يبقى الشهيد زيغود يوسف من الشخصيات الخالدة في الذاكرة الوطنية لما كان له من دور محوري في تفجير الثورة بالولاية التاريخية الثانية وهجمات الشمال القسنطيني إلى أن استشهد في معركة الشرف عن عمر 35 عاما، لكن كثيرين لا يعرفون جوانب خفية عن شخصية هذا البطل «الكتوم»، كما يصفه المؤرخ علاوة عمارة في لقاء بالنصر، فقد عاش «سي أحمد» طفولة صعبة وكبر يتيما، إلى أن انخرط في صفوف النضال ضد المستعمر الفرنسي أين تميز بحنكة نادرة وقدرة عبقرية على العمل السري والتنظيم المحكم.
أعدت البورتري: ياسمين بوالجدري
وُلد «سي أحمد»، كما أحب رفقاؤه في النضال تسميته، لعائلة تنتمي إلى عرش بني فرقان الذي هاجر قبل سنوات طويلة من منطقة برج زمورة ببرج بوعريريج باتجاه الضفة اليسرى لمنطقة وادي زهور التابعة حاليا بولاية سكيكدة. وإلى غاية منتصف القرن التاسع عشر، سافر العديد من عائلات هذا العرش إلى الضواحي الشرقية الواقعة شرق بلدة السنمدو التي حملت لاحقا اسم الشهيد زيغود يوسف.
وتنتشر العائلة الكبرى للشهيد زيغود يوسف، مثلما يخبرنا المؤرخ والباحث الدكتور علاوة عمارة، في مشاتي بني وفتين بدوار مجابرية، على الحدود الحالية مع ولاية سكيكدة، وكذلك في الكرمات وطرفانة، فيما استقرت عائلة والده في بني وفتين، ولهذا السبب أخذ لقب زيغوت في سجلات الحالة المدنية، وقد تزوج والده، السعيد، من يمينة غرابي وتوفي بعد إنجابها ليوسف في شهر فيفري من سنة 1921 في السمندو.
ولأنه وُلد يتيما، تكفل بزيغود يوسف، جده لأمه، محمد الطاهر غرابي، وهي العائلة المعروفة محليا باسم بلاغت، ثم تربى على يد الزوج الثالث لوالدته وهو رابح بوضرسة، وقد عاش مرحلة طفولة صعبة جدا، مثلما يؤكد الدكتور عمارة.
عمل حدادا بعد خروجه من مدرسة «السمندو»
ويضيف المؤرخ بأن زيغود يوسف التحق بالمدرسة في أول دفعة يسمح فيها للتلاميذ الجزائريين بالدخول إلى مدرسة الذكور في «كوندي السمندو»، وذلك من سنة 1928 إلى غاية 1936 عندما أرغم على الخروج نظرا لكبر سنه، ما جعله يشتغل حدادا لدى المعمر بول برونال في حدود سنة 1937 إلى غاية 1947، وهو تاريخ دخوله إلى البلدية كمرشح لحركة انتصار للحريات الديمقراطية.
وقد كان عام 1942، السنة التي حدث فيها تحول جذري بمسار زيغود يوسف، عندما اعتنق أفكار حزب الشعب الجزائري التي نشرها في السمندو المناضل محمد العربي دماغ العتروس، الذي أتى من الحروش ليعمل مترجما في محكمة السمندو، وهنا سيؤسس رفقة الطيب الثعالبي المدعو «سي يعدلان»، و زيغود يوسف، أول خلية للحزب تتوسع تدريجيا، وعن هذه المرحلة المفصلية يقول الدكتور عمارة «ستكون الميزة الأساسية لزيغود يوسف نشاطه سريا، وسيبرز في هيكلة النظام الحزبي داخل البلدة والدواوير، انطلاقا من إسطبل بشير بلميهوب».
وقد تكرست هذه التنشئة النضالية بشكل أساسي، مع تكليف الشاب يوسف زيغود بترؤس فرع المنظمة الخاصة في قسمة السمندو، وذلك سنة 1947 إلى غاية توقيفه عشية 21 مارس 1950، وخلال هذه الفترة برز اسمه بشكل لافت خصوصا في النضال السري ضمن حزب الشعب الجزائري.
ويتابع الباحث قائلا «المفارقة العجيبة من خلال ما تبينه الوثائق، هي أن أول مرة يظهر فيها اسم زيغود يوسف في النضال كانت سنة 1947 فقط وليس قبل ذلك. كان ذلك في لائحة حركة انتصار الحريات الديمقراطية خلال الانتخابات البلدية التي جرت على دورتين في أكتوبر 1947 وكان هو أصغر أسمائها».
ويعتقد الباحث، أن المحطة الثانية المهمة جدا في المسيرة الكفاحية لزيغود يوسف، كانت بعد سجنه ثم فراره من سجن عنابة ليلة الثالث أفريل من سنة 1951، حيث سيساعد المناضل عبد الباقي بكوش باعتباره ابن المدينة وهو الذي نظم عملية الهروب من سجن عنابة مع زيغود يوسف.
ويستطرد الدكتور عمارة قائلا «عندما عاد زيغود يوسف من السجن إلى دوار الصوادق عند عمار بوضرسة، نقله الحزب إلى خنقة بوستة في الأوراس وسيعرف في هذه المرحلة باسم مستعار هو سي أحمد الذي هو في الأصل اسم جده. في وثائق الثورة بمنطقة الأوراس نجده حاضرا بهذا اللقب».
تميز بالعمل السري وابتعد عن الظهور والخطابات
وخلال فترة السرية والعيش في الجبال، سيأخذ زيغود يوسف مسارا مهما جدا في تشكيل شخصيته الثورية، وقد عُرف وقتها، مثلما يؤكد المؤرخ، بأنه كان كتوما وشديد المراس ويتمتع بشجاعة كبيرة إضافة إلى تميزه بقوته التنظيمية وعمله السري، وهو الذي نشأ في جو السمندو الذي اقترن بالنضال ضمن النظام السري في حزب الشعب الجزائري وبفوج الإصلاح في الكشافة الإسلامية الجزائرية.
ولم يكن زيغود يوسف ممن يفضلون الحديث العلني والخطابات، فقد كان عمله سريا في الغالب، حتى أنه خلال مظاهرات 8 ماي 1945، كان هو من أشرف على تنظيمها من دون أن يتم توقيفه، لأن عمله كان تنظيميا بالدرجة الأولى، ليردف المؤرخ «هذه السرية وقوة التنظيم كانت وراء سر نجاح وتميز زيغود يوسف بشكل أساسي بنشر الثورة في الشمال القسنطيني».
وبخصوص اجتماع 20 أوت 1955 الذي كان لزيغود يوسف دور محوري في تنظيمه، يعتقد الباحث علاوة عمارة، أن أشياء كثيرة قيلت عن هذا اللقاء الذي عرف لاحقا في أبجديات الثورة بمؤتمر الصومام، ليضيف «فكرته لم تكن لشخص معين، بل إن قادة المناطق اتفقوا على عقد أول اجتماع في جانفي 1955 لكن هذا لم يحدث لأسباب مختلفة أهمها استشهاد ديدوش مراد في 18 جانفي من السنة نفسها، وبعدها إلقاء القبض على مصطفى بن بولعيد في العاشر فيفري».
ويتابع المؤرخ «كان من المفترض تنظيم الاجتماع الأول في شهر ماي 1955 بمنطقة بوالزعرور وكانت مبادرة زيغود يوسف فيه واضحة جدا، بأن يحضتنه، وذلك من خلال رسالة عبان رمضان لقيادة الثورة في القاهرة والتي قال فيها إن زيغود يوسف سيتكفل بالحماية الأمنية للاجتماع. الاجتماع الثاني نظم في المنطقة الثالثة بمشاركته كممثل للشمال القسنطيني رفقة القادة الذين تنقلوا معه، خصوصا لخضر بن طبال».
ويؤكد الباحث في التاريخ، أن الثورة في الشمال القسنطيني انطلقت في ظروف صعبة، وكان لابد من تحضيرات لها، فوضع الشهيد ديدوش مراد، الذي خلفه زيغود يوسف في ما بعد على رأس المنطقة الثانية، ثقله الأساسي في السمندو.
حقيقة «أساطير» حيكت عن «سي أحمد»
وقد شهدت السمندو كباقي القسمات، انقساما، لكن عضوين فاعلين فيها اتخذا موقف الحياد ثم موقف الشروع في الثورة، وهما محمد الصالح بلميهوب ورشيد مصباح، الأمر الذي جعل زيغود يوسف يعود من الجبل، حيث يردف الباحث «انطلاقا من إسطبل بشير بلميهوب، والد محمد الصالح بلميهوب، سيتشكل مقر تحضيرات الثورة. أهم الاجتماعات القيادية للثورة والتي أشرف عليها ديدوش مراد ستكون في هذا الاسطبل بالسمندو لأن ثورة الشمال القسنطيني في مرحلة ما، ستعرف بثورة السمندو كونها انطلقت من هناك».
وإثر استشهاد ديدوش مراد في معركة دوار الصوادق، تم تعيين زيغود يوسف في قيادة المنطقة الثانية، وكان ذلك بداية مارس 1955 وليس خلال جانفي كما يزعم البعض، مثلما يؤكد المؤرخ، ليتابع بخصوص هجمات 20 أوت 1955، أن زيغود يوسف سماها في بيانه «استعراضا للقوة» يُظهر بأن الجيش الوطني الشعبي خلفه الشعب بعد مخططات المستعمر بعزله عن الثورة.
وقد نجح زيغود يوسف مع بقية قادة الثورة، في جعل الشعب يهاجم في وضح النهار بمعية الجيش ويرفع علم حزب الشعب الجزائري الذي أصبح في ما بعد علم الاستقلال وراية الجمهورية الجزائرية، كان ذلك وسط صيحات «الله أكبر» ما أثبت للمستعمر أن جيش التحرير الوطني ليست عصابات وقطاع طرق، وإنما يمثل قضية خلفها الشعب الجزائري.
ويستطرد محدثنا بالقول «الكتاب الذي أنجز حول زيغود يوسف تضمن مغالطات كثيرة جدا من بينها أنه بدأ النضال سنة 1938 وهذا غير صحيح، فهو بدأ النضال سنة 1942. هناك من قال إنه شارك في أحداث قسنطينة في أوت 1934 ضد اليهود بينما كان عمره آنذاك 13 سنة فقط (.. ) كيف له أن يأتي ليلا من زيغود يوسف إلى وسط مدينة قسنطينة؟».
ويعتقد الباحث أن الكثير من الأساطير حيكت عن زيغود يوسف وهذا شيء طبيعي، بحسبه، لأن الشخصية التاريخية تصبح مصدر إلهام وتكثر حولها الأساطير عندما تتحول إلى رمزية.
حكاية الاستشهاد بدوار عرب السطيحة
ويرى الباحث بأن عيش هذا البطل في السرية من سنة 1951 إلى غاية 1954 عند اندلاع الثورة، أكسبه تجربة تنظيمية قوية بالإضافة إلى إيمانه القوي بالقضية الأساسية وهي طرد الاستعمار والاستقلال الوطني، وكل هذا «لعب دورا أساسيا في صقل شخصيته إلى غاية استشهاده». وقد استُشهِد زيغود يوسف في دوار عرب السطيحة التابع حاليا إلى مزاج دشيش والواقع في القطاع الذي كان معروفا لدى الاستعمار الفرنسي بـ «سانت شارل» وهو رمضان جمال حاليا، حيث وقع في ساحة الشرف عندما قدم إلى الدوار في محاولة لحل الخلاف الذي حصل على مستوى التنظيم الثوري بالدوار، وهو الخلاف الذي علمت به السلطات الفرنسية عندما عثرت على وثائق بشأنه يوم 13 سبتمبر 1956، ليستشهد زيغود يوسف بعد 10 أيام من ذلك على يد وحدة عسكرية فرنسية جاءت للمنطقة ونصبت كمينا مباغتا له عندما زار المنطقة، لذلك لم يتعرض الجنود الفرنسيون لخسائر، وكان ذلك يوم 23 سبتمبر 1956.
واستشهد زيغود يوسف ليبقى رمزا للمناضل والثوري الذي ضحى بنفسه من أجل تحرير الوطن، وقد كان متشبعا بالأفكار الوطنية ما جعله يلعب دورا أساسيا في الانتشار الفعلي للثورة في الشمال القسنطيني انطلاقا من منطقة السمندو، مثلما يختم المؤرخ علاوة عمارة.
ي.ب