يتحدث الكاتب والروائي عبد الوهاب عيساوي، الفائز بجائزة البوكر دورة 2020، في هذا الحوار عن روايته الفائزة «الديوان الإسبرطي»، الصادرة عن دار «ميم» في الجزائر قبل أن تصدر في طبعات عربية، عيساوي في ذات السياق تحدث عن الجوائز وما يمكن أن تضيفه للكاتب، أيضا تحدث عن أسباب تطرقه لمرحلة الوجود العثماني في الجزائر. مؤكدا هنا أنّه آثر العودة إلى هذه المرحلة التي يعتقد أنّها المسبب الرئيس في تشكّل الكثير من الأزمات الهوياتية العربية. وهنا يرى أنّ شرط الكتابة الروائية يختلف عن الكتابة التاريخية، وما يجمع بينهما الكثير من التقاطعات المعرفية، لكنّ القاعدة الفلسفية لكليهما مختلفة؛ إذ يكتب التاريخ واقعًا وفق وجهات نظر يمكن أن تدعي اليقينية. ولهذا يحتاج الماضي إلى مراجعات كثيرة والرواية هي الفن الأقدر على ذلك.
rحاورته :نـوّارة لحـرش
rجائزة البوكر دورة 2020 عادت لروايتك «الديوان الإسبرطي» وأنت أوّل جزائري يفوز بها، كما فزتَ سابقا بجوائز أدبية مُهمة سواء على المستوى المحلي أو العربي. كيف استقبلت خبر فوزك بالبوكر وكيف تنظر للجوائز، وما الّذي تُضيفه هذه الأخيرة لمسار الكاتب؟
عبد الوهاب عيساوي: أوّلا سعيدٌ جدا بفوز روايتي بجائزة البوكر، حقيقة خبرٌ جميل جدا، ينتظره أي روائي، ويبتهج به. الشكر كلّه موصول لكلّ من رأى أنّ روايتي تستحق البوكر، لكلّ من آمن بها وأثنى عليها، ولكلّ من رافقها بالدراسات والمراجعات والتقدير للجهد المبذول فيها.
ثانيا، تَمنح الجوائز الرواية صدى إعلاميًا وانتشاراً واسعًا يجعل القارئ يُقبل عليها، مثلما تبعث نفسًا جديدا في الكاتب ومزيدا من الثقة. ولا يخلو الأمر من مسؤولية، فالجائزة تضع الكاتب في مسؤولية كبيرة حول ما سيكتبه لاحقًا.
rتكاد تتخصص في الرواية التاريخية. كيف تفسر شغف الجيل الجديد من الأدباء الشباب بكتابة الرواية التاريخية اِنطلاقًا من تجربتك أنت وشغفك أنت؟
عبد الوهاب عيساوي: للسرد التاريخي والروائي وظيفة اِجتماعيّة وثقافيّة مشتركة، فكلاهما يُنتج معرفة إنسانية، وإن كان التاريخ إمكانًا مُنجزا، ونتاجًا مكتملا زمنه، روى لنا ما كان، فإنّ الرواية هي فن الإمكان المفتوح على حد تعبير كونديرا، وبالتالي فإنّ العلاقة بينهما علاقة معرفية، إعادة قراءة الخطابات الراهنة في زمن الحكاية التاريخية، يقوم الأمر على تحليل السرديات التاريخية، والأحداث الماضية في سياقها التاريخي، وقراءة الفضاء المجتمعي وتحوّلاته، وذلك من أجل تجانس الخطاب في الزمن المحمول عليه. على هذا النحو قرأت أعمال منيف والغيطاني ونجيب محفوظ، ولا أدري حقًا كيف ينظر الكُتّاب الشباب إلى الكتابة في التاريخ، قرأتُ أعمالاً جيدة ليست تاريخية بحتة، وإنّما تُوظف التاريخ كخلفية، وقرأتُ أعمالاً أخرى تنزاح إلى الجانب الحكائي على حساب الخطابي. بشكلٍ عام لا يمكن التفاعل مع رواية تاريخية لا يفهم سبب عودة الكاتب فيها إلى التاريخ، أو بالضبط لا يعرف ما هو سؤال الرواية فيها.
rهل ترى أنّ تحليل السرديات التاريخية والأحداث الماضية في سياقها التاريخي، بأدوات الفن السردي. عملية سهلة دون الإخلال بالشرط الفني للكتابة؟ يعني دون الوقوع في السرد التقريري أو سرد الاِستحضار. اِستحضار أحداث ووثائق ومراحل تاريخية وكفى؟
عبد الوهاب عيساوي: يختلف شرط الكتابة الروائية عن الكتابة التاريخية، بالتأكيد هناك الكثير من التقاطعات المعرفية بينهما، ولكنّ القاعدة الفلسفية لكليهما مختلفة؛ يكتب التاريخ واقعًا وفق وجهات نظر يمكن أن تدعي اليقينية، بينما تنزاح الرواية إلى الإمكانات التي قد تحدث أو لا، متجاوزة مفهوم اليقينية، بل هي على التضاد منه، مُحققة الحرية التي يفرضها الشرط الإنساني. ويصبح هنا الفن وسيلة من أجل إحقاق هذا المفهوم، بكلّ أجناسه. في الرواية يمكن اِعتماد التقنيات بأشكال مختلفة، ويبقى الأمر منوطا بتجانس الشكل والموضوع، مثلا، التقريرية ليست دائمًا سلبية في السرد، فهي تُناسب مواقف معينة، مثلها مثل أي أسلوب آخر يلجأ إليه الروائي، وتتعدّد الوسائط الأخرى، حسب درجة تفاعلها مع الموضوع المروي عنه والشكل المروي به، مثلا الوثيقة يمكن النظر إليها موضوعاتيا في علاقتها بالحكاية، بالإضافة إلى كونها جزءا مُهمًا من بناء النّص. وتتشابك هذه الوسائط بين الكتابة الروائية والتاريخية، إذ تستعين الأولى من الثانية بأدوات كثيرة، وبطرق متعدّدة، وليس من السهل إيجاد خوارزميات تحدد تلك العلاقة، لأنّ الاِشتغال يختلف من كاتب إلى آخر.
rهل يمكن القول أنّ الجيل الجديد يذهب أكثـر من التوظيف والاِستحضار والاِستثمار. وأنّه بشكلٍ ما يذهب إلى اِستنطاق التاريخ روائيًا؟
عبد الوهاب عيساوي: في فترة السبعينات والثمانينات كانت حركية العودة إلى التاريخ قوية، واستغل الكثير من الكُتّاب العرب وسائط عديدة لاِستعادة التاريخ روائيًا، فتفاعلت الرواية أجناسيًا مع متون السرد التراثي مستعيدة ألف ليلة وليلة، والسيرة الهلالية، ورحلة اِبن بطوطة، وحتى كُتب تاريخية كبدائع الزهور وخُطط المقريزي، مثلما اِستغلت الوثيقة التاريخية، والمخطوطة نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، وكلّ ذلك من أجل اِستنطاق التاريخ روائيًا. أظن أنّ رهان الجيل الجديد من الروائيين وخاصة في الجزائر اِستكشاف المناطق الخصبة التي لم تصلها الرواية بعد، وهي كثيرة، إذ تحفل هذه البلاد بتاريخٍ طويل وجغرافيا متسعة، وتنوع عرقي وثقافي لا يمكن تجاوزه روائيًا إلى مواضيع ضيقة مكررة ومستهلكة.
rاِنطلاقًا من قراءاتك الكثيرة في الرواية التاريخية. كيف كتب الجيل الجديد التاريخ في الرواية، مقارنة بالجيل الّذي سبقه أو جيل المؤسسين للرواية الجزائرية؟
عبد الوهاب عيساوي: لم أنتبه إلى روايات تاريخية لدى جيل المؤسسين كُتبت على النمط نفسه الّذي تُكتب به الرواية التاريخية الآن، بالتأكيد كانت هناك اِستعانة بالتاريخ، وخاصة مواضيع تتعلق بالثورة التحريرية، ولكنّ من وجهة نظر ملحمية بطولية، في ظل خطاب واحد شمولي، عكس الرؤية التعددية المبنية على حرية الخطاب التي تـؤسس لها الرواية التاريخية الآن. لذا أرى أنّ الرواية التاريخية في الجزائر ما زالت فضاءً خصبًا لقول الكثير، ولدى الجيل الجديد من الكُتّاب ما يقوله، يحتاج الماضي إلى مراجعات كثيرة. والرواية هي الفن الأقدر على ذلك.
rفي «الديوان الإسبرطي» ركزتَ على الحيز الزمني المُمتد من 1815 إلى غاية 1833. لماذا هذه الفترة بالذات. وكم كلفتك من الوقت والبحث والقراءة للإلمام بها تاريخيًا ومرجعيًا ومن ثم الإضاءة عليها/وتوظيفها سرديًا؟
عبد الوهاب عيساوي: جاءت رواية «الديوان الإسبرطي» كقراءة تاريخية لفترة زمنية تمتد ما بين 1815 حتى 1833. في التاريخ الأوّل خسر نابليون آخر معركة له في واترلو، وبذلك اِنزاح ثقل كبير عن أوروبا التي كاد يجعلها إمبراطورية فرنسية، وهو نابليون الّذي قاد حملة على مصر، وهو نفسه الّذي حلم طويلا باِحتلال الجزائر. أمّا التاريخ الثاني فهو المؤرخ لقدوم لجنة التحقيق الفرنسية المُسماة باللجنة الإفريقية من أجل التحري -ظاهريًا- في شكايات أهلها، ولكنّها كانت قادمة للفصل في مسألة بقاء الفرنسيين في الجزائر، أو مغادرتهم إياها.
تجاوزت المصادر التاريخية التي اِستعنتُ بها سبعين كتابًا: كُتب في التاريخ لمؤرخين معروفين مثل: سعد الله ونصر الدين سعيدوني وعبد الجليل التميمي. كما اِطلعتُ على بعض الرحلات الأجنبية مثل: هابنسترايت، ورحلات جزائرية كرحلة أبو راس الناصري، خرائط متخيلة لمدينة الجزائر رسمها ناصر الدين سعيدوني، مُذكرات لكُتّاب جزائريين كالشريف زهار الّذي عايش المرحلة وأحمد أفندي، وأجانب كالقنصل الأمريكي ويليام شالر، وتقارير عسكرية أو اِنطباعات مثل ما كتبه بيشون أو حوليات جزائرية لبيليسيي، حتّى بعض الكُتب الدينية. كلّ تلك الكُتب لخّصتها ثمّ جعلت لكلّ شخصية خطابًا يُوافق توجهها الفكريّ، ومسارها اليوميّ. أخذت مني سنة للإحاطة بها كلّها، ثمّ شرعتُ في الكتابة والتنقيح سنةً أخرى.
rالفترة تُعالج بشكل كبير الوجود العثماني في الجزائر. ويمكن القول إنّ الرواية الجزائرية لا تكاد تتطرق إلى هذه الفترة، وأنّ أغلب أو كلّ المدونة السردية تقريبًا تُعالج الوجود الفرنسي في الجزائر والحقبة الاِستعمارية وحرب التحرير. وغيرها من الموضوعات ذات الصلة بهذه التيمات. فما الّذي دفع عيساوي الكاتب والروائي الشاب إلى الخوض في هذه القضية؟
عبد الوهاب عيساوي: آثرتُ العودة إلى المرحلة التي اعتقدتُ أنّها المسبب الرئيس في تشكّل الكثير من الأزمات الهوياتية العربية، وأقصد تأثيرات الخلافة العثمانية على الدول العربية التي اِستظلت تحت ظلها، سواء بموافقتها، أو رغمًا عنها. العودة بالقراءة والتمعن، إذ يبحث فيها المؤرخ والجغرافي والسوسيولوجي، في حين ينظر الروائي إليها بعيون هؤلاء كلهم، يرمي بالأسئلة الراهنة، أو بالأحرى الأسئلة التي يُعتقد أنّها راهنة، لكنّها نابعة من تلك الفترات القديمة مكررة في أشكال جديدة وجوهر ثابت. فالبحث عن مفهوم الوطنية لا يمكن الإحاطة به بمعرفة تاريخ الدول بعد الاِستقلال من الاِستعمار الغربي فقط، بل إنّ هذا الأخير يُعتبر مجرّد مرحلة زمنية، مثلما حدث في تاريخ الكثير من الدول العربية، عندما حاولت الكثير من الأنظمة العسكرية تنميط رؤية وحيدة تبدأ مع بداية نظامها، بينما تاريخ الشعوب هو أكثر عُمقًا وامتداداً وتشابكًا مع بعضه البعض، مُتجاوزا الجغرافيات المحددة من طرف الاِستعمار أو الدول الحديثة.
rهل يمكن القول أنّ هذه الفترة أو القضية بمثابة «طابو تاريخي»، وأنّك حاولت النبش فيه من خلال روايتك هذه «الديوان الإسبرطي»؟
عبد الوهاب عيساوي: ترهن السُلط القراءة التاريخية ضمن منظورات هي التي أسستها، تخدم بذلك وجودها، وتحافظ على اِستمرارها، وبالتالي تتحوّل المفاهيم، ويستحيلُ الشعب متنوع الثقافة إلى جماهير، لها الذوق والرؤية ووجهة النظر نفسها، ولهذا لا يمكن الركون إلى يقين مُحدّد وموروث، بل الاِشتغال على هدمه، أو على الأقل خلخلة تلك البنيات الجامدة. وفي غياب الدراسات التي تُؤسس لنظرة جديدة بسبب غياب الديمقراطية، وحصار الأنظمة للجامعات ومراكز البحث، أعتقد أنّ الرواية رهانٌ مُهم لتجاوز أي قراءة شمولية، أكانت للتاريخ، أم للحاضر، أو حتّى اِستشرافية.
rاِستحضرتَ شوارع وحارات وأزقة وأمكنة من الجزائر العاصمة في الرواية. هل اِعتمد الاِستحضار على وثائق وصور وخرائط فقط. ألم يكن للمخيلة دورها في تأثيث هذا الاِستحضار؟
عبد الوهاب عيساوي: كانت للخرائط المتخيلة التي رسمها ناصر سعيدوني الدور الأهم في اِستعادتي للجزائر العثمانية، ثمّ تتبعت بقية الأمكنة اِنطلاقا من التقارير والسرود التاريخية، لينتهي بي الأمر مُتجولا بين شوارع العاصمة الآن. لا يمكن إهمال مساهمة التخييل في بناء الكثير من الأمكنة، إذ لا تمنح الخرائط إلاّ علامات، ولا تعطي التقارير إلاّ أوصافًا سردية، التي لا يمكن مطابقتها مع أماكن لم تعد موجودة، وهنا يأتي دور المخيلة لملء تلك الفراغات.
rفي العام 2016، شاركت في ندوة الجائزة العالمية للرواية العربية: «ورشة إبداع للكتّاب الشباب الموهوبين». برأيك ما الّذي يمكن أن تقدمه ورشات الكتابة الروائية للأدباء الشباب. وهل دوراتها الخاصة بتلقين قواعد ومهارات وطُرق وأساليب الكتابة، قادرة حقًا على أن تُفيد الكُتّاب الشباب؟
عبد الوهاب عيساوي: تمنح ورشات الكتابة فوائد عديدة، فالنصائح التي يقدمها الكُتّاب أصحاب التجارب الطويلة يمكن أن تختصر مسافة على الكاتب، هناك أخطاء تُكلف وقتًا، وحتّى بناء التصورات أحيانًا يكون خاطئًا، بينما في الورشات قبل أن تُمنح التقنيات تُمنح المفاهيم والرؤى. أعتقد أنّ الورشة الناجحة هي التي تقوم على بناء العلاقة السليمة بين الكاتب والرواية كفن، ومن ثم العلاقة بينه وبين الرواية التي يريد كتابتها، أمّا موضوع التقنيات فيمكن أن يستدركها الكاتب لاحقًا. تختلف طُرق وأساليب المُدربين من ورشة إلى أخرى، وبالتالي لا يمكن إعطاء وجهة نظر كلية. في ورشة البوكر كانت تُعطى التصورات والمفاهيم قبل التقنية، وكان النقاش مفتوحًا بين المدرِّبِ والروائيين في الورشة، وهذا في رأيي هو الأصل.
rهذه الورش تقود إلى سؤال آخر: هل يمكن حقا تعلّم الكتابة ولو دون موهبة؟
عبد الوهاب عيساوي: أعتقد أنّ السؤال الأدق: هل يمكن أن يكتب كاتب غير موهوب رواية جيدة؟ هناك الكثير من الروايات التي تُـنشر في العالم العربي، وحتى خارجه، ولكن هل كلها جيدة؟ أقول إنّ الموهبة لا تتعلق بالكتابة في حد ذاتها، بل في جودة ما يُكتب.
rماذا بعد «الديوان الإسبرطي»؟
عبد الوهاب عيساوي: هناك مشروع رواية تتكئ على أحداث تاريخية وسياسية وطنية.
ن.ل