاهدا لجرها نحو حلقة الصدام، وهو ما رفضته الجزائر التي كان ردها مناسبا لمقتضيات كل مرة باعتماد الرد التدريجي على كل استفزاز يصدر من وزراء حكومة بايرو وزعماء التيار اليميني على رأسهم وزير الخارجية برونو روتايو الذي فشلت كل مساعيه في الضغط على الجزائر باستخدام ورقة الهجرة والاتفاقيات.
فضلت الجزائر منذ بداية الأزمة الدبلوماسية والسياسية مع فرنسا، التزام ضبط النفس في ردها على الاستفزازات الفرنسية، واعتماد المرحلية في الرد بما يتناسب وطبيعة الادعاءات الكاذبة ورفضت الانسياق وراء حملة التشويه التي يقف خلفها وزراء في حكومة ماكرون يتقدمهم وزير الداخلية برونو روتايو، وأكدت أنها لن ترضخ لأية ضغوط، طالما أن همها الوحيد هو حماية المواطنين الجزائريين .
ونجحت الجزائر تدريجيا في تفكيك كل الحجج الواهية التي رفعها وزير الداخلية الفرنسي في تبرير تشدده إزاء الجزائريين ومطالبته بإلغاء اتفاقية الهجرة، واتضح أن هذا الموقف لم يكن سوى ذريعة لاستمالة اليمين المتطرف تحسبا لمعركة الرئاسيات التي ينوى وزير الداخلية الحالي الترشح لها وتكرار سيناريو ساركوزي، الذي نجح في الوصول إلى قصر الاليزيه بعد تبنيه خطابا معاديا للأجانب والمهاجرين من أصول مغاربية.
وأكدت الجزائر في عدة مناسبات رفضها القاطع «للغة التهديد والوعيد والمُهل ولكافة أشكال الابتزاز»، في إشارة إلى مهلة 6 أسابيع التي حددها الوزير الأول الفرنسي بشأن دراسة قائمة المرحلين، وكذا وزيره للداخلية الذي هدد بإجراءات «تدريجية» إذا لما تتعاط الجزائر إيجابيا مع ما استفزازاته المتكررة، وهو ما ردت عليه الجزائر من خلال تأكيد “رفضها القاطع للغة التهديد والوعيد والمهل ولكافة أشكال الابتزاز» واعتراضها على المقاربة الانتقائية التي تنتهجها فرنسا إزاء الاتفاقيات الثنائية والدولية التي تربط البلدين.
وكان رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون قد لمّح الشهر الماضي إلى موقف الجزائر بخصوص طلبات الترحيل التي تقدمها باريس وذلك في حوار مع صحيفة لوبوان الفرنسية، وقال «نود أيضاً أن توافق فرنسا على طلباتنا في مجال تسليم المطلوبين، مثلما فعلت إسبانيا وإيطاليا وألمانيا. لكننا نلاحظ بغرابة أن باريس تمنح الجنسية أو حق اللجوء لشخصيات ارتكبت جرائم اقتصادية أو تمارس أعمالاً تخريبية على الأراضي الفرنسية. وفقاً لمعلوماتنا، بعضهم تم توظيفهم من قبل خدماتكم كمخبرين».
الجزائر ترفض التهديد وتؤكد الالتزام بالاَليات
وفيما يتعلق بملف الهجرة، ترفض الجزائر التهديدات الفرنسية المتمثلة في إرسال قوائم بأسماء أشخاص تعتبرهم فرنسا خطيرين وتطالب بترحيلهم، وتؤكد أن مهمة القناصلة الجزائريين هي حماية المواطنين الجزائريين وليس تنفيذ تعليمات وزير الداخلية الفرنسي. حيث أعلنت رفضها التعاون مع باريس وتجاهل لائحة بأسماء رعايا، قدمتها السلطات الفرنسية، صدرت بحقهم قرارات إبعاد من الأراضي الفرنسية.
وبهذا الخصوص دعت الحكومة الفرنسية إلى عدم إرسال قوائم أخرى عبر السفارة الجزائرية في باريس، والتزام الآلية المتفق عليها بين البلدين التي تقضي بالتعامل بين سلطات المحافظات الفرنسية والقنصليات الجزائرية بشأن المرحلين فقط. وكذا الحفاظ على طريقة المعالجة المُعتمدة، أي دراسة طلبات الإبعاد حالة بحالة»، ورفض أسلوب القوائم المجمعة.
وشددت الجزائر على أنه «لا يُمكن لفرنسا أن تُقرر، بصفة أحادية وانفرادية، إعادة النظر في القنوات الاعتيادية المُخصصة لمُعالجة حالات الإبعاد»، مشيرة إلى أن «بروتوكول اتفاق عام 1994 لا يُمكن تطبيقه بمعزل عن اتفاقية العلاقات القنصلية لعام 1974، التي تظل الإطار المرجعي الرئيسي في المجال القنصلي بين البلدين، ولا ينبغي أن يكون تنفيذ أحد هذين النصين القانونيين على حساب الآخر، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بضرورة ضمان احترام حقوق الأشخاص المعنيين بتدابير الإبعاد».
وبهذا الموقف الصارم والرافض للتهديدات الفرنسية ولغو الابتزاز تكون الجزائر قد كسرت شوكة الوزير روتايو وجناحه المتطرف ما يضعه أمام موقف لا يحسد عليه وقد يدفع إلى انقسام حكومي في فرنسا، خاصة بعد تهديد وزير الداخلية بالاستقالة. حيث قال إنه سيغادر منصبه في حال عدم تبني الحكومة لخيار التصعيد مع الجزائر.
ملف الهجرة ورقة سياسية لكسب الأصوات
ويؤكد محللون أن الأزمة الحالية بين الجزائر وفرنسا سببها الرئيسي استخدام اليمين المتطرف الفرنسي للجزائر كأداة سياسية لكسب الأصوات في الانتخابات المقبلة. في مقابل ذلك، يظهر الرئيس الفرنسي عدم قدرة في التأثير في الأحداث، بسبب عدم تمتعه بالأغلبية التي تسمح له بفرض تصوره وتنازله أمام تهديد قوى المعارضة بإسقاط حكوماته، ويتمثل استغلال اليمين المتطرف للوضع، حسب محللين، في تسييس ملف الهجرة الجزائرية وتحويله إلى ورقة انتخابية مهمة، حيث تعتبر هذه الأوساط في فرنسا أن التركيز على الجزائر وقضاياها يمثل وسيلة فعّالة لجذب انتباه الرأي العام الفرنسي، خاصة مع اقتراب الانتخابات الرئاسية.
روتايو.. بين التصعيد أو الاستقالة
الرفض الصارم الذي أبدته الجزائر في التعامل مع قائمة المبعدين التي وضعتها مصالح وزير الداخلية برونو روتاية، وضعت الأخير أمام خيارين إما التصعيد الذي سبق وان لوح به وهو ما من شأنه أن يدخل الحكومة الفرنسية في صراع وانقسامات داخلية قد تؤدي إلى سقوطها، او خيار الاستقالة من منصبه كما طالب بذلك عديد الشخصيات والأحزاب السياسية على غرار حزب فرنسا الابية بزعامة ميلونشون.
ولم ينتظر الوزير الفرنسي طويلا ليعلن في تغريدة على موقع «اكس» عن إجراءات ضد الجزائر قال بأنها «تدريجية»، حيث أعلن «عن تعليق اتفاقية 2007 مع الجزائر والمتعلقة بالإعفاء من التأشيرة لحاملي جوازات السفر الدبلوماسية»، وهو اتفاق كان يتيح للدبلوماسيين وحاملي الجوازات الدبلوماسية وجوازات المهمة دخول فرنسا دون الحصول على تأشيرة مسبقة.
من جانبه دعا وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانان إلى اتخاذ تدابير إضافية ورأى دارمانان خلال لقاء مع قناة TF1، أن رفض الجزائر استعادة حوالي 60 من مواطنيها المستهدفين بإجراءات الطرد “ليس إهانة”، مؤكدا تأييده الكامل لـ”الرد التدريجي” الذي يدافع عنه زميله وزير الداخلية، برونو روتايو، بعد هذه الصفعة الجديدة التي وجهتها الجزائر.
ودعا إلى استدعاء السفير الفرنسي لدى الجزائر (هو قرار يعود للرئيس ماكرون وحده) وإنهاء جوازات السفر الدبلوماسية. كما لم يستبعد وزير العدل الفرنسي إعادة النظر في اتفاقيات 1968، قائلاً: “لكن لننتظر رد الجزائر”. وقال: “قبل أن نمس المواطنين العاديين، علينا أولا استهداف القادة السياسيين والاقتصاديين”.
ورغم “لحظات التوتر المؤسفة جدًا”، كما وصفها دارمانان، إلا انه دعا إلى “الحوار” مع الجزائر، هذا “البلد الكبير” الذي “تهمنا حدوده”. وأضاف: “الدبلوماسية تعني التحدث إلى أشخاص لا نتفق معهم”، مشددا على أنه “سيكون من الضروري في يوم من الأيام إقامة علاقة واتفاق مع الجزائر”.
وفي الوقت الذي تدعو فيه زعيمة اليمين المتطرف الفرنسي مارين لوبان إلى تجميد التأشيرات والتحويلات المالية الخاصة، وإنهاء المساعدات العامة للتنمية، وإلغاء اتفاقيات 1968، سخر دارمانان من مقترحات زعيمة حزب “التجمع الوطني”، قائلا: “مبدأ الرد التدريجي هو أن يكون تدريجيا. نرى أن السيدة لوبان لم تحكم البلاد من قبل، فهي لا تدرك كيف تدار العلاقات مع دولة كبيرة”.
ع سمير