لن تهنأ الإنسانيّة بعائدات التطوّر العلمي الذي يفترض أن يساعد في حلّ المشكلات ويجعل الحياة أيسر وأحلى، لأنّها ببساطة لم تتخلّص من صفة تلازمها منذ مرحلة سحيقة من مراحل التطوّر، ويتعلّق الأمر بنزعةٍ عدوانيّة بدائيّة تسكن الجماعات والأفراد، لم تنجح الفلسفات والأديان في تهذيبها، حيث ظلّت الرغبة في السيطرة والاستحواذ مرافقة للإنسان في انتقاله الشّاق من الغابة إلى المدينة، و يمكن أن يفسّر ذلك الحروب التي لا تتوقّف وجشع أغنياء كوكبنا وطمعهم في خبز الفقراء.
ويشكّل تقدّم "مُفترسين" إلى مواقع قياديّة في أمم متطوّرة لطالما كانت تدل غيرها على الطريق، ردّة حقيقيّة لمانحي الدروس والوكلاء المزيفين لقيّم العدالة والحقّ قبل غيرهم، وأخطر من الردّة مجاراتها في خطاب تبريري يسوّق له "مفكرو" الميديا الموكلين بتدبير مخارج عقلانيّة لسيّاسات شيطانيّة، مرحبًا، إنّنا في عصر ظلماتٍ جديد، يلبسُ فيه الباطلُ ثوبَ الحقِّ من دون خجلٍ ومن دون اعتراض، إنّها "الواقعيّة القذرة" وقد استعارها الواقع من الفنّ في لعبة مرايا مثيرة للأعصاب، غايتها تزييف الواقع وليس تصويره كما هو، ويمكن أن نلمس ذلك في مساهمات فلاسفة الخراب الذين أصبحوا يشيدون علنًا بقتلة الأطفال ويدبّجون أطروحاتٍ مُمجدة لمتطرّفين يريدون الانفراد بتدبير شأن البشرية والاستئثار بغلال الكوكب، ونجحوا في بعث فلسفة القوّة وتحويلها إلى نمط حياة.
ومن الإجحاف، هنا، إغفال الأدوار التي يلعبها المقاومون للتيّار، سواء بمناهضة السيّاسات الجائرة أو فضحها، وسعيهم لحماية البشر والأرض من الإبادة والتدمير، ما يمكّن من تقليص حجم الأضرار، حتى وإن تعلّق الأمر بمحاولات يشوبها اليأس، لأنّ الأمر يتعلّق بمواجهة آلة متعدّدة الرؤوس يديرها حمقى بلا وازع ولا رادع.
لذلك، من الأهميّة عدم الانسيّاق وراء السرديات الرائجة التي تسعى لترسيخ الواقع الجديد والمزيّف بتعميم وفرض قبوله، وبناء سرديّات مُضادة ترفض التفريط في الميراث الأخلاقي، يمكن أن يكون تأثيرها إيجابيا بمرور الزمن، بما يسمح على الأقل بتأجيل الكارثة.
سليم بوفنداسة
تحوّل الملياردير الأمريكي إيلون ماسك إلى كابوسٍ حقيقيٍّ يُؤرّق ساسةً وصنّاعَ قرارٍ في أوروبا، وفق ما يُستنتج من مواقف الانزعاج من تدخلاته في السيّاسات الداخليّة التي بدأت في التواتر، خصوصًا وأنّ الرّجل الموكل بتخليصِ الولايات المتحدة من البيروقراطيّة في عهدة ترامب الثّانية، لا يتردّد في توجيه سهام النّقد للقادة الأوروبيين بل وحتى في وصفهم بالمجانين والحمقى، بل إنّه تحوّل إلى لاعبٍ يُحسب له ألف حسابٍ في القارة العجوز التي تُواجه إلى جانب أزماتها الاقتصاديّة تراجعًا سيّاسيًا يُترجمه ضعف تأثيرها، حيث استغل حظوته كمالك لمنصّة "إكس" وكعضو في هيئة أركان العائد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب، في الدّفع بالقارة نحو أقصى اليمين من خلال التأثير في العمليّات الانتخابيّة أو الانتقادات العلنيّة لبعض السيّاسات، كما فعل مع حزب العمال البريطاني منذ وصوله إلى السلطة سواء بتبشير المملكة المتحدة بحربٍ أهليّة أو وصف حكومتها بالاستبداد وإطلاق نعوتٍ مشينة على الوزير الأول، وكذلك فعل مع المسؤولين الألمان قبل أن يعلن دعمه لحزب البديل المتطرّف الذي يرى فيه المنقذ لأغنى بلدان القارّة، فضلا عن سُخريته من آليّة التفويض في الاتحاد الأوروبي التي اعتبرها غير ديمقراطيّة.
ويعكس الخوف من ماسك توجسًا من توجّه أمريكي لإعادة النّظر في أوروبا بعد تركيعها اقتصاديا في حال نفّذ الرئيس وعيده برفع الرسوم على الواردات، وهو ما يعني أنّ أوروبا التي بُعثت بمشروع مارشال قد تُخنق بيد مُرضعتها، في عهد مليارديرات يريد كبيرهم امتلاك الأرض والفضاء من خلال مشاريع تكنولوجيّة "مجنونة"، لا تُمكّن من التحكّم في العالم فحسب ولكنّها تعيد تعريف الحياة بطرح بديل للإنسان يفوقه ذكاءً وفعاليّة.
ويحيل الدور المتعاظم لمالك "تسلا" و"سبيس إكس" الذي تحوّل إلى "نبيّ جديد" والتطلّع الحذر إلى ما سيكون عليه العالم في السنوات القليلة القادمة، إلى نهاية عصرٍ بموت الأفكار و السرديّات التي كان يتغذى عليها بما في ذلك الديمقراطية التي تعرضت للاختزال، ودخول مرحلة جديدة، تقوم على "التأثير" كبديلٍ لكل اليوتوبيات والقوّة التي لم يتخلّص منها الإنسيّ في سلسلة تطوّره وتسلّقه لشجرة الحضارة، ولعلّ ذلك ما دفع ماسك إلى القول عشيّة تنصيب ترامب، بأن فوز حليفه ليس سوى"بداية تغيير كبير سيجعل أمريكا أقوى لقرون وربما إلى الأبد"!
سليم بوفنداسة
ظلّت الثقافة على الدوام من أدوات الهيمنة التي تستخدمها قوى استعمارية، في آلية فكّكها إدوارد سعيد وشرّحها فرانز فانون، و نالت اهتمامًا في الدراسات التي تناولت الكولونياليّة وما بعدها، وإذا كان الاستخدام الإمبريالي للثقافة قد استهدف البُنى الاجتماعيّة والنفسيّة للشعوب المستعمرة، فإننا نشهد اليوم محاولات يائسة لإعادة تشغيل آلة صدئة، في الحالة الفرنسيّة تحديدا، حيث يسعى صنّاع القرار إلى استخدام الثقافة في الحروب الجديدة، بعد الانتفاضة الثانيّة لأبناء الجنوب ضدّ هذا البلد.
والفرق بين الحالتين، هو أنّ الاستخدام الأوّل كان عبر اللّغة و أنظمة التّعليم، ما ضمن للهيمنة حياة ثانيّة بعد الجلاء العسكري، أما في الحالة الثانيّة فإنّنا أمام استخدام سيّاسي وإعلامي آني يفتقر إلى العمق و يتمظهر في أشكال سطحيّة و وقحة على منصّات اليمين المتطرّف ومنابر عموميّة، تعتمد التصريحات المستفزّة والصادمة في التعاطي مع الشّأن الجزائري، ولجأت إلى صناعة كتّاب (كاتبين) بأقنعة جزائريّة ونظام تشغيل فرنسي، وظيفتهم الأساسيّة شتم بلد المنشأ وامتداح بلد الانتساب، كما يفعل كاتب الغونكور الذي تحوّل في فترة قصيرة من كاتب روايات إلى مختصّ في العقل الجزائري يُقيم في بلاتوهات التلفزيونات و استيديوهات الإذاعات، ليس لمناقشة فنّ الرواية ولكن للحديث عن الجزائر!
ويحيل تحليل بسيط لوضعيّة الكاتب الذي يشتغل في مجلّة يمينيّة وينشر في دار يمينيّة ولا يتردّد في هجاء اليسار كما يفعل مع بلده، أنّ الأمر يتعلّق بكاتب "أسير" يمكن اعتماده كعيّنة في دراسات ما بعد الكولونياليّة أو الدراسات التي تتناول الخطاب والممارسات النيوكولونياليّة، باعتباره نموذجًا في العبوديّة الطوعيّة، جرى توظيفه مقابل "مجدٍ سريعٍ" يُلبي حاجة باتولوجيّة فرنسيّة إلى خصمٍ يذلّ نفسه، وهي وضعيّة يمكن فهمها إذا أخذنا في الحسبان الميول المُعلنة والمُضمرة للطبقة السيّاسيّة الجديدة في فرنسا!
فالكاتب الذي يبدو حرّا في الحديث عن بلده، ويقدّم نفسه كهاربٍ من القيود السياسيّة والاجتماعيّة، ويرى فرنسا كخلاصٍ، لا يدري أنه استبدل القيود التي يتحدّث عنها بسوار الكتروني، يمكّن السّادة الجدد من مراقبة موجات انفعالاته لتقدير"التّقييم" المناسب، وبالطّبع فإن حريّة الكلمة لن تتجاوز الحدود التي يرسمها اليمين المجنون واللّوبي سيء الذكر.
أن تكون كاتبًا حرًّا، يعني أن تكون كذلك حيثما وليت وجهك وأن تكون أنت في كلّ مكان، لأنّ الحريّة لا تعني وضع اليدين في قيْدٍ جديدٍ أو استبدال وجهٍ قديمٍ بقناعٍ.
سليم بوفنداسة
غادر بوداود عميّر فجأة، بعد أن لمّح إلى غيّابٍ مُؤقّت اتقاء شرّ مُنتحلٍ سرق هويّته، قبل أن ينجح الأصدقاء في طرد المُنتحل، لكنّهم فشلوا في استبقاء الكاتب الحقيقي.
يعرف بوداود عميّر الفرق بين الحقيقيّ والمزيّف، لذلك فضّل أن يكون مُخلصًا لما هو عليه، وللعين الصّفراء التي لم تعد بفضله وبفضل أصدقائه المبدعين، مدينة منسيّة، و انتبه إلى الجوهريّ واختار أن يكون إيجابيًا يعرض الجمال ويضيء تجارب الآخرين بروح سمحة لا تُدين ولا تُحاسب، وتكتفي بانتقاء البديع والاستثنائي لتشاركه مع الآخرين، بل إنّه كثيرًا ما نبّه إلى المنسيّ والمُغفل في ثقافتنا المتعدّدة، وإلى الإصدارات الجديدة للكتاب الجزائريين وإلى الدور الجوهري للإبداع في حياتنا، كما كان يلحّ على ضرورة الانفتاح على الثقافات الأخرى للوقاية من أمراض الانغلاق، لذلك كان يدل قراءه على المجلات والملاحق الرّصينة، ويتطوّع بترجمة ملخصّات وافيّة لملفّات إعلاميّة يراها ذات فائدة.
لم يكن بوداود عميّر كاتبًا فقط، بل كان مؤسّسة ثقافيّة لا تكلّف المجموعة الوطنيّة سنتيمًا واحدًا، يكتب ويُترجم وينخرط في المشاريع الجادة، تسبقه الطيبة والتواضع والحياء.
لهذا سيكون اختفاؤه خسارة غير قابلة للتعويض، خصوصًا في هذا الظرف العصيب الذي غطّت فيه السطحيّة على التجارب الحقيقيّة، بل و تراجع فيه الوعي بأهميّة الثقافة، في ظل انتشار قيّم السوق وتكفّل وسائل التواصل بتصريف المكبوتات الاجتماعيّة، بشكل خلق "نماذج" جديدة ومبتذلة أصبحت قدوة الأجيال التائهة في الغابة الزرقاء.
سنفتقد هذا المثقف الاستثنائي، في الصحافة، وهو الذي لم يكن يتأخّر أمام كلّ دعوة إلى الكتابة، كما سنفتقده في صفحته التي كانت فضاء للأدب والمعرفة، ستفقده العين الصفراء التي استعاد تاريخها وأبقاها في الوجدان، وستفتقده الجزائر التي تحتاجُ إلى كلّ مبدعيها الحقيقيّين الذين يكتفون بما يبدعونه ولا يبيعون ولا يُطالبون ولا يُقايضون.
سليم بوفنداسة
بيّنت الأحداث الأخيرة، التي استخدم فيها طرفٌ أجنبيٌّ، كاتبين جزائريين ضدّ بلدهم الأم، في حرب سيّاسية وإعلاميّة واضحة المقاصد، ضرورة الاهتمام بالثقافة والمثقّفين الحقيقيّين، وخلق مناخٍ يساعد المُبدعين على البروز والانتشار وتحصيل الاعتراف و الرّفاه داخل بلدهم.
ويتطلّب هذا المُناخ، إلى جانب ضمان حريّة الإبداع وأخذ الكلمة، إقامة صناعة ثقافيّة قادرة على التأثير والاستقطاب، في مجالات الكِتاب والسّينما والمسرح والتّشكيل والموسيقى...صناعة تجعل من الجزائر قطبًا ثقافيًا يُغني مُبدعيها عن طلب المجد في الشّرق وفي الغرب، ويحتضن المبدعين الأفارقة والعرب، خصوصًا مع توفّر قاعدة ومقدرات و تنوّع ثقافي وحيويّة جيلٍ جديدٍ مولع باستخدام المكاسب التكنولوجيّة في مشاريع لا تحقّق عائدات ماليّة فحسب، ولكنّها تمنح فرصة للمحتوى الثقافي الوطني للتّواجد في المتحف الالكتروني الكوني.
ويحتاج تحقيق ذلك، قبل وضع الإمكانيات الماديّة، إشاعة بيداغوجيّة سليمة عن الفنّ والإبداع للقطع مع ظاهرة شَيْطنة المُبدعين وتكفيرهم والتّقليل من شأنهم، وهو السّلوك الذي تخلى عنه منتجوه، بعدما اكتشفوا أنّ الثقافة هي العنوان الذي لا تخطِئه العينُ في كلّ نهضة.
ويبدو من الضروري أيضًا عدم الاعتماد على "طبقة" ريعية تقف منذ عقودٍ على أبواب المؤسسات الثقافيّة، زادها إبداع ركيك ومواقف مداهنة، وفتح الأبواب لمن لا يقفون عندها ولا يفكّرون في طرقها، لأنّ الإبداع الحقيقي ينمو في الهامش وفي الظلام، بعيدًا عن صخب المهرجانات، والمُبدع قويٌّ بإبداعه أولًا، وليس بالخطاب الذي ينتجه خارج العمليّة الإبداعيّة.
بالمختصر، فإنّ "تراكم الجودة" هو الذي يصنع قوّة الأمم ويعلي من شأنها، ولا تنفعُ رداءةَ المنتوج طيبةُ صاحبه وامتثالهُ للنواميس الاجتماعيّة وتقاليد الطاعة التي تجافي النقد.
وبقدر ما يعزّز ازدهار الثقافة، الذّات ويمنحها الثقة والمناعة، بقدر ما يُضعف مفعول الحروب النّاعمة التي تستهدفها، ويحمي أبناءها من "التيه" والتماهي مع الآخرين، والضّياع في طلب المجد والجوائز، كما هو حال المذكورين أعلاه أو الذين لم يأت ذكرهم، و هو وضع يدعو إلى الشّفقة والحزن، قبل أن يكون سببًا للغضب!
سليم بوفنداسة
شاخ الوقتُ حولها لكنّها ظلّت في مقتبل الصّبا تسقي الدهشة وتشيعها، لأنّ المنادي الذي نادى النّاس حتى يكبروا نسيّ أن يناديها وتركها صغيرةً تلهو على سطح الجيران، وربما لأنّها فرّت من الدّرب الذي تمضي فيه الأعمارُ إلى منتهاها، مُنتصرة لطفولةٍ أبديّة هي خلاص العالم من بطش الوحوش التي تعذّبه بأنانياتها وحروبها وعطشها إلى الدم.
مرّت حروبٌ وسقطت مدائن كثيرة وتكرّر الشّتاء عشرات المرّات، وتعاقبت أجيالٌ على مسرح الحياة، لكنّها بقيت ثابتةً على السّطح وفي الأرواح وفي الصباحات و المساءات، تنادي الغائبين الذين ركبوا عربات الوقت وهربوا تاركين ضحكات أبنائهم منسيّة على الحيطان و ترشدُ أيتام الوقت إلى ملاجئ آمنة وتهدهد المُؤرَّقين من فرط الحبّ كي يناموا!
كأنّها أبديّة، كأنّها دواء كلّ الأوقات، بل هي الرفيقة في كلّ مراحل العمر. أمسكت الخلاصات وألقت بها في أثير الكون مُجوّدةً.
كأنّها تولد الآن و يولد معها كلّ من يسمعها من جديد.
في التّسعين، تبدو فيروز كمن بدأ قبل قليل، لأنّها حقيقيّة ولأنّها علامة في عصر لا علامة فيه، لذلك أُشعلت لها الشّموع في عيدها، و زيّنت طيلة أسبوع هذا السديم الإلكتروني الذي غزته نجومٌ سريعةُ الأفول.
صحيحٌ أن جراح الرّقعة التي يتمدّد فيها صُوتها عميقة جدا، وقد تزاحمت الأقدام الهمجيّة على دوسها، وتراجع أنصار الحقّ، فيها، أمام جيوش الباطل.
غير أنّ صوتها لازال يصون المأساة لينبّهنا إلى أنّها لن تصدأ ولن تتقادم ويُشير إلى الحياة الثمينة التي يسرقها الوقت و يسرقها اللّصوص.
وهي ضروريّة أيضًا، لأنّها صوتٌ يُحرجُ خطابات الخيّانة التي يجري تكريسها عربيًّا، في إعلام مضلّل وفي أطروحات نُخبٍ، صارت ترى في إعجاب قتلة الأطفال بها مفخرة ولا تخجل من رمي كلّ مجاهر بالحقّ بالحجارة. وهي ضروريّة، لأنّها جعلت بلدها الصّغير كبيرًا على مُمزّقيه وعلى المتآمرين وعلى المنتقمين الذين ضاقوا بما كان يمثّله وبالحريّة التي اقترحها في محيط لا تلائمه الحريّة.
كانت فيروز و ستظلّ نشيد الحياة وصرخةً في وجوه أعدائها.
سليم بوفنداسة
يصعبُ توقّع ما ستكون عليه الحياة بعد سنوات قليلة، نتيجة التدخّل المفرط للتكنولوجيا فيها، الذي لا يتوقّف تأثيره على تغيير مظاهرها فحسب، بل على الإنسان ذاته الذي سيجد نفسه مضطرا للتكيّف مع نمط الحياة الجديد والتفريط في عاداتٍ سحيقةٍ اختزنها لاوعيه وظلّت تُدير سلوكه لقرونٍ وتبنّي ردود أفعالٍ جديدةٍ، في تفاعل مع المؤثّرات التي تُهاجم جهازه العصبيّ قصد الاستيلاء عليه.
لن يتربى الأطفال "في عزّ" الآباء والأجداد، بل على ما يصمّمه تجّار البرمجيّات، وما يلقي به سكّان الكوكب في الفضاء الأزرق. فإذا كان عدد المُنصرفين اليوم إلى هواتفهم من الكبار الذين عرفوا الهواتف الذكيّة متأخرين، في تزايد و يكفي للتأكد من ذلك، إحصاء عدد المُقهقهين على "الريلز" في الفضاءات العامة! فإنّ الأجيال التي تنمو مع الأجهزة الذكيّة والروافد التكنولوجيّة المختلفة، ستخضع لتنشئات مُتداخلة، وستنتجُ ثقافة جديدة في السنوات التي ستلي سنواتنا الهجينة هاته، بمعنى أنّنا سنكون أمام إنسانٍ "عالميّ"، باهتمامات وطموحات قد لا تستوعبها المُقترحات التي يجود بها الواقع.
ستتغيّر أنماط العيش ومفاهيم العمل، التي بدأت فعلًا في التحوّل، مع عائدات النشاطات الجديدة التي تفوق أحيانا مداخيل سنوات عمل، وهو معطى أثّر في بعض القيّم المتوارثة، والعائلات التي ترقص في التيك توك لجني المال، خير مثال على ذلك.
لكلّ ما سبق يبدو كلّ حديثٍ عن المحافظة على الخصوصيّة والثقافة المحليّة، مجرّد أمل، ما لم يقابله إنتاج وحضور ومحتوى شائع وقادر على التأثير لمكوّنات هذه الثقافة على المسرح الكوني.
ولا ينفع البكاء أو الصراخ أو الشكوى من أثر التفاهة على القيّم، بل يتطلّب الأمر استخدام مكاسب التكنولوجيا في إدارة الحياة واستغلالها في التموقع ، بل وغرس "أشجار إلكترونيّة" إسهاما في حضارة لا تنتظر المتخلّفين، من خلال تصميم برمجيّات ومنح المنتوج الثقافي فرصة البقاء في البيئة الجديدة كي يصبح قابلا للاستدخال ومتاحا للتماهي.
وقبل ذلك يجب الاستماع إلى المختصّين في حقول الاجتماع والمعرفة الذّين يشتغلون على التحوّلات الجارية، لأنّ اكتساب التقنيّة لا يكفي "للبقاء"، بل يتطلّب الأمر فهم ما يحدث من خلال دراسته، بعيدا عن الانبهار أو الخوف.
سليم بوفنداسة