لن تهنأ الإنسانيّة بعائدات التطوّر العلمي الذي يفترض أن يساعد في حلّ المشكلات ويجعل الحياة أيسر وأحلى، لأنّها ببساطة لم تتخلّص من صفة تلازمها منذ مرحلة سحيقة من مراحل التطوّر، ويتعلّق الأمر بنزعةٍ عدوانيّة بدائيّة تسكن الجماعات والأفراد، لم تنجح الفلسفات والأديان في تهذيبها، حيث ظلّت الرغبة في السيطرة والاستحواذ مرافقة للإنسان في انتقاله الشّاق من الغابة إلى المدينة، و يمكن أن يفسّر ذلك الحروب التي لا تتوقّف وجشع أغنياء كوكبنا وطمعهم في خبز الفقراء.
ويشكّل تقدّم "مُفترسين" إلى مواقع قياديّة في أمم متطوّرة لطالما كانت تدل غيرها على الطريق، ردّة حقيقيّة لمانحي الدروس والوكلاء المزيفين لقيّم العدالة والحقّ قبل غيرهم، وأخطر من الردّة مجاراتها في خطاب تبريري يسوّق له "مفكرو" الميديا الموكلين بتدبير مخارج عقلانيّة لسيّاسات شيطانيّة، مرحبًا، إنّنا في عصر ظلماتٍ جديد، يلبسُ فيه الباطلُ ثوبَ الحقِّ من دون خجلٍ ومن دون اعتراض، إنّها "الواقعيّة القذرة" وقد استعارها الواقع من الفنّ في لعبة مرايا مثيرة للأعصاب، غايتها تزييف الواقع وليس تصويره كما هو، ويمكن أن نلمس ذلك في مساهمات فلاسفة الخراب الذين أصبحوا يشيدون علنًا بقتلة الأطفال ويدبّجون أطروحاتٍ مُمجدة لمتطرّفين يريدون الانفراد بتدبير شأن البشرية والاستئثار بغلال الكوكب، ونجحوا في بعث فلسفة القوّة وتحويلها إلى نمط حياة.
ومن الإجحاف، هنا، إغفال الأدوار التي يلعبها المقاومون للتيّار، سواء بمناهضة السيّاسات الجائرة أو فضحها، وسعيهم لحماية البشر والأرض من الإبادة والتدمير، ما يمكّن من تقليص حجم الأضرار، حتى وإن تعلّق الأمر بمحاولات يشوبها اليأس، لأنّ الأمر يتعلّق بمواجهة آلة متعدّدة الرؤوس يديرها حمقى بلا وازع ولا رادع.
لذلك، من الأهميّة عدم الانسيّاق وراء السرديات الرائجة التي تسعى لترسيخ الواقع الجديد والمزيّف بتعميم وفرض قبوله، وبناء سرديّات مُضادة ترفض التفريط في الميراث الأخلاقي، يمكن أن يكون تأثيرها إيجابيا بمرور الزمن، بما يسمح على الأقل بتأجيل الكارثة.
سليم بوفنداسة