نساء و أطفال و شيوخ يسردون حكاياتهم مع التشرد و الحرمان
أكبرهم سنا معاق حركيا في السبعين و أصغرهم يتيمة في الثالثة، و أكثرهم إثارة للدهشة «كوستا»، المثقف الحكيم الذي يتقن عدة لغات .. بعضهم ضحايا ظروف عائلية، كاليتم أو عقوق الأبناء أو تعنت الإخوة و الأقارب و مشاكل الميراث، و البعض الآخر أنهكهم الفقر و البطالة و التهميش، في حين سقطت فئة أخرى في قبضة الاضطرابات النفسية و العقلية أو الإعاقة، ليجمعهم في نهاية المطاف الشارع و الحرمان من دفء المأوى و العائلة و أبسط مستلزمات العيش الكريم، فأزاحوا الستار عن الوجه الآخر لليل قسنطينة الشتوي الممطر و البارد، بأناتهم و صرخاتهم و دموعهم، و حتى ضحكاتهم، و حكاياتهم التي سردوا للنصر جزءا منها.. رافضين في الغالب كل عروض التكفل بهم بديار الرحمة.
روبورتــاج/ إلهام طالب
بالمقابل تبرز بين ستائر العتمة و سيول المطر، جهود محسنين ، متطوعين و موظفين، أغلبهم ينضوون تحت لواء اللجنة الولائية لجمع الأشخاص دون مأوى في إطار برنامج «شتاء دافئ»، من أجل توزيع المساعدات و الوجبات الساخنة للعشرات من الفئات الهشة في ليالي الصقيع.
النصر توجهت على الساعة الخامسة و النصف تقريبا مساء يوم بارد، إلى مقر المديرية الولائية للضرائب و المالية بحي الكدية، ، و هناك اتصلنا بجمعية نسائم الخير الخيرية، التي حددنا موعدا مسبقا مع أحد أعضائها لمرافقة أفراد الجمعية في عملية توزيع الوجبات الساخنة و مختلف المساعدات على المعوزين و المتشردين عبر مختلف أحياء المدينة، و جاءنا رده صادما، «حدث طارئ في بلدية حامة بوزيان، و لن يتمكن الفريق من القيام بمهمته هذا المساء».
دون تردد، توجهنا إلى مقر المكتب الولائي للهلال الأحمر، و هناك وجدنا كل الترحيب ، و علمنا بأن موعد توزيع الوجبات الساخنة على السابعة ليلا بالكدية دائما.
عدنا أدراجنا إلى الكدية، و كان المطر يتهاطل بغزارة، و انخفضت الحرارة إلى أربع درجات مئوية، و بدأ الليل يرخي ستائره القاتمة على المدينة الطائرة بين السحاب و الضباب، و كان المارة القلائل يسرعون الخطى.. لا يزال أمامنا متسعا من الوقت قبل موعدنا مع متطوعي الهلال الأحمر، فقررنا أن نلقي نظرة على أزقة الحي، هذه المرة تكاد تكون خالية من عديد المتشردين و المتسولين الذين تعودنا على رؤيتهم هناك، يفترشون أرصفتها المغطاة بالأقواس.
محمد ابن غليزان
أتسـول لأجمــع مصــروف أبنــائــي
وحده الكهل محمد، 58عاما، لا يزال مرابطا صامدا، وجدناه جالسا فوق كارتون و كان نصف وجهه يدل على إصابته بمرض ما، قد يكون سكتة دماغية، أو ارتفاع شديد في ضغط الدم، فإحدى عينيه و فمه مائلين إلى الأسفل، كما أن ملابسه تبدو رثة بالية، لكنها سميكة.
بعد التحية سألناه عن حالته الصحية، فقال لنا بأنه استيقظ ذات صباح في شهر جانفي الفارط، فوجد ملامحه قد تغيرت و شعر بتعب شديد، لكن حالته تحسنت، حسبه، تدريجيا، لكنه يتمنى أن يفحصه طبيب و يصف له دواء ليشفى تماما.
و لم نلبث أن استفسرنا محمد عن أسباب تواجده هناك، فأخبرنا بشيء من الضيق و الانزعاج، بأنه قدم من مدينة غليزان منذ 16يوما، إلى قسنطينة لأول مرة في حياته، معربا عن ارتياحه بها، لأن سكانها طيبون و يقدمون له كل ما يحتاجه من مساعدات، مؤكدا بأن لديه الفراش و الأغطية و لا يشعر بالبرد بين البنايات و الأقواس التي تقيه من الأمطار و الرياح و لا شيء ينقصه هناك، كما قال.
و طأطأ المتحدث رأسه قليلا و انهمك في التفكير، قبل أن يشرح لنا بأنه أب لخمسة أبناء، أكبرهم عمره 17عاما، و هم حاليا في كنف والدتهم المطلقة، و اضطر لمغادرة مدينته ليجمع ما تيسر من نقود لتلبية احتياجات أبنائه، مشيرا إلى أنه كان عاملا في ورشات البناء، لكن مرضه منعه من مواصلة عمله الشاق، و أضاف بأنه كان يتوجه من حين لآخر إلى الجزائر العاصمة، لجمع بعض النقود من المحسنين، لكن هذه المرة قصد قسنطينة، و سيعود ، كما أكد، إلى مسقط رأسه بعد أسبوعين تقريبا.
و بخصوص سؤالنا عن أسباب عدم توجهه إلى ديار الرحمة، ليتم التكفل به إلى حين موعد عودته إلى غليزان، اكتفى المتحدث بالقول « ديار الرحمة تقع في جبل الوحش، و هي بعيدة عن وسط المدينة».
ندى و أختها
زهرتان في مهب الريح
تفترش زهرتان صغيرتان عتبة محل بنهج عبان رمضان، رفقة والدتهما التي تتخذ منهما، كما بدا جليا أمامنا، طعما لجذب و استعطاف المارة القلائل في ليل قسنطينة الشتوي، غير آبهة بالمخاطر التي تحاصرهن، و شفرة البرد القارس و الحاد التي تذبح أيادي الصغيرتين الممتدة نحو الجميع بكل حب و براءة و ترحيب.. للفوز ببضعة دنانير.. فتميطان اللثام عن جزء هش و مرعب من خبايا تلك الليلة .
بادرنا إلى التحدث إلى الأم التي كانت ترتدي هي و ابنتيها ملابس شتوية عادية، فقالت لنا بنبرة حزينة، بأنها تدعى حورية. و ، أرملة في 36 من العمر، فقدت زوجها منذ حوالي ثلاث سنوات، في حادث مرور، و كان يبيع الخضر على متن مركبة، فلم يترك لها بعد رحيله أي شيء لتعيل أبناءهما الثلاثة، أكبرهم صبي في التاسعة من عمره، و بنتين إحداهما في الخامسة و الأخرى في الثالثة من العمر، مشيرة إلى أن الأسرة كانت تقيم في بيت حماتها بالخروب، لكن بعد وفاة زوجها، غادرت حماتها المدينة نحو العاصمة لتقيم مع بناتها، فلم تجد مكانا تأوي إليه مع صغارها، فتوجهت إلى منزل والدها بعين عبيد، الذي كان يأوي رغم ضيقه عائلتين، كما أكدت، لكن والدها توفي منذ أيام، و تواجه حاليا مشكلا أكبر، على حد تعبيرها.
أضافت المتحدثة بأنها تقدمت بطلب للحصول على سكن اجتماعي في بلدية عين عبيد، سنة 2001 ، و لم تتلق لحد اليوم أي رد، كما أنها تتمنى العثور على عمل تسترزق منه، ليغنيها عن التسول في المقاهي .
سألناها عن مكان تواجد ابنها الثالث، فردت بأن ابنها البكر تركته عند زوجة أخيها لأنه كبير، و لأنها أدركت بأننا سنسألها لا محالة عن سبب اصطحابها لأختيه الصغيرتين، أضافت بسرعة و بشيء من التذمر «ليس لدي مكانا آمنا أترك فيه البنتين الصغيرتين، لهذا أحضرهما معي، و لا أستعملهما للتسول.
« ألم تتعرضن لأي مضايقات أو اعتداءات في الشارع؟ «، سألناها، فردت أم ندى، بأنها تمكث في الحي يوميا مع الصغيرتين من الصباح إلى العاشرة ليلا، دون أن يزعجهن أحد. هذا الجواب جر سؤالين «لماذا العاشرة ليلا، ألا تقضين الليل هنا؟» و «ألم تفكري في التوجه إلى ديار الرحمة؟»
ردت السيدة بشيء من الانفعال و التأثر « على الساعة العاشرة ليلا، تأتي سيارة أجرة لنقلنا إلى بيت المرحوم والدي في عين عبيد، مقابل 100 دج، إنني أبذل قصارى جهدي من أجل الاستفادة من سكن اجتماعي، و ليس ديار الرحمة».
توزيــع 60 وجبــة ساخنـــة
على السابعة و الربع عدنا إلى نقطة الانطلاق في الكدية، فوجدنا شاحنة الحماية المدنية، في انتظار التحاق بقية أعضاء اللجنة الولائية ، لتنظيم الخرجة التضامنية، ثم حضرت سيارة الهلال الأحمر و سيارة مصلحة المساعدة الاجتماعية الاستعجالية المتنقلة، التابعة لمديرية النشاط الاجتماعي للولاية ، و كذا ممثل عن البلدية ، إلى جانب ممثلين عن جمعيتين خيريتين، ثم التحق بنا، لاحقا رجال الأمن .
فتح متطوعو الهلال الأحمر الباب الخلفي للمركبة ، و شرعوا في سكب الوجبات الساخنة من القدر الحافظ للحرارة ، في علب خاصة، و هي عبارة عن أرز مطهو باللحم و الدجاج ، لتوزيعها على المتشردين و المعوزين عبر أحياء المدينة، مع علب ياغورت و مشروبات غازية و خبز ، في حين أحضر ممثل عن جمعية خيرية كمية معتبرة من الكسرة الساخنة، لتوزيعها في نفس الإطار.
توجه المتطوعون مباشرة إلى ابن مستغانم محمد، لتقديم وجبته الساخنة، و اقترح عليه أعوان الحماية المدنية نقله إلى المستشفى ليتم التكفل به من قبل الأطباء، و جدد الأخصائي النفساني التابع لمديرية النشاط الاجتماعي، عرضه له بنقله إلى ديار الرحمة، فرفض العرضين معا.
رافقنا المجموعة بعد ذلك، باتجاه نهج عبان رمضان، و بالضبط الجهة المغطاة منه، حيث وجدنا السيدة حورية و ابنتيها تنتظرن وجباتهن الساخنة، و غير بعيد منهن وقفت مجموعة من الرجال من مختلف الفئات العمرية، تتراوح ملابسهم بين الرثة و العادية، ينتظرون وجباتهم كالعادة .
ضحايا الخلافات العائلية و الميراث
تحدثنا إلى بعضهم على عجل، بينهم حسان. ب، 64 عاما، فقال لنا بأنه كان يعمل دهانا للمنازل، لكنه بعد أن خضع لعملية جراحية دقيقة منذ أربع سنوات، لم يعد يستطيع العمل. و ما زاد من معاناته، على حد قوله، وفاة أمه و تهميشه من قبل أقاربه، و فشله في الزواج و تكوين أسرة ، فوجد نفسه وحيدا دون مصدر رزق، فأصيب بانهيار عصبي .
و قال لنا آخر، في 65 من عمره، بأن أبناء عمه طردوه من المنزل العائلي بعد وفاة والديه، مشيرا إلى أن أحدهم وجه إليه ضربة قوية على مستوى الرأس في منتصف التسعينات، فنقل إلى المستشفى للعلاج، و مكث هناك مدة شهرين، و عندما خرج لم يتحمل تناول الدواء، فتوقف عن تناوله، مضيفا بأنه لا يملك مصدر رزق، و ينتظر مساعدة و دعم مصالح مديرية النشاط الاجتماعي و التضامن، و قد رفض الرجلان رفضا قاطعا التكفل بهما في ديار الرحمة، الذي عرضه عليهما مجددا، الأخصائي النفساني شوقي لكحل.
التقينا أيضا بنفس النهج ، بالكهل محمد. ح، الذي حضر هو أيضا لأخذ وجبته الساخنة، فقال لنا بأنه عمل في تمنراست 20 عاما، و عندما عاد إلى قسنطينة عمل في عديد الشركات، لكن ليس لديه شهادات عمل، ليتمكن من إثبات ذلك و الاستفادة ن منحة تقاعد ، مشيرا إلى أن دخله الوحيد الآن 5 آلاف دج، و يعيش في دكان بالرحبة يملكه أحد الخيرين، لا يتوفر على متطلبات العيش الكريم، لكنه أفضل من الشارع، على حد تعبيره، و أضاف بأن أكثر ما يحز في نفسه هو تخلي زوجته عنه و طلبها للتطليق، لتتمكن من الزواج من مقاول، و حرمانه من رؤية ابنه الوحيد طيلة 19 عاما.
باعة متجوّلون يشكلون طابورا..
قبيل بلوغنا المحطة الثالثة ، تضاعف تهاطل الأمطار، و نزل الزئبق بسرعة البرق، فتحولت ساحة أول نوفمبر بوسط المدينة، إلى مجموعة من البرك المائية، و رغم ذلك تشكل بسرعة طابور طويل أمام مركبة الهلال الأحمر التي توزع الوجبات الساخنة..و لاحظنا بأن بعض الذين يتسلمون وجباتهم، يتركون العنان لسيقانهم لتركض بهم بعيدا كالريح، في حين بادر أحدهم بفتح علبته في ركن بالساحة، ليقتل جوعه الضاري.. «لا مجال للتحدث إلى أشخاص، العديد منهم مرضى عقليا عنيفين، و قد بللهم المطر و قهرهم العوز و الصقيع، في مكان و زمان كهذا..» نصحنا الأخصائي النفساني.
و لاحظنا بأن بعض تلك الوجوه التي صوبت نحوها أنوار الأعمدة الكهربائية، معروفة، على غرار متسولين بوسط المدينة و باعة متجولين يعرضون عادة في النهار سلعهم البسيطة، كالمناديل و الجوارب، في ذات الساحة أو أمام البريد المركزي .
و أوضح لنا النفساني بأن أغلب «الباعة الصغار» اتخذوا من حمام عتيق برحبة الجمال، مرقدا لهم ، من بينهم شيخ معاق في السبعين يكلف شابا من نزلاء الحمام بإحضار وجبة ساخنة له كل ليلة، في حين يقضي آخرون لياليهم الشتوية في مختلف شوارع المدينة.
محرومون من المأوى يرفضون التنقل إلى ديار الرحمة
أضاف النفساني بأن اللجنة الولائية بدأت عملية توزيع الوجبات الساخنة و مختلف المساعدات على المعوزين و المحرومين من المأوى في 22 ديسمبر الفارط، مشيرا إلى أن الخرجات تكون في الغالب مرة واحدة ليلا ، مردفا بأنه تم العثور منذ بداية العملية إلى غاية اليوم ، على 18 مريضا عقليا بشوارع و أحياء المدينة ليلا، و يحاول كنفساني، بمعية بقية أعضاء اللجنة ، التحدث إليهم، لكنهم يكونون أحيانا في حالة هيجان شديد، و لا مجال لمحادثتهم، و إذا كانوا هادئين يرفضون الحوار و يلوذون بالفرار، خشية نقلهم إلى مستشفى الأمراض العقلية بجبل الوحش ، مشيرا إلى أن أعضاء اللجنة لا يتعرضون للاعتداءات، إلا في حالات نادرة.
و بخصوص سؤالنا عن أسباب رفض أغلب المحرومين من المأوى، نقلهم إلى ديار الرحمة، ليتم التكفل بهم بشكل كامل اجتماعيا و صحيا و نفسيا، رد المتحدث بأن القانون الداخلي للمؤسسة يلزم من يأوي إليها بعدم مغادرتها قبل السابعة صباحا و العودة إليها قبل موعد العشاء على السابعة مساء، و يبدو، كما قال، أن هذا التوقيت يزعج ، خاصة الملتزمين منهم بحرفة أو نشاط آخر، مشيرا إلى أنه ينجح في إقناع شخص أو اثنين في كل خرجة بنقله إلى هناك، في انتظار تسوية وضعيته.
كوستا مثقف يتقن عدة لغات
واصلت لجنة التضامن مسارها، كاشفة عن وجه آخر للمدينة الطائرة ، من أعلى جسر صالح باي، و هو وجه بهي ساحر يطل خلف الصخور الشامخة و المناظر الطبيعية و العمرانية الآسرة التي لفها الضباب ، و اخترقتها المصابيح الملونة.. وصلنا إلى نهج بركات لخضر في حي المنظر الجميل، توجه الجميع مباشرة إلى الفيلات الفخمة، فوجدنا تحت مكان مغطى في عتبة المرآب، أغطية نظيفة و فراشا كبيرا مرتبا، تمدد فوقه شيخ ملتح ذو هيبة و وقار، يذكرك بالمثل الشعبي « أولاد العز للدز»، حتى قبل أن تعرف حكايته الحزينة.
اقتربت منه و سألته عن أحواله، لم يحرك ساكنا في البداية، ثم وجه نحوي نظرات ثاقبة، و رسم على شفتيه ابتسامة عريضة، و قال لي « أوضاعي جيدة لاشيء ينقصني هنا، أنا أفكر بكم أنتم.. «، صمت هنيهة، ثم تلفظ بجملة بالإيطالية، لم يلبث أن شرحها لي «الحياة فوق.. هنا مجرد مخزن»، مضيفا بأنه لا فائدة من الكلام، و لا داعي للخوف، تشبثوا بالأمل، لأن كل شيء سيتغير إلى الأفضل، و ما دامت أمورنا بخير فهو بألف خير، على حد تعبيره.
أخبرنا بعض جيرانه الذين وجدناهم في عين المكان ، بأن اسمه سعيد.م، و اشتهر في الحي باسم «كوستا»، عمره 62 عاما، كان إطارا في البحرية و يعمل بمدينة سكيكدة، يتقن الرياضيات و عدة لغات من بينها الإيطالية و الألمانية و الإنجليزية و الفرنسية، و يحب التحدث إلى الناس و مناقشتهم في شتى الأمور، فثقافته، حسبهم، واسعة.
كوستا متزوج و أب لشابتين، انتقلت زوجته و ابنتيه للإقامة في الجزائر العاصمة و تخلين عنه تماما، كما تخلى عنه بعض أقاربه القاطنين بالحي، في حين احتضنه المحسنون ، و سمح لهم أحدهم بالإقامة داخل مرآبه ، لكنه رفض ذلك و اتخذ من عتبته مأوى منذ سنوات.
يعيش تحت جسر بين الجرذان و المجاري المائية
تركنا كوستا في أمان و سلام نفسي، و توجهنا إلى أسفل محطة المسافرين الشرقية، فهناك على ضفاف وادي بومرزوق و بين المجاري المائية و الجرذان ، وجدنا بلقاسم ع، جالسا وسط الأوحال في مكان شبه مظلم في وضعية مزرية، يدخن سيجارته ببطء و ينفث دخانها في وجه المطر، كان ينظر إلينا بارتياب و استغراب، و رفض أن يتحدث إلى أي واحد من أعضاء اللجنة، حاولت رغم كل شيء النزول للتحدث إليه، لكن قدمي وقعت على جرذ، فعدت أدراجي.
أخبرني الأخصائي النفساني أن بلقاسم في منتصف العمر، ينحدر من مدينة الحروش، و هو غير متزوج، كان يقيم مع إخوته المتزوجين و أسرهم في فيلا ورثوها عن والديهم ، لكن بمرور الوقت نشبت خلافات بينه و بين إخوته، فاضطر لمغادرة مسقط رأسه، و استقر منذ ثلاثة أشهر هناك، بعيدا عن الناس، مضيفا بأنه اقترح عليه عدة مرات نقله إلى ديار الرحمة، فرفض رفضا قاطعا،و يكتفي بتلقي المساعدات.
محطة المسافرين الشرقية مأوى المرضى
بمجرد دخولنا إلى قاعة الانتظار بمحطة المسافرين الشرقية، شدنا منظر شخص ممدد على كرسي و قد لف نفسه من رأسه إلى قدميه، في بطانية سميكة، فأخبرنا الأخصائي النفساني بأن اسمه عمار و بأنه معاق سمعيا، و يعاني من التهاب الكبد الفيروسي و داء السل، و قد اختار هذا المكان للنوم و الراحة، لأن الجميع يعرفونه هناك و يساعدونه و لا أحد يزعجه. و بادر متطوع بوضع وجبته أمامه دون أن يوقظه.
و غير بعيد عن عمار، كانت شابة في مقتبل العمر، تفترش الأرض و تتأملنا، اقتربنا منها فرحبت بنا بحرارة ، و أخبرتنا بأن اسمها شيماء هدوء و تنحدر من بريان بغرداية، والدها مجاهد و كانت تعلم النساء القرآن الكريم، و بأنها متزوجة و أم لأربعة أبناء يقيمون حاليا مع زوجها بالعاصمة ، ثم بدأت تتلفظ بكلام غير منطقي و حكايات تفتقد إلى أي رابط.. إنها تعاني من انفصام الشخصية «سكيزوفرينيا»
و لاحظنا بأن سيدة مسنة كانت جالسة على كرسي بالطابق الأرضي من المحطة، و بمجرد تقديم الوجبة لها ، انهمكت في الأكل، و أخبرنا النفساني بأنها مصابة بمرض عقلي و تصيبها نوبات هيجان شديدة من حين لآخر.
نورة و الذئاب ..
المحطة الأخيرة في خرجتنا رفقة اللجنة التضامنية، كانت محطة القطار بباب القنطرة، المكان المفضل للمعوزين و عابري السبيل و المحرومين من المأوى، فالأغلبية في انتظار قطار العاشرة، كما علمنا من أعوان المحطة، فهذا القطار يوفر لهم الرحلة و المبيت المريح و الآمن مجانا، ثم العودة لمن شاء في اليوم الموالي.
بمجرد دخولنا وجدنا شابا في العقد الثالث، يتحدث باللهجة العاصمية، أخبر أعضاء اللجنة بأنه يعمل كبناء في المدينة الجديدة علي منجلي، و بحاجة ماسة إلى مرتبة و أغطية ليبيت في المسجد، فوعدوه بتوفيرها له، و وعده ممثل جمعية خيرية بنقلها إليه في اليوم الموالي.
بقاعة الانتظار لفت انتباهنا مجموعة من الرجال من مختلف الفئات العمرية ، أنظارهم مشدودة نحو امرأة شابة، كانت جالسة فوق كرسي تغطي ركبتيها بغطاء خفيف، و ترتدي ملابس بالية لم تكن لتقيها من البرد القارس تلك الليلة، اقتربنا منها ، فاستقبلتنا بابتسامة و دعتنا للجلوس، فاضطر أحد الجالسين للانسحاب و لحق به الثاني، و بدأ الآخرون في التراجع من مواقعهم و الانتظار..
قالت لنا الشابة بأن اسمها نورة .ب ،عمرها 40 عاما، و مطلقة، تنحدر من ولاية أم البواقي، كانت تقيم في البيت العائلي و في أحد الأيام خلال سنة 2001 قرر شقيقها أن يبيع البيت و طردها منه، لكنه احتفظ بأمه لتقيم معه، لأنها تتقاضى منحة بالعملة الصعبة من فرنسا. و بدأت نورة حياة الضياع و التشرد، عندما طردت من ديار الرحمة في أم البواقي، حسبها، و لم تجد مكانا يأويها أو عائلة تخاف عليها من ذئاب الشوارع، و بدأت تتنقل من ولاية إلى أخرى ، و كلما قصدت مركزا تطرد منه، على حد قولها، فالتفت حولها أخوات متسولات بوهران، و أرغمنها على التسول و إحضار النقود إليهن، و إلا تتعرض للضرب المبرح.
و أكدت لنا بأنها تعرضت لكل أنواع «الحقرة» و الاستغلال و الاعتداءات، و حضرت اليوم إلى قسنطينة على أمل أن تجد طوق نجاة، لأنها لم تعد تتحمل حياة الشوارع .
سألتها إذا كانت ترغب في التوجه إلى ديار الرحمة ، فرحبت بالفكرة و تم نقلها فورا من قبل فرقة مصلحة المساعدة الاجتماعية الاستعجالية المتنقلة.. كانت عقارب الساعة تشير إلى العاشرة و 15 دقيقة ليلا .
مديرة النشاط الاجتماعي لولاية قسنطينة
الوجبات الساخنة تموّلها الولاية
اتصلنا بمديرة النشاط الاجتماعي لولاية قسنطينة السيدة سامية قواح، فأوضحت لنا بأن الولاية هي التي تشرف على تمويل الوجبات الساخنة التي توزع على المعوزين و المتشردين خلال خرجات اللجنة الولائية لجمع الأشخاص دون مأوى، في إطار برنامج «شتاء دافئ «، و قد خصصت للعملية في الفترة 2018 و 2019 مبلغ 3 ملايين دج، و ذلك إثر لقاء جمع قبل شهور المديرة بوالي الولاية و مسؤول مكتب الهلال الأحمر بقسنطينة، الذي طرح انشغالاته في ما يخص مشكل التمويل.
و أضافت المتحدثة بأن نشاطات اللجنة تمتد على مدار السنة و يتم تكثيفها في الشتاء ، في الفترة بين 22 ديسمبر إلى غاية أفريل المقبل، لتشمل إلى جانب التكفل الاجتماعي و النفسي و المادي ، توزيع وجبات ساخنة على المعوزين و المحرمين من المأوى ليلا ، يتم تحضيرها من قبل مكتب الهلال الأحمر بقسنطينة، مشيرة إلى أن نشاطات اللجنة تدرج ضمن مهام وزارة التضامن، و يشرف عليها والي قسنطينة ، في حين تترأسها مديرة النشاط الاجتماعي و تتكون من ممثلي الحماية المدنية و الهلال الأحمر و مصالح الأمن و الصحة و البلدية و مصلحة المساعدة الاجتماعية الاستعجالية المتنقلة التابعة لمديرية النشاط الاجتماعي التي تضم أخصائي نفساني مهمته الأساسية إقناع الأشخاص دون مأوى ، بنقلهم إلى ديار الرحمة ليتم التكفل الكامل بهم، في انتظار إجراء تحقيق اجتماعي حول كل حالة و محاولة الإدماج العائلي أو التوصل إلى حل آخر مناسب.
و تابعت المسؤولة بأنها تلقت مؤخرا مراسلة مفادها دعم اللجنة بعناصر من قطاع الصحة مهمتهم جمع المرضى عقليا أثناء الخرجات التضامنية، و نقلهم إلى المستشفيات المختصة للتكفل بهم، و قد وجهت تعليمات للمستشفيات بهذا الخصوص، للحد من تشرد و ضياع و تفاقم وضعية هذه الفئة.
و أوضحت المكلفة بالاتصال بالمديرية من جهتها، بأنه منذ انطلاق عمل اللجنة في إطار برنامج «شتاء دافئ» إلى غاية اليوم، تم نقل 3 مرضى عقليا إلى مستشفى جبل الوحش للتكفل بهم، و نقل شخص مصاب بالغرغرينا إلى مستشفى بن باديس الجامعي، في حين استفاد 11 شخصا دون مأوى من تدابير ديار الرحمة، هم سيدتان و طفل و 9 رجال، إلى غاية انتهاء التحقيق الاجتماعي لمحاولة دمجهم في محيطهم العائلي و تسوية وضعيتهم، و بالمقابل تم توزيع ألفين و 800 وجبة ساخنة على المتشردين و المعوزين.
إ/ط